ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نساء من كل البقاع: الكلمة للمنفيات!
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 08 - 2014

هن ثلاثة عشر امرأة / حالة، تنحدرن من بلدان مختلفة، من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية؛ كانت لهن، في بلدانهن، حياتهن وأحلامهن، وكن نشيطات في مجالات مختلفة. فجأة تجدن أنفسهن مضطرات لخوض دروب المنفى، دون اهتمام بالوجهة. المهم هو الهرب حفاظا على أرواحهن، لأسباب تختلف من حالة إلى أخرى. لكن، مهما فرقت بينهن أسباب المنفى ودروبه، فالمشترك بينهن: التمزق بين عالمين وحلم واحد، حلم العودة إلى الوطن لتقديم شيء ما لأجل أناس ما. كما تبين ذلك بورتريهات بثها راديو فرنسا الدولي، يوم 7 مارس 2014، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
سمر يزبك:
أنا امتداد بلادي في الخارج!
سمر يزبك كاتبة ومناضلة في مجال حماية نساء بلادها، سوريا. تعيش في المنفى بباريس منذ سنتين ونصف السنة. إنه منفى يغيرها ويجثثها. إلا أنه منفى يجعلها تكتشف ذاتها أيضا.
« انتهى كل شيء [... ] إني أمضي نحو الموت بخطى واثقة، لأن مغادرة سوريا تعني الموت، ولا شيء غير الموت، إنه الإحساس بأن جلدي ينسلخ وقلبي يُنتزع من كل ما كنت أرغب في إتمامه. فكري مضطرب، أعد حقائبي وأفكر آلاف المرات، وأنا أطوي ملابسي، أن ألقي بكل شيء خلفي [... ] ، أن أختفي في ظلمة الليل وأن أكون، أخيرا، ما رغبت دائما أن أكونه. ومع ذلك، فهي أول مرة أكون خلالها ما أرغب أن أكونه « ( نيران متقاطعة، يوميات الثورة السورية، منشورات بيشي شاستل، باريس، 2012 ).
سوريا، السبت 9 يوليوز 2011، إنها بداية المنفى بالنسبة لسمر يزبك، أو تقريبا. تقتعد طاولة في مقهى بحي بلفيل، وتأخذ الكاتبة التي ولدت سنة 1970 بجباليا، الوقت الكافي لانتقاء كلماتها. على نحو ملغز، تحكي أنها تعيش بباريس رفقة ابنتها البالغة من العمر عشرين سنة. لا تقول أكثر من ذلك حول حياتها الخاصة ولا حول أصولها. تنشغل، من منفاها، بالتنظيم الذي أسسته بإدلب لمساعة نساء الداخل، النساء اللواتي لم تتمكن أو لم ترغبن في مغادرة الفوضى التي أصبحت السيد المطلق السيادة في بلادهن، سوريا.
« لأنني سافرت بعض المرات إلى سوريا، لم أشعر فعلا بالمنفى، تحكي الشابة ذات الشعر الطويل الأشقر. لكن، الآن وقد قررت البقاء خارج بلادي، فقد أخذت أفهم معنى هذه الكلمة. عدم الاستقرار الذي يتولد عنها «. وبماذا تحس سمر يزبك؟ « بالحزن، بالحنين «. الدموع تجتاح عينيها. « لا أرغب في الحديث عن كل ذلك «، توضح بالانجليزية، وهي الجملة الوحيدة التي تتلفظها بلغة غير لغتها، العربية، كما لو أنها ترغب في الانفصال أكثر عن الأشياء، لاتخاذ مسافة.
هي التي عاشت من الداخل الشهور الأولى للثورة السورية، هي التي كانت شاهدة عن بربرية النظام، و التي ألفت كتابا حول ذلك ( رائحة القرفة )، تجد صعوبة كبيرة في أن تجد نفسها بعيدا عن أهلها كلما تذكرت المأساة التي تعيشها بلادها. « لي أصدقائي هناك. بعضهم مات. وطريقنا، معركتنا لا تزال طويلة «.
» علي إذن أن أعيش منفاي لأجل أهلي. علي أن أكون صوت بلادي من الخارج. أنا امتداد بلادي في الخارج! «، تواصل الكاتبة التي اتخذت من الكلمات سلاحا لها: « يوجد عدد كبير من السوريين في المنفى، وأنا جزء من هذه الهجرة. لذلك، علي أن أكون قوية. معا نستطيع أن نكون أقوياء أكثر، علينا أن نكون متراصين لإنقاذ سوريا رغم وجودنا في المنفى «. ومعركتها الرئيسية تخوضها لأجل النساء، المعركة التي تواصلها رغم وجودها في المنفى. إن سمر يزبك تعرف جيدا عما تتحدث. في روايتها « رائحة القرفة «، تدين بأسلوب حازم ومثير، وقبل انطلاق الثورة، وضعية المرأة في المجتمع السوري. ووحده إهداء الكتاب يكفي لتأكيد ذلك: « [... ] لذكرى أزمنة العزلة حيث أصبحنا مكشوفين لحمق العالم «.
إلا أن سمر يزبك ترى أن للمنفى وجهين. واحد للحزن، للموت. « منقطعة عن جذوري، عن ثقافتي، عن أماكني، عن لغتي، أجد المنفى مؤلما، لا سيما وأنه جاء متأخرا. الأربعون سنة التي تركتها ورائي، توجد في سوريا. هي حياتي «، تقول بصوت مرتعش. بناء على ذلك، يصبح المنفى نضالا بالنسبة لسمر يزبك. « علي أن أصبح جزء من البلد حيث أصبحت أعيش، فرنسا «، تقول الشابة. ويمر ذلك، مثلا، عبر اللغة، بالنسبة لها هي التي تفهم الفرنسية ولا تتكلمها.
« إلا أن للمنفى، بالنسبة للكاتب خصوصا، وجهه الإيجابي. إنها تجربة غير مسبوقة فيما يتعلق بإدراك الأمور، بإدراك الحياة، بإدراك الوعي «، تحكي سمر يزبك وهي تشير إلى أن المنفى ستكون له « بالتأكيد « مكانته في الكتاب الذي هي بصدد وضع لمساته الأخيرة. إنه المنفى الذي تعتبره فرصة للاستبطان، اكتشافا، تحولا. « بعد سنة أو عشر سنوات سيكون إحساسي بالمنفى مختلفا «، توضح وهي تشير إلى أنه لحسن الحظ، أن الإحساس بالمنفى أصبح معتدلا بفضل وسائل الاتصال الحديثة.
كأي مثقف، فسمر يزبك تحب فرنسا، ثقافتها. ومع ذلك، فرغبتها الوحيدة هي أن تعود إلى بلادها، إلى أرضها، إلى أهلها. « حين تنتهي الحرب، ولو تطلب مني ذلك أن أنتظر عشر سنوات، سأعود. سوريا هي بلدي «، تستخلص بأسلوب يملأه التحفظ وعزة النفس.
ماليا، داهامي: المنفى كميراث
في شارع « لا ديفونس «، حيث توجد شقتها كطالبة، تقف داهامي وأمها، ماليا، وهي تحمل ذكرى أهوال أفغانستان.
عاشت أمها الرعب والفرار. وقد حصلت كإرث ثراء هذا الألم المدوي. كل واحد على طريقته، جعل جيلا النساء الأفغانيات من فرنسا بلدا له.
« أنا فرنسية من أصول أفغانية «، هكذا تقدم داهامي ( تم تغيير الاسم الشخصي ) نفسها اليوم دون تردد. « في الخارج، أنا فرنسية أكثر، إلا أن روحي تظل أفغانية «، تؤكد وهي تحرك أصابعها. لم تعد الشابة تذكر كثيرا كابول، التي غادرتها وهي لا تزال في ربيعها العاشر، وهي في الثالثة والعشرين. ثم تلتفت نحو أمها لكي تترجم إلى الفارسية، لغة البيت.
لا تزال ماليا ( تم تغيير الاسم الشخصي ) تحاول مسح الدموع التي أخذت في الانسياب منذ اللحظة التي اعتقل فيها زوجها. اعتبرته خلال أسابيع طويلة ميتا. ففي أفغانستان الطالبان، لا ينبغي للمرء أن يكون شيوعيا. لكنه تمكن من الفرار إلى فرنسا. « تركنا خلفنا كل شيء، وانطلقنا «، تبتسم ماليا. جمعت بعض الصور وحلي العائلة في حقيبة صغيرة. وقرآن. كانت الوجهة باكستان التي كان يتقاطر عليها اللاجئون الأفغان. كانت الحياة شاقة، لكنه الثمن الواجب دفعه مقابل الأمان بينما كان والد داهامي يتتبع بصبر إجراءات نقل أهله إلى فرنسا، حيث أصبح لاجئا سياسيا.
تقول داهامي فرحة: « لا زلت أتذكر. رن الهاتف، ليخبر كل واحد منا أننا سنجتمع من جديد. كان يبكي «. حين حطت بمطار شارل دوغول، ذات يوم ممطر خلال شهر يونيو 2000، لم تكن قد رأت والدها منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات. « كانا مثل غريبين «، تذكر ماليا. « كنا جميعا نبكي، تقول داهامي، والنظرة باسمة. كانت اللحظة سحرية. كان واحدا من أجمل أيام حياتي «. استغلت ماليا وداهامي توقف دبي لنزع حجابيهما. كانتا لا تعرفان عن فرنسا، سوى كونها بلد يمثل « الحرية «. وتقول ماليا باندهاش: « كان من حقنا أن نتكلم «. لتضيف داهامي بصيغة التعجب: « كان ذلك بمثابة ثورة ! وكان عالما آخر. كنا، مثلا، نرى أناسا أفارقة للمرة الأولى !». الخيبة الوحيدة بالنسبة للصغيرة ذات الثلاث عشرة ربيعا: برج إيفل الذي أخذهما والدهما لمشاهدته، لم يكن ضخما كما تصورته وهي تقرأ الدليل السياحي.
لا تكف داهامي و والدتها عن الثناء على فرنسا، على دفء مركز استقبال طالبي اللجوء، ببيكاردي، حيث قضيتا سنتين: « كان هناك بوسنيون، جورجيون، وكلهم منفيون. لم نكن نتكلم اللغة نفسها، لكننا كنا نفهم بعضنا البعض، كنا نبكي معا، ننظم حفلات مع الأسر الأخرى، كان ذلك سارا «.
« بعد ذلك، ألحقنا والدنا بالمدرسة. كان تلك أولويته. كان يعمل على أن نكون مستعدتين للدخول المدرسي. بكينا خلال اليوم الأول، إلا أننا تعودنا بسرعة. كنا أكثر استقلالية من باقي الأطفال. كان علينا، في بلد تدمره الحرب، أن نتعلم كيف نتدبر أمرنا «. « لقد منحتنا فرنسا التربية «، تقول الطالبة. «فالإخوة التسعة - ولد طفل أخير بفرنسا - تلقوا جميعهم دراستهم. « والدي فخور بذلك. إنه انتصار في اعتقاده. وهو يقول: « لقد ربحت معركة، جاء دوركم الآن ! «. كلامه يُحفزني.
بعد فرحة اللقاء، كان لا بد من إعادة بناء كل شيء من جديد. تتساءل داهامي باعتزاز: « كنت أسأل نفسي، هل سأنهض من جديد مثلهم «›. لم يشعر الطفل الذي كانته بألم المنفى. لكنها رأت دائما والديها يعانيان من ذلك النقص، كما لو كان عضوا شبحا يسبب الإزعاج، مدى الحياة، ينبغي بتره. كانا يصلان حد الانهيار أحيانا، هما اللذان عرفا أفغانستان ما قبل التشادور والرعب، ذلك البلد الذي يحبانه كثيرا، و حيث درسا وعملا. « إن مغادرة بلد، تشبه هجر أم «، تقول ماليا مقارنة لتوضيح « تمزقها «.
