أصدر رئيس الحكومة يوم الثلاثاء 2 شتنبر الجاري مرسوما خاصا بنظام موظفي الإدارات العمومية، يقضي بتتميم القانون رقم 012.71 المحددة بموجبه السن التي يجب أن يحال فيها على التقاعد موظفو وأعوان الدولة والبلديات والمؤسسات العامة المنخرطون في نظام المعاشة المدنية، وهو المرسوم الذي اعتبره العديد من المتتبعين بمثابة إقرار رسمي برفع سن تقاعد الفئات المذكورة إلى 65 سنة ، في حين اعتبرت مصادر من وزارة محمد مبدع أن ذلك المرسوم يخص الأساتذة الباحثين والموظفين الخاضعين للنظام الأساسي الخاص لموظفي التربية الوطنة والهدف منه حسب تلك المصادر هو ضمان استمرارية خدمات المرافق التعليمية والجامعية بشكل منتظم إلى غاية متم السنة الدراسية والجامعية، وتفادي أي تعثر أو اضطراب خلال الموسم الدراسي والجامعي ، كما اعتبرت ذات المصادر أن ذلك المرسوم يتوخى الاحتفاظ بموظفي وزارة التربية الوطنية والاساتذة الباحثين من أجل الاستمرار في مزاولة مهامهم إلى متم السنة الدراسية والجامعية ولا يمس إطلاقا السن القانوني للإحالة على التقاعد. ومعلوم أن السيد بنكيران كان قد أحال قبل ذلك و بشكل مفاجئ وانفرادي، المشروع المتعلق بإصلاح الصندوق المغربي للتقاعد على المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي قصد أخذ مشورته حوله ،وهو الأمر الذي شكل صفعة قوية للمركزيات النقابية التي كانت تأمل في أن يعرض ذلك المشروع على طاولة الحوار الإجتماعي في إطار تشاركي . وكما كان متوقعا فقد أزبدت وأرغدت وتوعدت تلك المركزيات بعد تلقي تلك الصفعة وهددت بجعل الدخول السياسي والإجتماعي صفيحا ساخنا . وحري بالذكر أن المشروع المتعلق بإصلاح الصندوق المغربي للتقاعد يقضي بالرفع التدريجي من سن الإحالة على المعاش من ستين سنة إلى خمس وستين سنة في أفق سنة 2021 والزيادة في اقتطاعات الموظفين والأجراء وتخفيض نسبة معاشاتهم مع رفع عتبة الحصول على التقاعد النسبي .ولا شك أن الإجراءات التي حملها في طياته مشروع الإصلاح السالف ذكره تشكل إجهازا واضحا على أهم المكتسبات التاريخية للشغيلة المغربية . اليوم مع بداية الدخول السياسي والإجتماعي أصبحت وضعية المركزيات النقابية كما خطابها على المحك خصوصا بعد أن أشاح السيد رئيس الحكومة بوجهه عن ممثليها وطرق باب المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي . أجل لقد أصبحت اليوم المركزيات النقابية على المحك ، ذلك أنها مطالبة اليوم برفع التحدي وإثبات أن خطابها ليس مجرد ظاهرة صوتية أو جعجعة إعلامية ، بل إن عليها أن تكون في مستوى تطلعات الشغيلة المغربية التي وضعت الثقة فيها لاسيما وأن حكومة بنكيران عاقدة العزم على الإجهاز على حق التقاعد الكريم و المريح ، وهو الحق الذي يعد من أهم الحقوق والمكتسبات التاريخية لتلك الشغيلة . الكل يدرك أن المركزيات النقابية قد أصدرت منذ شرع السيد بنكيران في التلويح برفع سن التقاعد بيانات وبلاغات نارية أكدت من خلالها رفضها القاطع لأي إجراء يمس المكتسبات الجوهرية للشغيلة المغربية، بل إنها اعتبرت ذلك المساس خطا أحمر لا ينبغي تجاوزه تحت أي ظرف من الظروف ، لأن من شأن ذلك التجاوز أن يهدد السلم الإجتماعي .