لم يقتنع عناصر التدخل السريع التابعون لجهاز الشرطة، بمضمون الاتفاق الذي تم التوصل إليه مساء الثلاثاء، بمدينة غرداية (600 كلم جنوب العاصمة) بين وزير الداخلية والجماعات المحلية الطيب بلعيز، والمدير العام للأمن الوطني عبد الغني هامل، من جهة، وبين ممثلي المحتجين، في مدينة غرداية، من جهة ثانية. فقد تفجرت أحداث شغب بين العرب والبربر يوم الاثنين قرب غرداية التي تبعد نحو 600 كيلومتر عن العاصمة، وقتل شخصان وأحرق عدد من المحال التجارية. غير أن ظروف العمل دفعت ضباط الشرطة بالمنطقة إلى تنظيم مسيرات احتجاجاً على ظروف التعامل مع أحداث العنف. ويسكن مدينة غرداية عرب وبربر من بني مزاب. والمنطقة مسرح معهود للاشتباكات التي يتسبب فيها صراع على الوظائف والمساكن والأراضي. واندلع عنف مماثل في المنطقة العام الماضي أوقع خمسة قتلى على الأقل. ومن المرجح أن تتسبب احتجاجات رجال الشرطة في انفلات أمني في وقت يتجنب فيه الجزائريون الاضطرابات والقلاقل بعد حرب التسعينات بين الجيش والإسلاميين التي قتل خلالها 200 ألف شخص. ولا تزال قوات الأمن في الجزائر تقاتل فلول تمرد مرتبط بتنظيم «القاعدة» ويقع عليها منذ ثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر عبء احتواء أي قلاقل اجتماعية. وقد نقل المئات من عناصر الشرطة احتجاجهم إلى قصر الرئاسة في حي المرادية، كاشفين عن 19 مطلبا، يأتي على رأسها، رحيل المدير العام، اللواء عبد الغني هامل، وتأسيس نقابة مستقلة لقوات الشرطة. وردد المحتجون عددا من الهتافات والشعارات منها، «يا للعار يا للعار حكومة بلا قرار»، و«الشرطة تريد هامل يروح (يرحل)، و(هامل ارحل)، و«لن نعود إلى العمل حتى يرحل هامل»، كما رددوا النشيد الوطني الجزائري. فيما ظلت مروحية تحوم فوق قصر الرئاسة، وأحاطت العشرات من شاحنات مكافحة الشغب، بالمدخل الخلفي لمقر الرئاسة مما سبب اختناقا في حركة المرور. وفيما لم يفلح، وزير الداخلية، في إقناع المحتجين بالتعهدات التي التزم بها من أجل عودة المحتجين إلى مقرات عملهم وإنهاء الاحتجاج غير المسبوق لرجال الأمن في الجزائر، واجهت الحكومة تحديات صعبة، في تأمين ملعب مصطفى تشاكر بمدينة البليدة، الذي احتضن مباراة المنتخب الجزائري لكرة القدم ضد نظيره المالاوي، ضمن تصفيات كأس أمم أفريقيا 2015، بعدما انسحبت الوحدة التي كان مقررا أن تقوم بتأمين المقابلة، والتحاق عناصرها بزملائهم المحتجين في العاصمة. وكان المحتجون قد قضّوا ليلة بيضاء أمام قصر الحكومة وسط العاصمة، مصممين على الصمود في مواقعهم إلى غاية تحقيق مطالبهم، لينقلوا احتجاجهم في الصباح إلى قصر الرئاسة بالمرادية. وأكد أحد المحتجين أن «عناصر الشرطة مستمرون في اعتصامهم إلى غاية تحقيق مطالبهم». وأضاف «لا يهمنا قضاء ليلة أو ليال بيضاء، ونحن هنا بالتناوب، على شكل فرق، كل فرقة تعوض الفرقة المعتصمة باستمرار». وتضاربت التصريحات بين مسؤولي وزارة الداخلية، فبينما صرح مستشار الوزير جمال بوزرتيني بشأن اعتصام الأعوان بالمرادية من أن هناك نقصا في التنسيق والتواصل بين أفراد الشرطة المحتجين بغرداية والعاصمة، كون الوزير الطيب بلعيز استجاب أمس لمعظم مطالب المتظاهرين. وقال بوزرتيني: «هناك مطالب ستتم الاستجابة لها في القريب العاجل، وأخرى تحتاج بعض الوقت». وأضاف: «أجرينا حوارا معهم (المحتجون) هنا رفقة المدير العام بالوزارة المكلف بالموارد البشرية، ونقلنا لهم ما أقرّه وزير الداخلية.. ليس لدينا ما نقوله لهم زيادة.. وبقاؤهم هنا عديم الجدوى». وأكد المدير العام المكلف بالموارد البشرية بوزارة الداخلية، عبدالحليم مرابط أن «المطالب