بعدما كان رئيسا لمقاولة، وجد والدها نفسه « أسفل السلم «، يزاول مهاما بسيطة. « لقد فروا من بلد كانت الحياة به خطيرة؛ لكن هنا، كان لا بد من المقاومة من جديد. لا زلت أتذكر والدي يقضي ليالي كاملة في جمع كلمات لتطوير فرنسيته «، تقول بأسلوب يتراوح بين الحنين والحزن. تعلمت داهامي لغتها الجديدة بسرعة كبيرة، إلا أن الطريق لا يزال طويلا بالنسبة لهم. بعد مرور ثلاثة عشر سنة، لا زالت ماليا تواصل الدراسة، تصمد، فحلمها: أن تعمل من جديد، أن « تشعر بأن لها جدوى «. « إني أتقدم كل يوم، كل شهر، كل سنة «، تصف الفتات التي لم تكن تجرؤ في البداية على ركوب الحافلة. أما اليوم، فقد أصبح لها أصدقاؤها الذين تتقاسم معهم حلويات أفغانية.
لم تعد داهامي تتصور حياتها في كابول. « أصبحت فرنسا بلدي، أصدقائي، دراساتي، كل شيء هنا. لا زلت أتذكر أنني، حين كنت لا أزال صغيرة، كنت أرغب في ممارسة الرياضات القتالية ولا أفهم لماذا لم يكن لي الحق في ذلك. كانت أمي تقول لي: « لأنك فتاة «، لكنني لم أكن أفهم شيئا «. مارست رياضة الجيدو، في فرنسا، مدة عشر سنوات، على أعلى مستوى.
العودة إلى أفغانستان ممكنة؛ لكن ، لأجل تقديم المساعدة. « إني أنتظر، أخاف أن تخيب آمالي في هذا البلد الكثير الاستيهات «. حلمي، أن أذهب إلى هناك لتقديم شيء ما لمحرومين من الحق في الكلام، النساء بوجه خاص، تقول محامية المستقبل. « والدنا يشجعنا. يذكرنا دائما بواجبنا تجاه بلدنا «.
مؤخرا علم الوالد باغتيال أحد أصدقائه. سافرت ماليا رفقته مرة واحدة إلى هناك. لم تعرف بلدها. حدث ذلك سنة 2009، بعد حصول كل أفراد العائلة على الجنسية. تقول داهامي في النهاية: « أعطتنا فرنسا الفرح والأمان، قبلت بنا. لم نعد مجرد لاجئين ينبغي حمايتهم، بل فرنسيين «.
كا داو: المنفى المناضل
فرت كا داو من الفيتنام الشيوعي سنة 1980 ، لتجد نفسها لاجئة بهولندا، ثم بفرنسا. أصبحت النشيطة الحقوقية ممنوعة من الإقامة في بلدها الأصلي. وهي تعود هنا إلى أوديسا شعبها وإلى العلاقة الحميمة التي لازلت تربطها بالفيتنام.
خلال إحدى ليالي أكتوبر 1980، على بعد كيلومترات من الضفاف الفيتنامية، كان سرب من القوارب الصغيرة يتجه نحو مركب يكبرها قليلا. « كنت أرتعد، لم أكن أعلم أكان ذلك بسبب البرد، أم بسبب الخوف «؛ لا زال صوت كا داو- الاسم المستعار أي اختارته للنضال في مجال حقوق الإنسان - يرتعش وهي تحكي فرارها. « كنت أعلم بخطورة ذلك، لكنني كنت أفضل الموت في أعماق البحر، على البقاء. لم أعد أثق في أي كان. لم أعد أثق في أفراد أسرتي أنفسهم، كنا نلتزم الصمت «. لم تأخذ معها شيئا، تلك الليلة، سوى 2200 غرام من الذهب لتسليمه للمهربين والخاتم الذهبي، هدية والدها.
كانت تمضي على متن باخرة طولها 16 عشر مترا وعرضها 6 أمتار. كان الناس يتكومون في خزان. كنا شبه محاصرين، كان الناس يتقيئون حيثما وُجدوا. « لا تزال تلك الأيام غامضة في ذاكرتي، إلا أنني لا زلت أتذكر تلك الرائحة، غير المطاقة «. خلال اليوم السادس من أيام المحنة، أنقد مركب هولندي أبناء شعبها الفارين، الذين كادوا يغرقون.
كانت كا داو، طيلة حديثها بالشقة حيث تقيم في الضاحية الباريسية، تمسك صورا عن عملية الإنقاذ تلك. كان المركب يقل 303 من الأشخاص، 80 من بينهم أطفال.
قضت كا داو، بعد ذلك، ثلاثة أشهر في سنغافورة، في مركز تابع للمندوبية العليا للاجئين، قبل أن يتم إرسالها إلى هولندا، التي وصلتها منتصف يناير 1981. إن الصدمة الثقافية شاقة، والعزلة ضاغطة. قضت عدة أشهر في ملجأ، على بعد عشرين كيلومترا من أمستردام، لتعلم اللغة والتآلف مع الثقافة المحلية. حصلت بعد ذلك على منحة، وواصلت دراستها في الكيمياء. لتجد عملا مباشرة بعد حصولها على الديبلوم. « كنت أول امرأة فيتنامية، من بين اللواتي كن في الملجأ، تتمكن من اقتناء سكن لها ! «، تقول بكل اعتزاز.
أواخر سنة 1980، شرعت في النضال في صفوف جمعيات الفيتناميين المنفيين. « أخيرا، حصلت على الجنسية سنة 1990. كتبت إلى عائلتي أخبرهم أنه أصبح بإمكاني العودة إلى الفيتنام، دون التخوف من منعي من العودة «. حدد تاريخ السفر في مطلع 1991. لكن خلال شهر أكتوبر، انهار كل شيء، حين علمت كا داو بوفاة والدها من خلال مكالمة هاتفية. « انتظرت طيلة إحدى عشر سنة، اشتغلت، وفرت، ليموت ؟ « لم أصدق ذلك «.
أقامت مدة بالفيتنام، حيث التقت أفراد عائلتها. وبعد العودة إلى هولندا، تغلب الغضب على الحزن. « إذا تعذر علي أن ألتقي والدي قبل وفاته، فذلك بسبب الشيوعيين «، تقول في حالة غضب. وتقوى نشاطها بعد ذلك في غضون التسعينيات. باسم كا داو المستعار، أصبحت تكتب بلاغات، تنشر مقالات على عدة مدونات، تشارك في ندوات، وتتعاون بوجه الخصوص مع « راديو فري آزيا «.
جعلت من معاركها الأساسية الدفاع عن حقوق العمال الفيتناميين، لا سيما المهاجرين. أصبحت تشارك، بفضل إحدى المؤسسات، في إعداد تكوين مخصص للعمال الفيتناميين في ماليزيا، لجعلهم يتعرفون على حقوقهم. « يوم 30 أبريل من كل سنة، ننظم أحداثا للاحتفاء بحلول الشيوعية سنة 1975، بكل ما يعنيه ذلك من معاناة بالنسبة للفيتناميين «.
عن طريق أحد أصدقائها النشيطين، ستتعرف على الرجل الذي سيصبح زوجا لها، وهو فيتنامي يقيم بفرنسا، حيث التحقت به شهر نونبر سنة 2000. خلال العشر سنوات التالية، عادت كا داو عدة مرات إلى الفيتنام. إلا أن ميولها النضالية لم تفارقها. سنة 2011، وهي تنزل من الطائرة بمطار هوشي منه فيل - تقول دائما سايغون -، طلبتها الشرطة وعرضتها لاستنطاق دام عدة ساعات بمركز الشرطة في المطار. « كانوا يسألونني لماذا انخرط في تلك الجمعيات كلها، لماذا كتبت هذا المقال أو ذلك. استغرق ذلك ساعات، كنت أقول لهم: « في بلادي - فرنسا -، من حقي أن أفكر كما أريد وأن أقول ما أريد «. أركبوها على الفور الطائرة المتجهة إلى باريس، لدوافع تتعلق ب « أمن الدولة «.
خلال السنة التالية، تقدمت كا داو وزوجها بطلب جديد للحصول على التأشيرة، إلا أن الطلب رُفض دون تعليله رسميا. سنة 2013، ذهبت إلى الكومبودج، حيث التحقت بها عائلتها لقضاء بعض الأيام معا. لم ترق تلك الوضعية لزوجها. « من الصعب أن تكون نشيطة وامرأة ... بممارسته الضغط على زوجي، كان النظام يضغط علي أنا. لكن، علي أن أواصل، لأجل كل المدونين المعتقلين، لأجل كل الفيتناميين الموجودين هناك. لا أدري إذا كنت سأرى فيتناما حرا خلال حياتي، إلا أنني لا أزال مؤمنة بذلك «.
ماري - ميشيل: المنفى الكارثي
لاجئة سياسية، رفقة أفراد عائلتها، بعد اغتيال أخيها الصحافي في هايتي خلال شهر دجنبر 2011، تعيش ماري - ميشيل منفاها الاضطراري بفرنسا، شأنها شأن كل واحدة من اللواتي ستذكرهن هنا.
اضطربت حياة ماري- ميشيل، وحياة أفراد عائلتها كلهم، بشكل كلي يوم 3 دجنبر 2001، يوم اغتيال أخيها، الصحافي في إذاعة برينغول ليندور ، بطريقة وحشية من طرف سبعة من أعضاء الميليشيا المسلحة ( دومي نان بوا )، في أحد أحياء بتي - غواف، المدينة الهايتية حيث يقيم 150 ألف مواطن على بعد سبعين كيلومترا عن العاصمة بور- أو - برانس. كان يُنشط، رفقة آخرين، برنامجا سياسيا أسبوعيا لراديو « إيكو 2000 «، وكان برينغول ليندور يعتمد التناوب على أمواج الإذاعة، بإعطائه الكلمة للأغلبية وللمعارضة على حد سواء، تجسيدا لحرية التعبير التي لم يكن معمولا بها، للأسف، في الجزيرة، منذ عودة جان - بيرتران أرستيد إلى الحكم، والذي تم عزله بعد ذلك سنة 2004.
« كل خميس، كان برينغال يوجه الدعوة لأحزاب المعارضة. ثم يدعو ممثلي الحزب الحاكم، خلال الأسبوع التالي»، تذكر ماري ميشيل التي لم يكن عمرها يتجاوز أربعة عشر سنة حين وقوع المأساة. ثم تضيف: « كان للمعارضين، بالتأكيد، ما يعبرون عنه ما جعل الأغلبية تغضب من أخي. علما بأن البرنامج كان متزنا «. سيتم وقف التحقيق في البداية، ما جعل ماري - ميشال تفهم وبسرعة، وكذلك أفراد عائلتها ( والدها، إخوانها الثلاثة وأختيها ) أنهم لم يعودوا في أمان في بوتي - غواف، بل في هايتي كلها، حيث كانوا يسعون إلى إظهار الحقيقة واقتياد المذنبين أمام العدالة مهما كلفهم ذلك.
« لم نتخذ نحن أنفسنا قرار رحيلنا»، تذكر ماري - ميشيل. « لكن، بما أننا كنا نطالب بإحقاق العدالة، فقد كانت هناك مظاهرات في كل مكان، ما جعل البلاد محاصرة عمليا «. خلال شهر أبريل 2002، كان الرحيل إلى فرنسا، المنفى الذي أصبح ممكنا بفضل منظمات غير حكومية، وبوجه خاص منظمة صحافيون بلا حدود، التي ارتأت أن الاحتياط أصبح يفرض على عائلة ليندور مغادرة هايتي. كان المجيء إلى فرنسا شاقا بالطبع، حتى بعد الحصول على وضعية اللاجئين السياسيين.