ولأجل ذلك فإن على المركزيات النقابية أن تكون في مستوى هذا التحدي المطروح وأن تترجم أقوالها إلى أفعال و تضطلع بدورها التاريخي في الدفاع عن حقوق ومصالح الطبقة العاملة وأن تقف سدا منيعا في وجه مشروع حكومة بنكيران الإنفرادي المجحف الخاص بأنظمة التقاعد . ونعتقد أن أي تلكؤ أو مناورة أو التفاف أو تراخ في هذا المضمار من لدن المركزيات النقابية سيفضي حتما إلى إعطاء الإشارة الضمنية لتمرير مخطط بنكيران بشأن التقاعد ،وهو الأمر الذي من شأنه في حال حدوثه أن يقود نحو حدوث مزيد من الإنهيار والتدهور الذي يشهده حاليا مناخ الثقة بين الشغيلة المغربية والمركزيات النقابية . ومما لامراء فيه أنه في حال نجاح بنكيران في إقرار خطته المشؤومة المتعلقة بإصلاح منظومة التقاعد، فإن تداعياتها ستنعكس سلبا على إنتاجية ومردودية العديد من القطاعات وعلى رأسها قطاع التربية والتعليم الذي استشعر المنتسبون إليه خطورة الإصلاح المرتقب على أوضاعهم وعلى حاضر ومستقبل المنظومة التربوية برمتها . ولأجل ذلك فلا غرابة إن دشنوا تحت لواء نقابي بتزامن مع الدخول السياسي والإجتماعي الجديد أولى التحركات الإحتجاجية المناهضة لمشروع إصلاح أنظمة التقاعد قبالة مقرات نيابة وزارة التربية الوطنية ، كما سجلت مواقع التواصل الإجتماعي بموازاة ذلك انطلاق حملة واسعة من طرف الفاعلين التربويين للتنديد بذلك المشروع الذي حذروا من تبعاته السلبية المستقبلية . ولعل منسوب هذه التحركات مرشح للإرتفاع في مقبل الأيام والأسابيع لاسيما إذا وضعنا في الحسبان أن حالة غير مسبوقة من الغضب والسخط والاستياء باتت ترخي بظلالها على الأطر التعليمية خاصة تلك العاملة داخل الفصول الدراسية التي أعربت شريحة واسعة منها عن عدم قدرتها على ممارسة الفعل التعليمي حتى آخر رمق في حياتها . وغير خاف ، أن هذه الشريحة من الفاعلين التربويين تعاني الكثير في ظل الإكراهات والتحديات التي يتسم بها واقع الممارسة التعليمية ، ولعل هذا يسوغ لنا القول بأن تمديد سن تقاعدها هو خيار جائر وغير محسوب العواقب ولن يساهم في إصلاح المنظومة التربوية كما أن من شأنه ألا يصب في صالح تحقيق التطلعات التعليمية والتربوية الوطنية المنشودة، لأنه يأتي استجابة للهواجس والرهانات الإقتصادية ليس إلا . ونعتقد أن من شأن ذلك التمديد المفترض أن يجر على الفاعلين التربويين وعلى المتعلمين بل وعلى المنظومة التربوية التعليمية برمتها ، عواقب وتحديات إضافية وخيمة ستزيد حتما من تدهور أحوال التعليم ببلادنا. إن الفعل التعليمي اليوم يتسم بتعدد الوظائف وبتناسل الأعباء كما أنه محفوف بالعديد من الصعوبات والتحديات والمثبطات التي تستوجب بالطبع تشبيب الموارد والطاقات البشرية الفاعلة في الحقل التربوي لمجابهتها بما يحقق الكفايات المنشودة وبما يعطي للممارسة التعليمية الدينامية والفعالية المأمولة . ونعتقد في هذا الإطار أن أي تمديد في سن التقاعد إلى الخامسة والستين بالنسبة للفاعلين التربويين العاملين داخل الفصول الدراسية سيفضي بلا شك إلى إصابة أطراف من الجسم التعليمي بأعراض الوهن و الشيخوخة، وهو الأمر الذي سيقود بالتالي إلى ضعف جودة وفعالية النشاط التربوي والتعليمي .وفي هذا الصدد لنا أن نتخيل و نتساءل فنقول كيف سيكون الواقع التعليمي المغربي في حال تمديد سن تقاعد نساء ورجال التعليم إلى الخامسة والستين علما أن أعمار هؤلاء بين الستين والسبعين وأجسامهم بحسب العديد من الدراسات هي الأكثر استقبالا للأمراض المزمنة كالسكري والضغط الدموي والقلب والربو والروماتيزم ...؟ . إن ذلك الواقع المفترض سيكون حتما في بعض زواياه كارثيا ، وسيحتضن بلا ريب مشاهد شائنة وغير مرغوب فيها ، مشاهد قد يكون عنوانها الهرج والمرج والتشويش والشغب والفوضى داخل الفصول الدراسية التي ستسند إدارتها لمدرسين بلغوا من الكبر عتيا ولم يعد في مقدورهم التحكم في مجريات الفعل التربوي التعليمي خاصة بالسلكين الابتدائي والإعدادي . وفي المقابل قد يحتضن ذلك الواقع مشاهد مؤثرة قد تثير شفقة التلاميذ على مدرسيهم العجزة لاسيما إن كان هؤلاء المدرسون مصابين بأمراض مزمنة تحول دون أداء رسالتهم التعليمية على الوجه المنشود . ولا شك أن مثل هؤلاء المدرسين سيضطرون تحت رحمة شيخوختهم ومرضهم ووهنهم إلى التغيب كثيرا وسيجلسون طوال الحصة الدراسية على كراسيهم إن هم حضروا. وفي ذلك بالطبع ضياع لهيبة المدرسين و هدر لحقوق المتعلمين بل وتدمير للمنظومة التعليمية الوطنية برمتها . نخلص بناء على ماسلف ذكره، إلى القول بأن نزوع حكومة بنكيران نحو فرض قرار رفع سن التقاعد إلى 65 سنة هو خيار غير حكيم وسيثير لا محالة ردود فعل غاضبة ورافضة من طرف شرائح واسعة من نساء ورجال التعليم الذين تثقل العديد من الصعوبات والتحديات واقعهم العملي . لكن ينبغي التنويه كذلك في هذا الشأن إلى أن رفع حكومة بنكيران سقف قرارها إلى 65 قد يكون مناورة محبوكة الإخراج ربما ستفضي فصولها في النهاية بعد دخول المركزيات النقابية في حوار اجتماعي مع الحكومة إلى التوافق على تحديد سن تقاعد الشغيلة المغربية في 62 سنة ، وهو الأمر الذي سيشكل بالطبع انتصارا للطرفين المتحاورين ، إذ سيزعم ممثلو المركزيات النقابية في هذه الحالة أنهم نجحوا في إفشال مخطط السيد بنكيران لرفع سن التقاعد إلى 65 بينما سيحسب لحكومة هذا الأخير أنها كان لها الفضل في إنقاذ صندوق التقاعد من الإفلاس بعد اتخاذ القرار « التاريخي الجريء » القاضي بالرفع من سن التقاعد إلى 62 سنة. ولا شك أن هذا السيناريو المحتمل قد يشكل في حال تحققه خيبة أمل بالنسبة للشغيلة المغربية خاصة تلك الفاعلة في الحقل التعليمي التي طالما كانت تمني النفس بتخفيض سن تقاعدها إلى 55 نظرا لإكراهات وخصوصيات مهمة التربية والتعليم و تأثيرها على صحتها النفسية والبدنية. لذلك فإننا نرى أن رفع سن الإحالة على المعاش بالنسبة لهذه الفئة لن يصب في خانة المصلحة الوطنية نظرا لأن التعليم هو رافعة أساسية لتحقيق التنمية ، ومن ثمة فإن التمرير الرسمي لأي قرار برفع سن التقاعد في هذا المجال سيكون شائنا وسيشكل طعنة لمساعي الإصلاح المنشود ، كما سيشكل من جانب آخر وصمة عار على جبين حكومة بنكيران، بل وعلى جبين النقابات التعليمية التي ستتعمق عزلتها في حال إقرار ذلك التمديد المشؤوم . فضلا عن ذلك فإنه من المتوقع أن تكون لذلك التمديد تداعيات سلبية على مختلف القطاعات لعل أبرزها سيتجلى في تراجع مستوى البذل والعطاء لدى الشغيلة المغربية وفي تقهقر مردودية وإنتاجية العمل كما سيساهم من ناحية أخرى في اتساع رقعة البطالة .وعليه فإن الأمل يبقى معقودا على تصدي المركزيات النقابية بكل حزم لمحاولة السيد رئيس الحكومة تمرير قراره الإنفرادي المجحف المتعلق بالرفع من سن التقاعد وعلى التمسك بمقترح التمديد الإختياري الطوعي لا الإلزامي لسن الإحالة على المعاش ، كما يبقى الأمل معقودا على تخلي الحكومة عن نهج المقاربة الأحادية التي تعتمدها في تدبير الشأن الإجتماعي والسعي في مقابل ذلك نحو مد جسور الحوار بينها وبين كافة الفرقاء السياسيين والإقتصاديين والإجتماعيين بما يفضي إلى إرساء إصلاح شامل ومنصف لأنظمة التقاعد وبما يحقق الحماية الإجتماعية للشغيلة المغربية ويصون مكتسباتها التاريخية .