الاجتماعية والمهنية التي رفعها المتظاهرون، قيد الدراسة من طرف الداخلية». ولم يمانع في تأسيس نقابة مستقلة للشرطة بالقول: «الداخلية ليست ضد تأسيس نقابة للشرطة، ولا مانع من تأسيس نقابة للشرطة». أما في ما يتعلق بمطلب رحيل اللواء عبد الغني هامل من على رأس جهاز الشرطة، أفاد مرابط أن: «الأمر ليس من صلاحيات وزارة الداخلية». وعلق الناشط السياسي والحقوقي البارز، مقران آيت العربي، الثلاثاء، علي قبول السلطات الجزائرية لقيام «نقابة الشرطة» بقوله: إنّ النقابة إياها ستشكّل إطارا لبلورة مطالب أعوان الأجهزة الأمنية بالوسائل القانونية. وقال آيت العربي، في بيان عممه على وسائل الإعلام، إنّ «السلطة لم تتوقع، كعادتها، أن تخرج الشرطة إلى الشارع للتعبير عن غضبها»، مضيفا أنّ «السلطة تعتقد أن عناصر الأمن مهما كان تذمرها ومهما كانت مطالبها لا يمكنها أن تعبّر عنها في الشارع كما حدث في غرداية والجزائر». واستطرد آيت العربي: «حقا لا يمكن للشرطة نظرا لطبيعة عملها أن تنظم الإضرابات، ولكن الشرطي موظف، عليه واجبات وله حقوق. فبقدر ما كانت واجباته كبيرة كونه يعمل من أجل المحافظة على النظام العام وحماية الأشخاص والحرمات والأملاك، بقدر ما له من حقوق فيما يتعلق بظروف ووسائل العمل». وركّز القانوني المخضرم على أنّ «الشرطي مهما كانت مهمته أو مرتبته، يعاني من مشاكل اجتماعية كأي عامل، فهو مكلف بإعانة أبويه وإخوته الصغار وذلك عندما لا يكون زوجا وأبا لعدة أطفال، وما يترتب عن ذلك من واجبات عائلية، زيادة عن واجباته المهنية التي يمارسها في ظروف صعبة وتعليمات غامضة، في حين ينبغي أن تسجل مهامه في إطار القانون». ونتيجة لهذه الأعباء المهنية وظروف العمل والمشاكل العائلية، أوعز آيت العربي أنّ «الأوساط الأمنية شهدت حدوث عدة انتحارات، وهذا كله يلقي على الدولة بصفة عامة، وعلى الوزارة الوصية والمديرية العامة للأمن الوطني بصفة خاصة، أعباء كثيرة فيما يخص حماية الأعوان. وخلص آيت العربي إلى التساؤل :«كيف يمكن للشرطة أن تعبر عن مطالبها المشروعة بالوسائل القانونية في إطار مهامها اليومية؟»، وأجاب بكون ذلك بسيط، ويكون عبر النسج على منوال ما هو حاصل في «في البلدان الديمقراطية التي تملك فيها الشرطة نقابة منتخبة بحرّية حسب الأسلاك، مهمتها الدفاع عن حقوق أعضائها المادية والمعنوية دون الخوض في المسائل السياسية». وانتهى الناشط السياسي والحقوقي، إلى إبداء تأييده ل«إنشاء نقابة للشرطة تتولى الدفاع عن حقوق أعضائها وفقا للقانون». ومن جهتهم أيّد قانونيون ونشطاء حقوقيون آخرون احتجاج عناصر الشرطة وخروجهم في مسيرات بالشوارع، لاسيما مطلبهم المتعلق بإنشاء نقابة وطنية بحكم أنّها «حق دستوري لجميع موظفي الدولة». وطالب هؤلاء ب «تجريد الشرطة من مهمة قمع احتجاجات الجزائريين، مادام أن رجال الأمن تظاهروا وخرجوا في مسيرات دون ترخيص». وقد أفاد الناشط الحقوقي ومنسّق شبكة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان أمين عبد الرحمن سيدهم، أن «في كل دول العالم ممارسة النشاط النقابي يعتبر حقا دستوريا، فلماذا تريد السلطة في الجزائر أن تجعل من العمل النقابي «جريمة» وإشكالا يمس بأمن الوطن، وعناصر الشرطة لا يحيدون عن هذا المبدأ الدستوري وإنشائهم لنقابة وطنية حق مطلق». وقال سيدهم: «احتجاج رجال الأمن لاسيما المتواجدين في غرداية معقول، بحكم أنهم قضوا أكثر من 8 أشهر هناك دون فترة راحة، فهؤلاء بشر وصبرهم له حدود، وحاليا نتابع حركتهم الاحتجاجية». مضيفا أن «الاحتجاج جاء بصورة فجائية ولا نعلم من ينظمه، لذلك لابد له من تنظيم حقيقي بالخصوص وأنه متعلق بإنشاء