كنا، في البداية، نُقيم جميعا في فندق صغير، في المقاطعة 11، بفضل جمعية فرنسا أرض اللجوء والصليب الأحمر اللتين تكفلتا بأفراد العائلة. « كان الوضع قاسيا « مع ذلك، تُقر ماري ميشيل. مؤكد أنها حلمت دائما بالقدوم إلى فرنسا، لكن ليس في ظل شروط مأساوية كهاته، ولا بهذه السرعة. « فقد غادرنا هايتي دون الرغبة في مغادرتها. ثم أننا لم نكن نفهم أي شيء بخصوص النظام في البداية. كان ذلك بمثابة المحنة الحقيقية ! لم نكن نعرف أحدا وحتى الأمور البسيطة، كركوب وسائل النقل العمومي، كانت معقدة بالنسبة لنا «.
بما أنها أكبر الإخوان والأخوات، فماري - ميشيل تعترف، هي التي ستعاني أقل من هذا التحول، ويرجع الفضل في ذلك بالدرجة الأولى للمدرسة العمومية، التي تمثل عاملا أساسيا في الاندماج. تكون الشهور الأولى في الثانوية هي الأكثر صعوبة بالتأكيد. « كان التلاميذ يسخرون كثيرا من لكنتنا، لاختلاف النطق بين هايتي وفرنسا. كان أول إملاء، أقوم به، كارثيا !»، تقول اليوم وهي تبتسم. بعد مرور عزلة البداية، ربطت تلميذة الثانوي بسرعة علاقات مع المنحدرين من جزر الأنتيل المقيمين بالحي، ومع الباريسيين بعد ذلك. وإلى حدود اليوم، تقر ماري - ميشيل بأنها لم تعاني أبدا من العنصرية.
بعد تكيفها بشكل متزايد مع الحياة الباريسية، كررت سنتها الدراسية الثالثة، ثم عاودت الكرة مرتين لأجل الحصول على الباكلوريا، إلا أنها حصلت على ديبلوم في التجارة يؤمن لها استقلاليتها ويفتح أمامها آفاق واعدة. و مع ذلك، لا يزال المنفى يمارس تأثيره عليها. كما أنها لا زالت تتأسى للوضعية في هايتي. « لم أعد إلى بلادي سوى مرة واحدة، خلال شهر دجنبر 2011، لتخليد الذكرى العاشرة لاغتيال أخي «، تتذكر. « كنت منهارة وأنا أرى الوضعية التي تتخبط فيها بلادي بعد زلزال يناير 2010( ضرب مدينة بورت - أو - برانس وخلف 220 ألف قتيل ). على مدى يومين، لم أفهم أي شيء. فالحي الذي أقمت فيه لم تعد له معالم، أصبح بيتنا مسطحا. ما جعلني لا أتعرف عليه «.
كان لتلك الزيارة هدف آخر: تحريك ملف اغتيال أخيها. فمن بين الأشخاص السبعة المتهمين بالقتل ( بالضرب بالسواطير والحجارة )، دخل اثنان السجن، أما الخمسة المتبقين فقد أدينوا غيابا شهر يناير 2008. ومن باب السخرية، فإن المسجونين الاثنين استغلا، كما فعل آخرون، الزلزال للهرب من السجن وظلا يتمتعان بحريتهما بعد ذلك. ما يجعل عودة العائلة معرضة دائما للخطر.
عن سؤال كيف ترى نفسها في المستقبل، ترد ماري - ميشيل بصمت طويل، قبل أن تعترف: « أشعر أنني في أحسن حال هنا في فرنسا، حياتي مستقرة. إذا عدت إلى هناك، فلن أكون في أمان «. وحين نسألها كيف تعرف نفسها كشخص، فإن الكلمات تتقاطر بكل سهولة: « أشعر أنني لاجئة هايتية شابة استقبلتها فرنسا، وتم ذلك على نحو جيد «. مع ذلك، فهي تحمل في أعماقها حلم العودة إلى هايتي. إنها تشتاق للأيام ال 364 المشمسة سنويا، ولأنها تسعى إلى أن تكون مجدية كذلك.
تقول ماري - ميشيل متأسفة : « في التلفزة، وكلما تحدثوا عن هايتي، فهم لا يذكرون سوى الأشياء السلبية. لكن، ليس ذلك فقط ما يوجد في هايتي. هناك أشياء جميلة كذلك... لكنهم لا يبثون سوى صور مدن الصفيح !». وآخر ما تعتز به انتخاب داني لافريير في الأكاديمية الفرنسية.
في انتظار معرفة مآل حياتها، فإن ماري - ميشيل تطمح إلى التقدم في دراساتها. كما أنها ترفع من وتيرة نشاطها في الجمعية الهايتية لفرنسا لدعم الشباب المحرومين بهايتي. كما تقول بإلحاح: « يأخذ مني ذلك الكثير من الوقت، إلا أنه عمل أحب القيام به. لقد ساعدوني عند مجيئي إلى هنا، لذلك فمن الطبيعي بالنسبة لي أن أقدم بدوري يد المساعدة لهؤلاء الأشخاص. إني أرد ما أعطوني إياه «. إنها كلمات تنبع من القلب ومن العقل أيضا.
كلودين: المنفى بالوكالة
منذ ما يزيد عن الأربعين سنة، وهي لا تعيش سوى على إيقاع أوقات وأحزان بلد تحمله في القلب. « لا فرنسية ولا إيرانية؛ وفرنسية وإيرانية «، إنها منفية من نوع خاص.
في مركز ثقافي إيراني بباريس، يوم 18 يناير 2014، اجتمع مائات الأشخاص بمناسبة نشر كتاب مخصص للأديب والدارس الإيراني شواجايدين شافا، المتوفى سنة 2010 بباريس. افتتحت أرملته كلودين اللقاء: « إننا نلتقي هذا المساء بمناسبة صدور كتاب لذكرى زوجي، شواجايدين شافا (... ) كما أن هذه الليلة هي تكريم للثقافة الإيرانية ولتاريخ هذه الحضارة العريقة لآلاف السنين «، قالت بلغة فارسية راقية.
بمظهرها الحازم، صوتها العذب ونظرتها الحنون، تبدو كلودين منفية مختلفة عن باقي المنفيين. تقول عن نفسها: « لست لا فرنسية ولا إيرانية؛ وأنا فرنسية وإيرانية ! « . بالإضافة إلى أنها تقول بأنها تشعر ب « الخجل « أثناء الحديث عن أحزانها: « كلما فكرت في أولئك الناس الذين فقدوا، خلال ثورة 1979، أناسا كانوا يحبونهم. كل أولئك الذين أُجبروا على الهرب من البلاد في شروط مهولة «.
ولدت كلودين ذات يوم خريفي سنة 1946 في مانس، بفرنسا. عاشت بها حتى حدود 1968 حين رغبت في مغادرة مقاطعتها، لكي ترى ما يجري في جهات أخرى. بعد عدة إقامات في الخارج، قادتها صدفة الحياة وصداقتها بسيدة إيرانية إلى سيروز لو غران. حلت بطهران، « يوم دفن دوغول في كولومبي - لي - دو - إيكليز. كان محمد رضا شاه في فرنسا وأنا في إيران، وهي ذكرى تظل كلودين غير مستعدة لنسيانها.
اندمجت الفتاة الشابة بسرعة في المجتمع الإيراني، تعلمت اللغة وتآلفت مع تاريخ البلاد، حضارتها، ثقافتها ومع تقاليدها. « اكتشفت طهران حداثية حيث كان الناس أحرارا. كانت تلك فترة « الميني - جيب «، هناك أيضا. كانت عائلتي الإيرانية استثنائية. كانت عائلة إيرانية جميلة تضم كل الأجيال، وكثيرا من الأصدقاء. لم أكن أتردد إلا قليلا على الجالية الفرنسية في طهران، الجالية التي كانت تجتمع حول السفارة أساسا «.
كانت إيران تستعد آنذاك لتخليد 2500 سنة من الملكية الإيرانية، فالتقت كلودين المستشار الثقافي لسفارة فرنسا. ابتداء من دجنبر 1970، انخرطت في الشعبة الفرنسية بمكتبة باهلافي. وكان شواجايدين شافا، نائب وزير البلاط المكلف بالثقافة، يشغل منصب المدير العام للمكتبة... وبالتعرف عليه، انطلقت الحياة الإيرانية لكلودين.
كان نائب الوزير في الأربعين من عمره وكان له ماض ثري. كان كاتبا فرانكفونيا ومحبا لفرنسا، ترجم أعمال دانتي إلى الفارسية، إلى جانب أعمال كتاب آخرين: فيكتور هيجو، لامارتين، شاتوبريان... وكان قد وشحه كل من الجنيرال دوغول (1963 )، أندري مالرو(1961 ) وكريستيان فوشي ( 1965 ).
ربط الود بين الفتاة الشابة ورئيسها. كان التعاون مثيرا، وشيئا فشيئا أخذت الصداقة تتقوى، ليولد بعدها الحب رغم اختلاف في السن بقرابة ثلاثين سنة: « لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا. رغم كل شيء، رغم اختلافنا في السن. كان مثقفا وكان يحكمه فضول غريب. لقد علمني الكثير. صنع مني ما أنا اليوم. كان موجودا دائما في قلب الفعل وكان ذلك يعجبني «.
سنة 1978، حلت كلودين بفرنسا لأجل إقامة قصيرة. التحق بها رفيقها. عمت الفوضى إيران. غادرت العائلة الملكية البلاد، وأمسك الثوار بزمام السلطة. « فرض الواقع نفسه، عنيدا، مع مرور الوقت: عرفت إيران قفزة إلى الوراء نحو زمن آخر، نحو عصر مظلم «.
أصبحت العودة إلى إيران مستحيلة، لينطلق المنفى. كانت كلودين غاضبة من عدم معرفة مواطنيها بإيران، موقف وسائل الإعلام والسياسيين، ومن تصرف الإدارة. « كنا نحن الاثنين نواجه، لوحدنا، مشاكل الحصول على بطائق الإقامة، النظرات غير المرحبة أحيانا، المشاكل المادية، الدعاية المناهضة للشاه، الدعاية الإسلامية، التنقلات الكثيرة (...) . أصبحت منفية داخل بلدي لشدة ارتباطي بزوجي المنفي «.
لا مجال للحسرة على مصيرها، لم يكن أمامهما سوى التراص والعمل معا. استأنف الزوج أبحاثه وعمله ككاتب لأجل « الدفاع عن إيران الأبدية «. أما كلودين، فقد تمسكت بالحياة بقوة. كانت المستشارة والموثقة بالنسبة لزوجها. كانت مأتمنة أسرار وطبيبة نفسانية أحيانا. كما كرست نفسها لكل ما يهم الأشغال المنزلية.
كانا يقاومان لأجل البقاء، كما يحدث لكل المنفيين. ومثل هؤلاء أيضا، كانا يخافان على حياتهما. كان اغتيال المعارضين الإيرانيين، في الداخل وفي الخارج، مصدر قلق وتهديد. بعد اغتيال شابور بختيار سنة 1991، في إحدى الضواحي الباريسية، نصح البعض الزوجان بمغادرة فرنسا. استقرا بعد ذلك باسبانيا لمدة قصيرة.
كان العمل شعار سنوات « المنفى» كلها: « لم نكن نعرف معنى العطل. كان هناك دائما هدف ما لتحفيز أسفارنا. لحظات اللامبالاة القصيرة، كانت بمثابة لحظات مسروقة من العمل. إلا أنها كانت لحظات سعيدة «. وكلودين لا تنسى الأوقات الجميلة التي قضياها داخل المكتبات، بفرنسا، باسبانيا، في القراءة، في الانتقاء، في استنساخ مقالات. مرة كل سنتين تقريبا كان يصدر كتاب جديد حول تاريخ إيران أو دراسات حول المقاومة الفكرية والأدبية للإيرانيين، أو دراسات مخصصة للديانات.
بعد مرور خمسة وثلاثين سنة على الثورة الإيرانية وأربع سنوات على وفاة زوجها، لا تزال لدى كلودين مشاريع كثيرة. والمشروع القادم هو أن تصدر باللغة الفرنسية ثمرة أبحاثهما في شبه الجزيرة الإبيرية، وهو كتاب يضم 750 صفحة مخصص للإسهامات العلمية، الفنية والروحانية لفارس في الثقافة الإسبانية. « من فارس إلى إسبانيا المسلمة «: إن التاريخ المسترجع منشور سلفا بالإسبانية، ومترجم إلى الفارسية. كما أن لها حلما آخر: العودة إلى إيران، أن ترى البلد الذي تحب مرة أخرى وأن تنقل إليه رماد زوجها، لأنه « ملك للإيرانيين وينبغي أن يستريح في بلاده «.
كلودين منفية إذن، إلا أنها لا تشبه الآخرين بالضرورة. « من غير أي ادعاء، أعتقد أن من حقي القول بأنني أعطيت الكثير لإيران. لا أعرف هل أنا إيرانية أم فرنسية. قلبي إيراني، ذلك مؤكد. أشعر أن كل ما يهم هذا البلد ومستقبله من قريب أو من بعيد يعنيني. أتتبع كل خفقات المجتمع الإيراني. يحدث لي أن أنفعل أو أتخاصم كلما تحدث الناس عن إيران «.
لا يوجد في شقتها الباريسية الصغيرة، أي ديكور يشير إلى الحياة الباريسية: إنها ممتلئة بأشياء، بكتب وبوثائق حول... إيران. دون أن ننسى صورة « الأستاذ « على الجدار، لتحرص على حبيبته وتمنحها قوة مواصلة المعركة لأجله، لأجلها، « لأجل إيران الأبدية «.
ناديدجا أطاييفا: الحرية
في بلادي مجرد نظرية !
فرت ناديدجا أطاييفا، ابنة الوزير الذي عزله الرئيس أوزبك كاريموف، من بلادها خلال شهر مارس 2000؛ تقيم كلاجئة بفرنسا منذ أحد عشرة عاما، وهي تكرس حياتها للدفاع عن حقوق الإنسان في آسيا الوسطى.
تبتدئ أيام ناديدجا أطاييفا دائما بمكالمة هاتفية. مكالمة من مناضل في مجال حقوق الإنسان في آسيا الوسطى تحمل إليها حالة تعذيب، إدانة أو اعتقال. رفوف شقتها بمدينة مانس ( في الشرق )، حيث تستقبل هذه السيدة الأربعينية، ممتلئة بحكايات رجال ونساء مضطهدين من طرف الأنظمة الاستبدادية لبلدانهم. تترأس جمعية حقوق الإنسان منذ ثمان سنوات، تجمع الشهادات، تُعد الملفات وتُشعر المؤسسات الدولية. إنها معركة طويلة تغذيها الحكاية الشخصية لناديدجا أطاييفا التي ترويها بالروسية، وبالقرب منها ابنتها الصغيرة التي تترجم إلى الفرنسية.
تشير الساعة إلى حوالي منتصف النهار هذه الجمعة 30 مارس 2000.، في منزلها بتاشكن. ترفع ناديدجا أطاييفا السماعة. يحذرها صوت على الجهة الأخرى: « اعتقلوا والدك. أمامك ساعتين لمغادرة البلاد قبل أن تأتي الشرطة وراءك «. تحتار الشابة ذات الاثنين وثلاثين ربيعا. في غضون ثوان قليلة، اضطربت حياتها، مشاريعها، سلامتها، سلامة ابنتها الصغيرة... انهار كل شيء. لم يبق سوى الخوف من المجهول.
عليها أن تتصرف بسرعة. جمعت ناديدجا أطاييفا الوثائق التي تخص والدها وفرت، صحبة ابنتها وأختها الصغيرة، إلى كازخستان المجاورة. إلا أن الاستقرار بها لم يكن ممكنا. فبإمكان مصالح الأمن الأوزبكية أن توقفها في هذا البلد أيضا. واصل الثلاثة السير في درب المنفى لتجدن، في النهاية، ملجأ بمدينة صغيرة في الجنوب الروسي، على ضفاف الفولغا. ظلت ناديدجا أطاييفا، طيلة سنتين وأربعة أشهر، تعيش في حضن الخوف من الترحيل. وتتهمها السلطات الأوزبكية بمساعدة والدها في سرقة خمسة ملايين من الدولارات. كما أن الأنتربول تبحث عنها. وهي تقول موضحة: « كان بإمكانهم أن يستغلوا اعتقالي للضغط على والدي والوصول إلى الوثائق التي تثبت براءته «.
بدل الصمت والاختباء، تصرخ ناديدجا أطاييفا مؤكدة براءتها. لقد كتبت إلى الرئيس، إلى الحكومة، إلى النائب العام، إلى اتحاد الصحافيين في بلادها. وهي تدين، في كل مراسلاتها، الفساد و التزييف. إنها تتطلع إلى أن يسمعها إسلوم كاريموف ويعيد ترتيب الأمور من جديد. « كنت مؤمنة به، صوت لصالحه. وأنا أخجل اليوم من نفسي لأنني كنت متعصبة إلى ذلك الحد «، تقول مؤكدة. لكن، لا شيء يتغير. في أوزبكستان، لا يزال اعتقال أقاربها متواصلا. وأمها تعيش في الإقامة الإجبارية.
خلال أحد أيام يوليوز 2000، جاؤوا وراءها، هي وابنتها وأخيها الذي كان التحق بهما في غضون ذلك، لإخراجهم من روسيا. تم السفر على متن سيارة، لتجنب أن يتم تحديد موقعهم. كان السفر محنة حقيقية عبر أوروبا، قادهم إلى مانس، في الغرب الفرنسي. حين وصلوا فجرا إلى ساحة المحطة، أسرعت ناديدجا أطاييفا نحو هاتف للاتصال بأمها. عليها أن تطمئنها، أن تخبرها إنهم في آمان. لا تزال قاعة المحطة فارغة. أو تقريبا. على بعد أمتار، يجلس على مقعد طويل رجل لم تُعره المرأة أي اهتمام. بعدما وضعت السماعة، التقت نظرتها بنظرة الرجل ولم يعد بإمكانها أن تكبح صرخة: إنه والدها، الذي ظلت تعتقد لمدة سنتين أنه نزيل السجون الأوزبكية، ينظر إليها الآن باسما. تمكن هو أيضا من الفرار في الوقت المناسب.
ينبغي العمل الآن لتسوية الوضعية، التقيد في العمالة. تقول ناديدجا أطاييفا: « حين ذهبت إلى العمالة، اعتقدت أنهم سيعتقلونني «. اتصلت بمحام وطلبت منه الدفاع عن ملفها وربط الاتصال بالوكالة الفرنسية لحماية اللاجئين. وتحكي أنها تعلمت، في الوقت نفسه، الإحساس بالحرية. « اكتشفت أنه يمكننا التظاهر بكل حرية في فرنسا، أن نشتري الجرائد التي نريد. ساعدتني الهجرة على اتخاذ مسافة، على اكتشاف كل شيء غير عاد في الحياة الأوزبكية. بإمكان الفرنسيين انتقاد كل من أرادوا انتقادهم. ولحسن حظهم أن هذه الإمكانية مسألة بديهية بالنسبة لهم «.
حدث المنعطف يوم 13 ماي 2005. في مدينة أنديجان، غرب أوزبكستان، تحول قمع مظاهرة إلى حمام دم. اعترف النظام بثلاثين قتيلا، بينما تحدث الشهود عن المائات. جاءت الإدانات من كل بلدان الاتحاد الأوروبي. أما بالنسبة للمهاجرين الأوزبكيين، فكانت المذبحة بمثابة صفارة الإنذار. اتحدوا في جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان في آسيا الوسطى. تخصص كل واحد من أعضاء الجمعية في ميدان معين، وجمع حوله شبكة من النشيطين. عملوا جميعهم على تجميع المعلومات، تحرير التقارير، تنظيم الندوات بتعاون مع دبلوماسيين. تقول ناديدجا أطاييفا: « في أوزبكستان، الحرية مجرد نظرية ينبغي تحويلها إلى واقع «. بعدما أصبحت صوت حقوق الإنسان الأوزبكي في فرنسا، أصبحت تقضي أيامها بين الهاتف والأنترنيت، وتقول موضحة: « استغل حالتي الشخصية لمساعدة الآخرين، ما يجعلني أفهمهم أكثر «.
تقدم لها الجمعية دعما يغطي مصاريف أسفارها، انخراطها في شبكتي الهاتف والأنترنيت. أما بالنسبة لحاجياتها الأخرى، فهي تتلقى مساعدات من صندوق التعاون الأسري. وتصرح ناديدجا بأنها تكن لفرنسا إحساسا هو خليط بين الاعتزاز، الاحترام والامتنان. « ساعدتني فرنسا على مساعدة المواطنين الأوزبكيين»، تؤكد. إلا أن التخلي عن جذورها ليس واردا: « أوزبكستان بلدي. لن أرفضه أبدا. لا يهمني ما يحدث به. لا يمكنني تغيير ساقي أو ساعدي. ذلك ما وهبت إياه. وذلك ينطبق على بلادي. حتى آخر أيام حياتي، وحيثما وجدت، فالبيت الذي صادروه مني، سيظل هو بيتي «.
سينثيا: الحرية في المنفى
« اسمي سينثيا، وأنا أنحدر من أوغندا . جئت إلى فرنسا على متن طائرة يوم 27 يناير الأخير. ساعدنا صديق في الحصول على تأشيرة، رفيقي سفري وأنا. مباشرة بعد وصولنا، عبأنا طلب اللجوء لدى سلطات فرنسا، أرض اللجوء «.
في أحد المقاهي الباريسية، تجلس سينثيا، ذات الستة وعشرين ربيعا، باسمة. حلت بفرنسا منذ ثمانية أشهر، وهي تشعر الآن بالأمان وتتبع إجراءات التماس المنفى. أواخر يونيو 2013، ولإنقاذ حياتها، ركبت طائرة بمجرد الحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي الفرنسية. سينثيا مثلية وأوغندا، حيث تتم معاقبة الشذوذ الجنسي بقسوة، أصبح يصدر فيها حكم بالسجن المؤبد في حالة « الشذوذ الحاد « وبمدد سجنية محددة في حق كل من يدافع عن حقوق الشواذ الجنسيين بمختلف أنواعهم.
بدت علامات شذوذ سينثيا حين كانت تلميذة في الثانوي. فقد تسببت علاقة غرامية جمعتها بتلميذة أخرى في طردها من الثانوية حيث كانت تتابع دراستها. أصيبت أمها بأزمة قلبية بمجرد علمها بالخبر، لتموت بعدها بقليل. حملت العائلة كلها مسؤولية وفاة الأم لسينثيا، فصدر قرار طردها من القرية. أصبح من الضروري إيجاد زوج لها. أما عمها، فقد اغتصبها لكي « يعلمها ما معنى أن تكون امرأة «، ما جعلها تهرب وتلتحق بجمعية للدفاع عن الشواذ الجنسيين.