نقابة، مراعاة لطبيعة المحتجين». وطالب منسّق شبكة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان ب«تجريد رجال الأمن من مهمة قمع المظاهرات والاحتجاجات التي يقوم بها المواطنون والعمال والموظفون، بحكم أن عناصر الشرطة خرجوا في مسيرات دون ترخيص وهم الذين كانوا يقمعون الاحتجاجات نظرا لطابعها غير القانوني، لذلك لا يحق من الآن فصاعدا متابعة أي مواطن بتهمة التظاهر دون ترخيص». وأفاد رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان نور الدين بن يسعد، أن «من حق رجال الشرطة تأسيس نقابة لهم كأي عامل في الجزائر، ولكونه أيضا حقا دستوريا مشروعا»، مضيفا: «رجال الشرطة هم أيضا موظفون لديهم مشاكل مهنية واجتماعية ومعنوية، والنقابة هي الجهة الوحيدة القادرة على الدفاع عن حقوقهم». وواصل بن يسعد: «في الرابطة موافقون على مبدأ تأسيس نقابة للشرطة، وهي بعكس تصريحات المسؤولين همزة وصل بينهم وبين الحكومة، بهدف إيجاد حلول لمشاكلهم وتلبية مطالبهم في إطار سلمي من خلال الحوار». وأوضح رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لحماية وترقية حقوق الإنسان فاروق قسنطيني، أن «احتجاج عناصر الشرطة ليس سياسيا بل مهني اجتماعي، للتعبير والمطالبة بحقوقهم في السكن والتحويلات وغيرها التي أقلقتهم نوعا ما»، مضيفا أن «دعوتهم إلى إنشاء نقابة حق دستوري محترم في الدول الديمقراطية، ولا أرى مانعا من تأسيسها، فالقضاة لهم نقابتهم، فلماذا يريدون جعل جهاز الشرطة استثناء؟». وقال قسنطيني: «وأمام هذه التطورات، لابد على الحكومة الوصول إلى حل مستعجل مع الشرطة المحتجين، لأنّها احتجاجات لها أساس مادامت متعلّقة بمطالب لتحسين مستواهم المهني والاجتماعي، ونقابة للشرطة أعتقد أنه سيكون لها دور جبّار في ترقية جهاز الأمن». وكشف أعوان الشرطة المعتصمون، قائمة مطالب تضم 19 مطلبا موجهة إلى الوزير الأول عبد المالك سلال، وتحصلت «العرب» على نسخة منها، ويأتي على رأسها، رحيل المدير العام للأمن اللواء عبد الغني هامل، وتأسيس نقابة مستقلة للشرطة وتغيير مدير وحدات الأمن الجمهوري، والزيادة في الأجر القاعدي بنسبة 100 بالمئة، والحق في الاستفادة من السكن الاجتماعي ووكالة عدل، إلى جانب العديد من المطالب المهنية والاجتماعية. إلى ذلك انتقد مرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة، علي بن فليس، صمت الرئيس بوتفليقة تجاه الأزمة الحاصلة في غرداية منذ مدة طويلة، معتبرا ذلك أكبر دليل على «شغور» الحكم في البلاد. وقال بن فليس في بيان صحفي: «إن التطورات المأساوية التي عادت لتعيشها هذه المنطقة الغالية من بلادنا، ما هي إلا نتاج لأزمة أعمق لم تتمكن ولم تحسن حكومة غير مبالية وغير جادة ولا مسؤولة على تقديم حل في مستوى حجمها ومدى تعقدها». وأضاف: «بل ولا جدال أنه من خلال الأوضاع التي تعيشها غرداية ذاتها تتجلى لنا حقيقة من حقائق شغور الحكم والتبعات الهدامة التي مُني بها الشأن العام». واعتبر بن فليس أن، «ذوبان السلطة وانحلالها المتزايدين، هما أول مصدر لدوام هذه الأزمة وتفاقمها»، مشيرا إلى أنه: «إذا كانت مأساة غرداية كبيرة فهي أكبر بالنسبة إلى البلد كله، وبالفعل فإن بلدنا يعيش أزمة سياسية حادة يمكن أن تعتبر غرداية من بين مظاهرها الأكثر دلالة وانشغالا وألما». أما رئيس الوزراء الجزائري عبد الملك سلال، فقد أعلن أن الحكومة توصلت لاتفاق لإنهاء الاحتجاج. وأبلغ سلال التلفزيون الجزائري بعد اجتماع مع وفد من الشرطة ان الحكومة ستجتمع يوم الأحد المقبل لمعالجة مطالبهم وبصفة خاصة المطالب المالية. واضاف: «انتهينا بالفعل من تسوية 11 مطلباً».