قامت الشرطة بإنزال خلال عرض يوضح أن الشواذ أناس لا يختلفون عن باقي الناس وهم ضحايا المطاردات في أوغندا. تم اعتقال عدد كبير من المناضلين، ونشرت الصحافة صورا وقوائم بعضها مرفق بعناوين أصحابها. لتنطلق بذلك مطاردة حقيقية للساحرات. تعرضت سينثيا ورفيقتها للاغتصاب عدة مرات، ليتم إحراق منزلهما بعد ذلك. اضطرت للجوء عند صديق لها، جويل، وهو الآخر شاذ ومطارد، لتقررمغادرة البلاد رفقته ومعهما ديانا، صديقة مثلية أخرى.
بعد وصولها إلى باريس، وبفضل شبكة من الأصدقاء ومن الجمعيات المدافعة عن الشواذ، تمكنت سينثيا ورفيقيها من إيجاد سكن لهم. لكنها، انتبهت عندها إلى أنها حامل، جراء الاغتصاب الذي تعرضت له في العديد من المرات.
« كنت أشعر بالضعف. أجريت اختبارا أكد أنني حامل. سألوني إذا ما كنت أريد الاحتفاظ بالطفل، إلا أن ذلك لم يكن ممكنا ! إني أعشق الأطفال، لكنه كان ثمرة اغتصاب. إنه يرجعني إلى الوراء، إلى ذكريات مؤلمة، لأن ما تعرضت له كان أسوأ التجارب في حياتي. كنت أشعر بألم فظيع. قلت لهم: «لا، لا أريد هذا الطفل «. أجريت لي عملية إجهاض. كما أجريت كافة تحاليل السيدا وغيرها من الأمراض المماثلة . إلا أنه تأكد أنني أتمتع بصحة جيدة «.
كانت الأسابيع الأولى في فرنسا قاسية. « كان الأمر شاقا في البداية. كنت أشتاق إلى بلادي، كما أن اللغة هنا شكلت لي مشكلا، المناخ، كنت أشعر بأنني غريبة كلية رغم وجود صديقي الاثنين، جويل وديانا. كنت أسألهما: « هل سننجح في الاندماج؟ كيف نثق، هنا بفرنسا، في أناس لا نعرفهم؟ «. وكان جويل يردد علي دائما: « لا تقلقي، سنحاول «. إلا أنني لم أكن مطمئنة في أعماقي «.
« اليوم، وأخيرا، لم تعد نظرات الآخرين تخيفني. بينما كان علينا هناك، في أوغندا، أن نثبت دائما أننا في الطريق المستقيم. لم نكن نكشف أي شيء عن أنفسنا، كل شيء سري. من الصعب أن نثق في شخص ما، أن نتحدث عن شيء شخصي. لم أستطع إخبار من كان على اتصال بي هنا في فرنسا أني حامل، صديقي جويل هو الذي تكلف بذلك. من الصعب أن أخبر شخصا لم أتعرف عليه إلا مؤخرا، بأنني تعرضت للاغتصاب. في أوغندا، وفي كثير من البلدان الإفريقية الأخرى، تتعرض العديد من النساء للاغتصاب، لكنهن لا تقلن شيئا. إنه أمر مخجل. كما لو أنهم أخذوا منا وجودنا كله. لذلك، فإن هؤلاء النساء تلتزمن الصمت. إنها تظل مشكلتنا نحن، لا يمكن أن نُحدث أيا كان عما جرى لنا. بإمكان البعض أن يقول بأننا نحن من رغبنا في ذلك. أما هنا، في فرنسا، فقد تعلمت الحديث عن كل هذا، وذلك أقل إيلاما من الاضطرار لالتزام الصمت وحفظ السر «.
« لم تتغير مشاعري: أنا سينثيا، انشد إلى النساء، لم يتغير ذلك أبدا. الشيء الوحيد الذي تغير، هو أنني أصبحت أحس بالأمان وبالثقة. أما في بلادي، فكان ذلك سرا. لم يكن بإمكاني أن أتحدث بخصوصه إلى أي كان، لأختي نفسها أو أعز صديقاتي، إلى أن التقيت جويل. أشعر الآن أنني أحسن وأنا أتحدث عن كل ذلك هنا في فرنسا؛ أما هناك، في أوغندا، فلم يسبق لي أن أتحدث عنه أبدا. كنت أتساءل في السابق: « هل بإمكان شخص ما أن ينتبه إلى مثليتي ؟» لم أكن أشعر بالأمان «.
ليست الأخبار الواردة من بلادها جيدة. إن جسدها في فرنسا وروحها مع أهلها. سينتثيا قلقة بخصوص خطورة ما يعانيه أصدقاؤها الذين ظلوا في أوغندا. « أنا سعيدة لوجودي بفرنسا، لأن الوضع في بلادي كارثي. إلا أنني قلقة بخصوص أصدقاء الموجودين هناك في أوغندا، أناس مثلي، شواذ. بعد تبني القانون المتعلق بالشذوذ في أوغندا، أصبحت حياة هؤلاء الناس خطيرة بين أهاليهم. يوميا، تنشر الصحافة أسماء، بعضها يرفقونه بالصور. نشرت خلال هذا الأسبوع لائحة تضم 100 اسم؛ الأسبوع الماضي، 200... من مناضلين وغير مناضلين كذلك. إذا انتبه إنسان إلى أدنى عنصر يدفعه إلى الاعتقاد بشذوذك، فإنك تتعرض للضرب؛ ليسوا في حاجة إلى رفع شكاية. أعطى القانون الجديد الشعبَ هذا الحق، دون أدنى عقاب «.
« لا أعرف ما الذي سيحدث الآن. كل ما أحاوله هو الدفاع عن نفسي. أشعر اليوم بالأمان، لدي مكان أنام به، قدمت لنا جمعية مثليات بلا حدود مساعدات كثيرة. إنها تقدم لنا الملابس، تذاكر السفر، دروسا في تعلم اللغة الفرنسية، وتضع رهن إشاراتنا أناسا يمكننا التحدث إليهم، بكل ثقة، ويرافقوننا في كل الإجراءات الإدارية ولدى الجهة الفرنسية المكلفة بحماية اللاجئين، لإيداع طلب اللجوء. أشعر بالحرية هنا. أعيش حياتي بشكل يومي، في انتظار استدعائي من قبل مكتب حماية اللاجئين. مشروعي الحالي هو تعلم الفرنسية. بعد ذلك، سيكون بإمكاني مواصلة التقدم نحو الأحسن. كنت أدرس التدبير الفندقي في أوغندا. أعشق الطبخ. أتمنى التمكن من الانطلاق خلال السنة القادمة «.
زينة: المنفى في أحضان الخوف
كانت زينة تعتقد أنها ستنهي حياتها في الشيشان. طاردتها السنوات التي قضتها مع المقاومة، فكان عليها الهرب بسرعة سنة 2005. يزيد عمرها اليوم عن الخمسين سنة، ولا تزال في حالة صدمة. في تلك اللحظة تحديدا، لم تكن للوجهة أي أهمية.. لا بد من الفرار من نظام غروزني .
كلما تحدثت عن ماضيها، كلمت توقفت زينة ( تم تغير الاسم الشخصي ) عن الكلام بانتظام بحثا عن الألفاظ المناسبة، دون أن تفارقها الابتسامة المنزعجة. من وراء الحجاب، لا نرى سوى العينين الواسعتين اللامعتين لهذه القوقازية. وكل كلمة من كلماتها درس من دروس الحياة.
لا تكمن خصوصية زينة، في كونها تعيش المنفى الاضطراري، بل كونها عرفته في وقت متأخرة. وماذا عن حياتها قبله؟ كتاب حقيقي في التاريخ. ولدت سنة 1951 في كازاخستان، خلال عمليات الترحيل الستالينية ، عرفت الشيشان وهي في ربيعها السابع، في عهد خروشتشيف. وهذه العودة إلى البلاد، على متن قطار لنقل البضائع، واحدة من أقدم ذكرياتها. كل ما تذكره: « حدث ذلك صيفا «.
الوجهة ستاري أتغي، بالقرب من غروزني. عمل فيها والدها، المريض، طيلة عشر سنوات. وكانت أمها خياطة. أما بالنسبة لزينة، بكر إخوانها، فقضت عشر سنوات في الدراسة، حيث تتلمذت على يد أساتذة روس، وكانت تهتم بإخوانها وأخواتها. وتقول بهذا الخصوص» نعم، كانت فترة سعيدة، إلا أني لا أشعر بأنني عشت الطفولة «.
توفي والد زينة سنة 1969.كان وقت الزواج قد حان بالنسبة للشابة. إلا أنها عادت إلى بيت أسرتها بعد سنة واحدة. « كنا صغيرين، لم نتفاهم. لم أكن أتصور أنني سألتقي رجلا آخر بعده «. لا أهمية لذلك، فزينة تحب حياتها، مثلا سفرها إلى غوركي ، في روسيا، لبيع الطماطم، قبل توقف « للتبضع « بموسكو رفقة أمها.
أما البقية فهي أقل غرابة. سنة 1985، فقدت زينة أحد إخوتها، نتيجة طعنة بسكين في نوفغورود. تقول: « بعد الحادث، لم أعد أفكر سوى في الآخرين... نسيت نفسي «. جاءت بعدها حرب أفغانستان. الكل يتحدث عنها. كان سن أخيها الأصغر يفرض عليه الخدمة العسكرية. ولحسن حظه أنهم بعثوه إلى سوتشي، على ضفاف البحر الأسود. إلا أن الآلة انطلقت ولن تتوقف إلا باستقالة ميخائيل غورباتشيف، يوم 25 دجنبر 1995. انتهي زمن الاتحاد السوفياتي، وزينة في الأربعين.
« كان ذلك غريبا، بل مقلقا. كما تصرح. فالاتحاد السوفياتي كان هو الوطن. كان الجميع يتعايشون، متساوين، كما لو كانوا عائلة كبيرة. لم نكن نتصور الانهيار «. والأسوأ هو القادم. « قال لي أخي، ذات يوم، إنه كان يفضل العيش خمسين سنة أخرى من الشيوعية، بدل ما يحدث الآن «، هكذا تكلمت لحظة استحضار الحرب، حين سعى إلستين إلى استرجاع غروزني، سنة 1994، بعد انفصال الشيشان.
اعتبرت زينة وأهلها التدخل الروسي كما لو كان اعتداء. لا بد من الاختفاء في كهف لتجنب القصف الذي يضرب العاصمة ليل نهار. رفقة أخيها الصغير، « عملت كل ما في وسعها لمساعدة المقاومين «. كانت تطبخ، تعالج المصابين، تغسل ملابسهم. رغم كونها ظلت بعيدة عن السياسة، فقد لاحظت مع ذلك أن الصراع من أجل السلطة أصبح يهيمن على المد الوطني الذي طبع البدايات.
ما بين 1996 و 1999، بعد النزاع، قضت زينة سنوات « البقاء « بائعة خبز. ثم جاءت الحرب من جديد. دعمت وأخاها المقاومين خلال النزاع الشيشاني الثاني، الذي انبثق عنه السيد الجديد للكريملين، فلاديمير بوتين. أطلق عندها حلفاء موسكو هجماتهم من جديد. وتروي زينة بهذا الخصوص: « في غروزني، شرع النظام الجديد المقرب إلى روسيا في تجميع معلومات حول الأشخاص الذين قدموا المساعدة للمقاومين، استنطاقهم. تكلم الكثيرون لإنقاذ حياتهم، وقد جاء دورنا في النهاية «.
وجد أخوها الوقت الكافي للفرار إلى أوكرانيا. وليس هي. اعتقلوها بمنزلها واستنطقوها. ما الذي عانته؟ تصمت. خرجت من التجربة مصدومة، ثم أسرعت وتيرة قدرها: وجدت ملاذا لدى أسرتها، التي أصابها الخوف فنظمت هربها برا. نحن الآن سنة 2005، وهي ساعة المنفى بالنسبة لزينة.
لا تحفظ زينة، من سفرها نحو المجهول، عبر أوروبا، سوى ذكريات آلاف الكيلومترات التي تتالت. « الرحيل إلى أين؟ لا أهمية لذلك. المطلوب فقط هو الذهاب بعيدا «، كما توضح. كانت وجهتها باريس، حيث كان أخوها في انتظارها. الانطباعات الأولية؟ « الرعب ! «، تقول مازحة. انقضت خمس سنوات، قضياها معا في بيت مهجور، بلا تدفئة ولا كهرباء.
لن يتوقف القدر السيئ عند هذا الحد. سنة 2011، تم اعتقال أخيها وترحيله بسرعة إلى هولندا، حيث وجد السجن في انتظاره. « لم يحاكم بعد، إلا أنه بريء «، تؤكد زينة دون تقديم تفاصيل أخرى. أصبحت بذلك وحيدة في بلد غريب، لا سيما بعد حرمانها من الملجأ الذي كان يأويها. ما الذي ينتظرها في ذكرى ميلادها الواحدة والستين؟ المساعدة الاجتماعية ومراكز اللجوء. يسمحون لها بالحضور ما بين السابعة مساء والثامنة صباحا. إذا لم تكن نائمة ولم تكن لها مواعيد لتنظيف بيوت الخواص، أو إعداد الطعام لأصدقائها في الجمعية، فهي تقتل وقتها على المقاعد العمومية، أو في متجر إذا كان الجو باردا.. وهي تصلي.. تصلي كثيرا.
تقول زينة: « حياتي مضطربة في الوقت الحالي. لولا أصدقائي الفرنسيين والشيشان لما بقيت على قيد الحياة. إلا أنه لا يمكنني أن أفرض نفسي عليهم كل الأوقات. أشعر أحيانا كما لو كنت متسكعة «. كل طلبات اللجوء التي تقدمت بها حتى الآن، قوبلت بالرفض. ما يجعلها عرضة للانفجار في أي وقت، علما بأن الملجأ الذي يأويها حاليا سيغلق أبوابه خلال شهر ماي القادم. إنه كابوس حقيقي.
تقول زينة: « أشتاق لبلدي طبعا؛ إلا أن ما تبقى منه، ذكريات لا غير، ليس لدي مكان أذهب إليه. لم يعد لي شيء هناك. هنا أيضا، ليس لي شيء. أنا ممزقة «.
ما الذي يمكن أن نتمناه لسيدة قاست كل هذا؟ جوابها هي : « بالنسبة لما تبقى لي من وقت على قيد الحياة، أريد أن أتنفس قليلا من الهواء «.
نجاد: منفى النوستالجيا
« حين أنام كل ليلة، أكون في إيران. أحلم ببلدي إلى أن يطل الصباح. وحين أستيقظ، أجدني من جديد في ألمانيا وتنطلق حياتي في المنفى «.
تتكلم نجاد ( تم تغيير الاسم الشخصي ) عن « حياة مزدوجة « كلما أثارت الحديث عن وجودها ببرلين. جاءت بمحض الصدفة إلى العاصمة الألمانية سنة 2007، وعمرها سبعة وعشرين سنة. كبرت نجاد في عائلة ليبرالية تعلم أبناءها التسامح والنقد. في وقت مبكرة، أدخلت الفتاة الشابة هذه التربية حيز التطبيق، ما جلب لها الكثير من المشاكل. فقد دعمت قضية النساء الشاذات مثلها ( اختار اثنان من إخوتها المنفى لهذا السبب، أحدهما إلى هولندا، والثاني إلى برلين ). يتم اعتقال نجاد بشكل منتظم وتقضي، كل مرة، بضعة أيام في السجن. سقطت حبلى، خلال واحدة من هذه الإقامات، وأسقطت الطفل.
« لم أكن أرغب في الرحيل، إلا أن عائلتي ارتأت أنني لم أعد في أمان. إلا أنني كنت أعرف أن رحيلي سيدوم لفترة طويلة «، تروي نجاد. في برلين، تقدمت بطلب للجوء لم تتم الموافقة عليه إلا بعد مرور سنتين: « يوم 30 يونيو 2009، يوم ذكرى عيد ميلادي، اتصل بي محامي ليقدم لي الخبر السار «. مؤكد أن هذا الاعتراف يمنحها الأمان القانوني الذي كانت في أمس الحاجة إليه، إلا أن حياة المنفى ليست هينة. لم تكن نجاد تتكلم كلمة واحدة بالألمانية، عند مجيئها إلى برلين. أما اليوم، فأصبح لها مستوى جيد اكتسبته بفضل علاقاتها الكثيرة إضافة إلى الدراسة، بما أنه لم يُعترف بدبلوماتها الإيرانية كمحاسبة. أنهت تكوينها كمربية وهي تشتغل اليوم في روض فرنسي- ألماني للأطفال.
تقول نجاد ملخصة وضعيتها: « أنا ممتنة لألمانيا. لقد حصلت هنا على حياة لم يكن بإمكاني الحصول عليها في بلادي «. وكرمز لاندماجها الناجح، طلبت مؤخرا جواز سفر ألماني ، كما أنها تزوجت إنسانا يعيش بين ثقافتين، مثلها. زوجها جيرماني - تركي: « شريكي دعم كبير لي. إنه يتفهمني ويمكنني أن أتحدث معه على كل ما يشغلني. وقد أصبحت لي، مع والديه، عائلة جديدة «.
رغم كل شيء، فالشوق إلى البلاد يهز نجاد باستمرار. خلال الليل، و كذلك عندما تستيقظ. مؤكد أنها على اتصال بأخويها المقيمين في أوروبا، كما أن أمها تزورها بانتظام: « تُسعدني رؤيتها دائما. نبكي معا ونحن نلتقي في المطار، مثلما نبكي لحظة عودتها «. يظل الحزن العميق الذي تستشعره هو الانفصال عن والدها الذي لم تره منذ رحيلها عن إيران قبل سبع سنوات. « كنا قريبين من بعضنا دائما وأرغب في أن أرد إليه كل ما أعطاني إياه حين كنت لا أزال صغيرة «. تتحفظ السلطات الألمانية في السماح للأب والأم بزيارة ابنتهما في أوروبا خوفا من أن يظلا بها. وتتلخص اتصالات نجاد بوالدها في الهاتف أو مساعدة « سكايب «، ولو أن الصور الافتراضية لرجل مسن ومريض مؤلمة أكثر لفتاة في المنفى.
هذه الحياة بين عالمين، هذا الوجود المزدوج والجراح المترتبة عنه، لا تشكل فقط عبئا ثقيلا ينبغي تحمله. إن جسد نجاد يتمرد ضد الكثير من الاضطرابات: شلل مؤقت في الساقين أو الذراعين يتطلب متابعة طبية منتظمة ويجبرها على البقاء في المستشفى في بعض الأحيان. « الآلام لا تطاق ومن الصعب فعلا أن نعيش على هذا النحو»، تقول نجاد لتوضيح حالتها «. « لا أعتقد أنني سأرى بلادي مرة ثانية. ربما تتاح لأبنائي تلك الفرصة «. تحلم المرأة الشابة بأن يكون لها يوما ما روض أطفال خاص بها ببرلين. سيكون بإمكانها آنذاك أن تحكي أحلامها الليلية. « سأحدثهم عن كل ما أشتاق إليه كبحر القزوين حيث ولدت، حكايات ألف ليلة وليلة، ولن أحدثهم بالتأكيد عن الأشياء المرعبة التي عشتها «.
عائشة: بين المنفى والمعارك
le même sujet
تنحدر عائشة دابال من جيبوتي، تناضل ضد الديكتاتورية في بلادها، ضد اللاعقاب الذي ينعم به الجنود الذين يستخدمون الاغتصاب كسلاح في الحرب، وضد التشويهات الجنسية المضرة جدا بالنساء في إفريقيا.
« إن المنفى مؤلم، لأنه يجعل المنفي يعيش بعيدا عن شعبه، عن أهله المقربين وعن فضاءات طفولته «، هكذا تتحدث الجيبوتية عائشة دابال. لقد نفيت من بلادها منذ مدة طويلة، ولا تزال دموع معتقلة الرأي الإفريقية هذه تملأ عينيها وهي تحكي طفولتها السعيدة في بيت جدتها في أدوالا ( شمال البلاد )، التي لم تتمكن رؤيتها ثانية قبل الفرار من بلادها سنة 1997. تعيش، منذ ذلك الوقت، في الذكرى النوستالجية لجيبوتي في أدوالا وتنتظر بحمية لحظة تمكنها من العودة إلى حضن أهلها واسترجاع ملكية أرضها. « حين تأتي تلك اللحظة، سأنطلق بسرعة ومن دون إخبار، أتخلى دون أسف عن كل ما بنيته هنا بمشقة «.
منذ ثلاثين سنة، تنتظر عائشة دابال هذه اللحظة. وهي في السابعة والخمسين من عمرها، وبعدما جربت الديكتاتورية، السجن، التعذيب، اليأس ، الخيبات والأوهام، تعرف هذه النشيطة الجيبوتية بأن نهاية نظام غوله، التي تنتظرها لكي تعود إلى بلادها، يمكن أن لا تحدث وهي لا تزال على قيد الحياة، إلا أنها لا تتراجع وتناضل لاستعجال التغيير.
آخر مرة راودها أمل رؤية تحقق التغيير، تمت خلال شهر فبراير 2013 حين انتهى الأمر بالنظام الجيبوتي، تحت ضغط حلفائه الغربيين، إلى تنظيم انتخابات تشريعية لأول مرة منذ 2003، بمشاركة المعارضة. إلا أن الاقتراع اتسم بالتزوير والتحريف، وانتهى بفوز الحزب الحاكم ولو أن « الناخبين صوتوا بكثافة لصالح ائتلاف المعارضة «.
تتأسف عائشة دابال على صمت المجموعة الدولية رغم المظاهرات الشعبية الواسعة التي حدثت بعد إعلان النتائج. وباعتبارها عضوا في مرصد احترام حقوق الإنسان الجيبوتي، فقد أخطرت العديد من السفراء والمسؤولين السياسيين بالقمع الذي يتم اللجوء إليه. عبثا ! وتوضح بكل وضوح: « لقد كانت القوى الغربية خائفة من أن تجد نفسها في مواجهة « ربيع عربي « جديد في هذا البلد الاستراتيجي حيث لها مصالح عسكرية مهمة «.
ورغم كل ذلك، فعائشة دابال لا تيأس من الإيمان بأن الديمقراطية والحرية سيفرضان نفسيهما ذات يوم في بلدها بعد أربعين سنة من الديكتاتورية والفساد. وتقول بهذا الخصوص: « إن الأمور تتغير، إلا أنها تتغير ببطء. لا بد من المثابرة، من مواصلة النضال «.
لقد اكتسبت عائشة دابال تجربة كبيرة. بعد نضالها لعدة سنوات ضد إعذار الفتيات الذي اتضح أنه يلحق بهن أضرارا كثيرة في هذه الجهة من العالم، وهي تعلن أنها لاحظت تغير العقليات بخصوص هذا الموضوع خلال السنوات الأخيرة، بين الرجال أنفسهم. بل إن تلك العملية الشنيعة مورست عليها هي نفسها وهي لا تزال في ربيعها السابع. ولا تزال تتذكر الدم، الآلام، الموت الذي كان يحلق حولها. كما تتذكر والدها الذي كان ضد هذه الممارسة القديمة والبربرية، إلا أنه لم يتجرأ على الجهر بصوته نظرا لقوة الضغط الاجتماعي. « لقد كان أبي رجلا تقدميا، سجل بناته الستة في المدارس، لأنه كان يطمح إلى أن نكون مستقلات، إلا أنه لم يتكلم بخصوص الإعذار، ومن المؤكد أن سبب صمته الخوف من معارضة التقاليد المترسخة بعمق في العقليات «.
كان على الشابة، إذن، أن ترفع التحدي. في السابعة عشرة من عمرها، خلقت في الثانوية حيث كانت تدرس أول لجنة في القرن الإفريقي ضد التشويهات الجنسية التي تتعرض لها الفتيات. « أعلنت أن لا أحد سيقترب من بناتي أو من أي صغيرة أخرى. اعتبروني عندها مختلة عقليا، لأن مواجهة تلك الممارسات كان بمثابة الطابو. وعلى نحو غريب، وجدت لي أنصارا من بين تلميذات الثانوي اللواتي كن تتطلعن، مثلي، إلى وقف تلك التشويهات «.
رغم مرور أربعين سنة ، لا يزال معمولا بتلك الممارسات، إلا أن التعبئة ضدها أخذت في الانتشار سواء بين النساء أو بين الرجال. وتقول عائشة دابال بهذا الخصوص: « تتزايد، اليوم، أعداد الأفارقة الذين يناضلون ضد تلك الممارسات. تحت ضغط المنظمات التي تنسق للصراع، بلغ الأمر ببعض البلدان إلى تبني قوانين تجرم الإعذار. علينا اليوم أن نناضل من أجل تطبيق تلك القوانين «.
أما المعركة الثالثة التي تخوضها عائشة دابال فهي تهم اغتصاب النساء من طرف الجنود الجيبوتيين. وقد كلفها نضالها على هذه الجبهة الاعتقال، التعذيب والطرد من جيبوتي أخيرا سنة 1998، لأنها دخلت في صراع مع قلب النظام: الجيش. لم يتقبل هؤلاء أن تتم الإشارة إليهم بالأصابع أمام المحافل الدولية. وهو ما لم تتوقف الجيبوتية عن فعله. كان ذلك، للمرة الأولى، في ندوة بيكين سنة 1995، حيث دفعت إلى إدانة تلك الجرائم من طرف الفيدرالية الديمقراطية الدولية للنساء. من جديد، ومؤخرا، سنة 2012، أمام أجهزة الأمم المتحدة حيث أثارت الانتباه إلى اغتصاب أكثر من 200 امرأة من قبل جنود حكوميين يستفيدون من اللاعقاب.
كانت عواقب تلك الإدانات وخيمة على هذه المناضلة التي عملت خلال التسعينيات، في إيثيوبيا، من أجل تمدرس الأطفال الرحل. تم طردها، هي وزوجها، يوم 27 شتنبر 1997 باتجاه جيبوتي. كان النظام يتهمها بالتدبير لهجوم على الجنود الجيبوتيين. لقد كانوا غاضبين منها، في الحقيقة، لأنها نشرت تفاصيل قضية الاغتصاب على الصعيد الدولي. فبينما كانت حاملا، في شهرها الثالث، ألقوا بها في سجن رهيب بغابود حيث شروط الاعتقال غير إنسانية. ظلت في السجن عدة شهور و يرجع الفضل في بقائها على قيد الحياة إلى التعبئة الدولية لفائدتها. هربت من البلاد أسبوعا واحدا قبل أن تضع للجوء إلى فرنسا.
بدافع شجاعتها، واصلت عائشة دابال خوض معركتها هذه. أثناء استقبالها، خلال شهر دجنبر الأخير، من طرف سيدة فرنسا الأولى آنذاك، فالوري تريويلر، بمناسبة اجتماع السيدات الأوائل الذي انعقد على هامش القمة الفرنسية - الإفريقية الأخيرة، أثارت من جديد قضية اغتصاب النساء الجيبوتيات من طرف جنود بلادهن واللاعقاب الذي يستفيد منه هؤلاء في بلادهم. وتذكر المناضلة: « لقد استمعت إلي السيدة تريويلر باهتمام كبير ووعدتني بإثارة القضية مع الوفد الجيبوتي. مؤكد أنها فعلت ذلك، لأنها بدت لي سيدة جديرة بالثقة «.
بعد قضائها سنوات طويلة بفرنسا، وحين نسأل عائشة دابال رأيها في وضعية المرأة الفرنسية، فإنها تبتسم على نحو ملغز. ثم يأتي جوابها: « ليست المعركة من أجل كرامة المرأة مكسوبة مسبقا في أي مكان «.
أنج: المنفى المقاوم
فرت أنج موكاجيوينيي - نسابو من جمهورية الكونغو الديمقراطية بسبب التهديددات التي كانت تواجهها هي وأخوها. تقيم اليوم بفرنسا، حيث تنتظر بفارغ الصبر الحصول على وضعية اللاجئة. إنها مناضلة ومواطنة، ومتدينة كذلك، الأمر الذي يساعدها على تحمل البعد.
انطلق كل شيء بالتهديد عبر مكالمات هاتفية، ليتم تجسيد تلك التهديدات بعد ذلك، بحيث تعرض أخوها للاختطاف طيلة أسبوعين. « كان ذلك بهدف إسكات أبي «، تروي أنج موكاجيموينيي - نسابو. بعد هذا الحدث، فرت أنج وأخوها للالتحاق بالأراضي الفرنسية خلال شهر يونيو 2013.
تبلغ أنج الثلاثين سنة من عمرها، دينامية وباسمة، وتبدو واثقة من نفسها. وبما أنها هي نفسها كانت مدافعة عن حقوق الإنسان في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فهي ترى أنها « تسير على خطى الوالد «، بول نسابو. إنه العدو اللدود لنظام كابيلا، وقد نُفي هو نفسه قبل سنوات إلى بلجيكا بسبب تهديدات ترتبط بمواقف حرجة جدا. وكما هو شأن الأب، فأنج انطلقت في وقت مبكرة في الدفاع عن حقوق الكونغوليين، وبوجه خاص دعم ضحايا العنف الجنسي في الجمهورية.
تعتبر أنج أن القانون « انفعال « يحكمها منذ مدة. والشيء الوحيد الذي يشغلها، منذ حلولها بهذه الضاحية الباريسية، هو معرفة إذا ما كان سيتم الاعتراف، في فرنسا، بالإجازة التي حصلت عليها في بلادها، بعد حصولها على وضعيتها كلاجئة. وبالنظر لطموحها الكبير، فهي تفكر في مواصلة دراستها للالتحاق يوما ما بهيئة المحامين في باريس.
لا تقول أنج الشيء الكثير حول حياتها اليومية من قبل، في بلدية مدينة كينشاسا حيث كانت تعيش حياة « الرحل «. لديها ذكريات سيئة كثيرة، لحظات توتر لم تفارقها أبدا. الذكريات الإيجابية الوحيدة هي اللحظات التي قضتها وهي تشتغل في منظمة غير حكومية، عصبة الناخبين، إلى جانب الضحايا. « لكن، لي على الأقل نشاط أمارسه «، توضح أنج التي تعاني اليوم من الجمود.
إلا أنها تُضفي بسرعة شيئا من النسبية على وضعيتها الخاصة: « إني أتقبلها أكثر من أخي. إنه يغضب من أصدقائه. وقد أصبح ثخينا «، تضحك. ومع ذلك، فأنج تظل مرتبطة ببلدها. تقول مؤكدة: « لا أحد يعيش أفضل مما يكون عليه في بلاده. هناك أشياء أو وضعيات تخص الحياة، لا يمكننا التحكم فيها وعيشها بشكل أفضل إلا في بلادنا «.
وتعترف أنج، مع ذلك، أن الكونغو ليس بعيدا. حين تكون مع أفراد عائلتها غالبا ما تدور المناقشات حول البلد. تكون هناك مناقشات جدية، وطرائف كذلك، « تجعلنا نتأسف في بعض الأحيان «.
كما تتحمل أنج هذا البعد بفضل الإيمان. بما أنها كانت مخلصة لإحدى الكنائس الإنجيلية في كينشاسا، فإنها هي التي لا تزال تزودها بالاطمئنان الروحي في فرنسا. كما لو كانت نقطة وصل بين البلدين. ترى أنج أن القانون والإيمان يكملان بعضهما البعض. تقول بهذا الخصوص: « يقويني أن أتصرف كما لو كنت ابن الرب. تزودني الكنيسة بقوة تجنب إحداث الفوضى، السير خارج القانون «.
تعي أنج أن فرنسا « ليست جنة «، إلا أنها لا تشعر حاليا بأي « إقصاء « بل تعتقد أنها أُستقبلت بحفاوة، وتقول: « هنا، يوجد على الأقل تنظيم، إدارة. أما عندنا، فالإدارة ميتة «. وتقول المناضلة في النهاية: « لن أعود إلى البلد إلى إذا أصبحت الكونغو دولة قانون حقيقية «. ومع ذلك، فهي تواصل نضالها انطلاقا من فرنسا، وتوضح ذلك بالقول: « ليس لدينا أي خيار. الظروف هي التي جعلتنا نكون هنا. لكن، حيثما وجدت، فلن أكف على رفع صوت النساء الكونغوليات عاليا «.
إيسارا: المنفى أم ذكرى المنفى؟
« لم تكن الحياة ودودة معي، إلا أنني متفائلة جدا «. قليلة هي ذكريات طفولتها. كان على إيسارا أن تواجه في وقت مبكرة قسوة الحياة، أن تنتزع بسرعة من لامبالاة طفولتها، في لاووس. يفوق عمرها حاليا الخمسين سنة، ولا يزال ماضيها يلازمها، لأنها تظل متفائلة.
« بالنسبة لي، لم ينطلق المنفى من فرنسا. لقد استحوذ المنفى على المنزل، منزل عائلتي، حين تغير الديكور بين عشية وضحاها، تغير الناس ورحل أبي «. حدث ذلك سنة 1975، وإيسارا ( تم تغيير الاسم الشخصي ) في ربيعها الحادي عشر. خلال ذلك اليوم، انتقلت بشكل مفاجئ من براءة الطفولة ومقعد الدراسة إلى عنف الحرب، إلى الاضطرابات السياسية وكل ما يرافقها: معسكرات اللاجئين، الخيانة، الكذب، الاحتقار. وتقول إيسارا بكل وضوح: « يبني ذلك حياتك كلها «.
تحتسي جرعة شوكولاته دافئة لابتلاع تأثرها. نظرتها يقظة ويداها تخنقان الكوب... هل تفعل ذلك للتدفئة أم للقدرة على التركيز. يطبعها حياء كبير، وهي شحيحة في الكلمات لوصف أحزانها. إلا أنها لا تتردد في الاعتراف بامتنانها للأشخاص الذين استقبلوها عند حلولها بفرنسا، سنة 1979.
مطلع السبعينيات، كانت إيسارا تعيش « مثل أميرة صغيرة «، على بعد عاصمة لاووس، فيينتيان، بحوالي عشرين كيلومترا. تنحدر من عائلة ميسورة وكثيرة الأفراد، « ثمانية إخوان وأخوات ثم أخ بالتبني، كنا تسعة إذن «، كان أبي وأمي موظفان، نقيم في منزل كبير، وثلاث سيارات تركن أمام الباب... « كان كل شيء متوفرا لنا ! وكان والداي سعيدين، يتقاسمان أشياء كثيرة، يقدمان يد المساعدة للناس «، تحكي إيسارا. « كل خميس، كان طبيب يأتي إلى بيتنا للكشف على القرويين الذين لا تتوفر لديهم إمكانيات عيادة طبيب «. بعد عشرات السنين، لم تتبق سوى الذكريات. يتحول الحكي إلى الزمن الحاضر، لتشرق السعادة في عينيها.
تحتسي جرعة أخرى، تظل العينان كما هما دائما، إلا أن الدموع تملأهما الآن... سنة 1975، سافرت أم إيسارا إلى التايلاند، بعثتها الأمم المتحدة في دورة تكوينية. تطورت الأحداث بسرعة في البلاد. بعد سنوات من عدم الاستقرار والحرب الأهلية، طُرد الملك والملكة من الحكم، وأصبح سوفانوفونغ، الذي كان يُدعى « الأمير الصغير «، أقوى رجل في البلاد. إنه ميلاد جمهورية لاووس الديمقراطية الشعبية وانطلاق الاعتقالات بالمائات، والمنفى لآخرين. « دعاني أبي إلى المطبخ. قال لي إن عليه أن يسافر لمدة أسبوع للمشاركة في ندوة. وبما أن أمي غائبة، فإن علي أن أعتني بالصغار «. أدركت الصغيرة على الفور بأن « الندوة « ليست سوى ثعلة بالنسبة لوالدها الذي سيقضي سنوات في أحد معسكرات الأشغال. لم تره ثانية إلا سنة 1993.
« أين والدك؟ «، سألت الأم عند عودتها. « لقد جاء أناس إلى بيتنا. أحرقوا الكتب، أخذوا كل شيء «. لا أثر لأبي، أصبح على أمي أن تشتغل كثيرا، أن تبيع حليها وكل ما تبقى لديها لكي تتمكن من توفير الطعام لأسرتها. لم تعد المدرسة كما كانت. « إننا نشتغل في الأرض لزرع البطاطس والطماطم... ونمارس « النقد الذاتي « مرة كل أسبوع. استمرت هذه الوضعية سنتين. أصبحت الحياة لا تطاق. وبما أنه لا خبر لديها عن زوجها، فقد أصبحت الأم قلقة على مصير أبنائها، وأصبحت تفعل كل ما في وسعها. إنها تتهيأ للأسوأ. « سأفقدكم جميعا إذا ظللنا هنا. أما إذا رحلنا، فإنه سيكون بإمكاني أن أنقذ البعض منكم «، قالت الأم لأبنائها. عبر أخوان نهر ميكونغ سباحة. أما أمي وباقي إخوتي ، فكانوا تحت رحمة المهربين. كان حماس الهروب من هذه الحياة قويا، ما جعلهم كلهم ينسون البؤس الذي عاشوه في الغابة مع المهربين، مع اللصوص والمجرمين. وصلوا جميعهم في النهاية، سالمين، إلى معسكر نونغ خاي في التايلاند. ظلت إيسارا سنتين هناك.
عند وصولها إلى فرنسا، استُقبلت عائلة إيسارا في ملجأ يوجد جنوب البلاد. تم إرسال الصغيرة، فورا، إلى عائلة فرنسية لكي تتعلم لغة موليير. « كانت عائلتي الفرنسية لطيفة، تعلمت اللغة، تقاليد وعادات الحياة على الطريقة الفرنسية «. التحقت إيسارا بالدراسة، إلا أنها لم تتقدم كثيرا لضعف الإمكانيات، إلا أنها تمكنت رغم ذلك من تدبر أمرها. زاولت بعض المهن البسيطة، لتلتحق بعدها بعمل قار وتشق طريقها. أصبحت صحافية ، سنوات بعد ذلك. لم تشعر إيسارا أبدا بأنها مقصية بسبب جذورها، إلا أنها تعرف جيدا أن عليها أن تضاعف مجهوداتها لتحقيق التقدم في الحياة. « مؤكد أن فرنسية، في نفس سني ولها نفس مؤهلاتي ونفس مساري، ستتقدم بسهولة أكثر مني. ذلك طبيعي، ففرنسا بلدها «.
رغم مرور أربعين سنة على مجيئها، لا تشعر إيسارا دائما بأنها مواطنة كاملة المواطنة. « بالنسبة للفرنسيين، أنا من لاووس؛ وبالنسبة للاووسيين، أنا فرنسية ! «. وهي تتذكر، في مطلع التسعينيات، « كان هناك ما يمكن أن نسميه انفتاحا في البلاد، لم أكن قد ٍايت أبي منذ 1975. كان مريضا جدا، فقررت العودة إلى لاووس لرؤيته كما أنني كنت مشتاقة لبلادي «. عند الوصول، تمت معاملتها كما لو كانت أجنبية، سواء من طرف الإدارة أو من طرف مواطنيها. وسنوات بعد ذلك، حين أصبحت صحافية، منعوها رسميا من العودة إلى بلادها. حين توفي والدها، سنة 2002، لم يكن بإمكانها الذهاب إلى لاووس. « لم أعش حدادي أبدا، أريد الوقوف أمام قبر والدي «.
لم تتزوج إيسارا أبدا. « بالطبع، سبق لي أن أحببت، ككل الناس. لكن، حين نكبر من غير أب، فإن مفهوم الأسرة يتغير. كنت أرى أنني لا أصلح لزوج، ولبيت... إنه أمر معقد ! «. وليس لها أبناء كذلك. لقد فكرت في التبني، خلال فترة وجيزة، إلا أنها استخلصت بسرعة أنها تفكر في ذلك « بدافع الأنانية وأنهلن يكون في مصلحة الطفل «. لذلك، فمن الأفضل تقديم المساعدة للأطفال الذين هم في حاجة لها والإحساس كما لو كانت أما. « إني أعشق الأطفال، ولدي العشرات منهم. كل أولئك الذين أرعاهم، الصغار الذين يوجدون في المعسكرات، أحبهم جميعهم كمل لو كانوا أبنائي فعلا «. لأن هناك دائما آلاف المنحدرين من لاووس في غابات التايلاند. الناس الذين يهربون من بلادهم، أسر بكاملها وبأطفالها «.
ومن بين دوافع نشاطها في الحياة الجمعوية: « إنقاذ أطفال لاووس « أو « لجنة أرامل، زوجات، أبناء وأسر المعتقلين السياسيين في لاووس «. « إن الجرائد لا تتكلم عنهم كثيرا، إلا أن الوضعية متوترة جدا في لاووس (... ). وهي دولة شيوعية دائما... أجل ! «.
تعتني إيسارا بحديقتها حسب الصيغة الأدبية: هي حرة، تزاول عملا، لها بيت، إلا أن شبح الطفولة الضائعة يطاردها حيثما حلت. « لم أعش طفولتي، لم تكن الحياة لطيفة معي، إلا أنني متفائلة «، تقول ولو أن الحزن لا يفارقها أبدا. لا غضب ولا حنين، وهي لا تريد الاستسلام إطلاقا، وقد وجدت علاجها: « التفكير في الآخرين، وأنأ أقول لنفسي: لا ينبغي أن يكون ما عشته هو مصير الصغار الآخرين «.
أويا: السير على دروب المنفى
بما أنها مارست الصحافة اليسارية في تركيا، فإن أويا أكان، البالغة من العمر اليوم ستة وخمسين سنة، تدفع ثمن مطالبها السياسية على دروب المنفى.
وهي جالسة على ضفاف السين، تنظر أوفا إلى النهر الذي يحرك بداخلها موجة حنين. إنها تتذكر البوسفور وتركيا المولد. لقد كرست هذه المثقفة المحتجة نصف حياتها للنضال من أجل تركيا أكثر حرية. ما عرض حريتها الخاصة للاضطراب.
تنحدر أوفا من عائلة ميسورة - والدها كولونيل، وأمها أستاذة -، لا شيء كان يرشحها لتكون معارضة سياسية. « بعد دراستي الأدب الانجليزي، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، التقيت حسن، وهو صحافي ملتزم. وقعت في غرامه وغادرت مدينة إزمير، حيث وُلدت، لكي أتبعه إلى اسطنبول»، تقول متذكرة.
بعد 205 أيام من الاعتقال، وبعد إضراب عن الطعام، لم يعد وزن أويا يتجاوز 24 كلغ
في هذه المدينة التي يطبعها الهيجان السياسي، شرعت أوفا في العمل لفائدة العديد من الجرائد اليسارية، مثيرة قضايا كانت بمثابة الطابو، كالقضية الكردية، الإبادة الأرمينية أو حقوق النساء. وتقول متأسية: « تركيا المحافظة بلد غير متفتح على النقاش «.
باعتبارها مدافعة شرسة عن حرية التعبير، تقاسمت أوفا مع حسن نفس المصير: مصير المعتقل. نتيجة انقلاب 1980، تم اعتقالهما في نفس السجن، دون أن تكون لهما إمكانية اللقاء أو تبادل الرسائل. وتقول في وصف ظروف الاعتقال: « كان القلم والورق ممنوعان، وضوء النهار كذلك. لم أكن أسمع سوى صوتي «.
لم يكن مسموحا سوى بلقاء الأقارب. سنة 1987، استغلا مبرر الزواج لكي يتمكنا من اللقاء وتبادل الحديث داخل السجن مرة كل أسبوع. بعد استرجاعهما لحريتهما، استأنفا نضالهما وعملهما كصحافيين، إلا أنه سيتم اعتقالهما من جديد بعد بضع سنوات. نتيجة تعرضها للتعذيب، خاضت أوفا إضرابا عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال. وبعد مرور 205 أيام، لم يعد وزنها يتجاوز 24 كلغ، ما سمح لها باسترجاع حريتها، ليتم إطلاق سراح زوجها أيضا سنوات بعد ذلك. وهي تتذكر بحزن عميق: « لم أعرف سوى القمع، الاحتقار والعزلة «.
سنة 2002، وللفرار من مطاردات جديدة، قررت أوفا وزوجها الهرب باتجاه فرنسا. وهي تتعب اليوم كثيرا لكي تعيد بناء نفسها في هذا البلد الذي يبدو لها حرا على نحو غريب. كما أن تقدم السن، تدهور الصحة وعائق اللغة من العوامل التي تحول دون اشتغالها في الصحافة الفرنسية. لذلك، فهي تكتب في بعض المناسبات في بعض الجرائد التركية وتشارك، بباريس، في ندوات مخصصة لحقوق الإنسان، محاولة بذلك أن تقدم خدمة ما رغم تواجدها بعيدا عن تركيا. فقد ظل قلبها ومعركتها هناك، وأصدقاؤها السياسيون كذلك. من الصعب أن ترتقي، في فرنسا، إلى صفوف الانتلجنسيا التي كانت تحتلها في بلدها الأصلي.
تقول أوفا بحسرة كبيرة : « ليس لي مكان في هذا المجتمع. لا أحد يهتم بنا هنا، باستثناء أستاذ اللغة الفرنسية «. « الاشتراكيون الذين التقيناهم هنا، يعتبروننا ممثلين للعالم الثالث، كما لو أن اشتراكيتنا نحن أقل أهمية من اشتراكيتهم هم «. وفي غياب ما يربطها بفرنسا، فإن أوفا تتطلع إلى العودة، ذات يوم، إلى تركيا التي ناضلت من أجلها.
رغم التجاعيد والشعر الأبيض، اللذين يشهدان على معاناتها، لا تزال بسمتها تحمل وميض أمل وتفاؤل. ومن دون ندم، تتذكر أوفا مشوارها الفوضوي، وتقول بأنها مستعدة إلى معاودته إذا تطلب الأمر ذلك، ودون أدنى تردد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.