بابتسامة متأثرة أمام العدسات في بهو الإليزيه ، ولقاء دون بهرجة مع نيكولا ساركوزي الذي لم يقل كلمة تاركا الباب مفتوحا للعديد من الأسئلة. وبعد أزيد من 10 أشهر من اعتقال كلوتيلد رايس بمطار طهران، القارئة بجامعة أصفهان انتهت يوم الأحد 16 ماي قصة هذه الشابة 24 سنة، التي كانت ثقلا على العلاقات الفرنسية الإيرانية المثقلة أصلا بسبب الملف النووي. قبل ذلك بساعات تمكنت الشابة الفرنسية من مغادرة إيران بعدما تم تحويل عقوبتي السجن خمس سنوات المعلنة في حقها على الفور «بقرار عفو» الى غرامة مالية بقيمة 300 ألف أورو. بعد خروجها من إيران الى دبي، تم نقلها في رحلة ثانية الى فرنسا على متن طائرة تابعة للجمهورية الفرنسية. الشابة قضت ستة أسابيع في سجن إفين في طهران، وحوكمت أمام «محكمة ثورية » ثم أفرج عنها بكفالة يوم 16غشت 2009 بقيمة 200 ألف أورو ووضعت رهن الإقامة الإجبارية في السفارة الفرنسية. طهران وجهت للشابة الفرنسية تهمة المس بالأمن القومي لإيران من خلال بعث رسائل وصور عن المظاهرات التي شهدتها إيران عقب إعادة انتخاب أحمدي نجاد يوم 12 يونيه 2009. وظلت فرنسا تعتبر هذه التهمة مجرد احتجاز. بعد خروجها من الاستقبال بقصر الإليزيه، وجهت كلوتيلد رايس تحية للجميع وخصت بالذكر «رجلين تم إعدامهما في يناير 2010 كانا الى جانبها خلال محاكمتها». وعندما بدأت أسئلة الصحفيين تتقاطر، خرج برنار كوشنير الى الواجهة قائلا «كلوتيلد حرة، تسعة أشهر مدة طويلة بالنسبة لشابة عمرها 23 سنة، والآن 24 سنة». . دبلوماسية معقدة لقد اختار نيكولا ساركوزي التكتم لإرساء صورته الرئاسية وأيضا لكي يبقى معتدلا في قضية دبلوماسية معقدة. وهكذا قال مؤخرا أن كلوتيلد رايس تعتبر من «محمييه». أصدر في مرحلة أولى بلاغا يعلن فيه أنها غادرت طهران الى دبي. والثاني عبر فيه عن سعادته ووجه التحية للرئيس السوري بشار الأسد والسينغالي عبد اللاي واد والبرازيلي لولاداسيلفا، «لدورهم الفعال في الإفراج عن مواطنتنا». الإيرانيون اعتقلوا كلوتيلد رايس يوم 1 يوليوز صحبة أجانب آخرين إبان قمع المظاهرات التي توسعت عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وعلى الفور ظهرت وسط عدد من المعارضين على شاشة التلفزيون وهي تقدم «اعترافات». لقد اعتقلت في الوقت الذي كانت الحكومة الإيرانية تحاول «إقناع» العالم بأن المظاهرات التي أعقبت إعادة انتخاب أحمدي نجاد هي «نتيجة لمؤامرة من الغرب...»، لكن سرعان ما تأكدت السلطات بأن ذلك لا يجدي ، وبالتالي أصبحت رايس رهينة «مزعجة». في نفس الوقت ، اكتشفت باريس أنها في مأزق لانتزاع الإفراج عنها. ساركوزي اعتبر مؤخرا أن ما وقع لكوتيلد رايس يعتبر «فضيحة، فهي لم تغامر، ربما تعاطفت مع المتظاهرين». اللجوء إلى وسطاء رفض باريس لأي حوار مباشر مع أحمدي نجاد قاد الى اللجوء الى وسطاء. ومنذ الصيف الماضي، استعمل ساركوزي، مصالحته الأخيرة مع الرئيس السوري. وكان يأمل ، بعد الانتقادات الاذعة بخصوص هذه المصالحة، أن يعزز اختياره لذلك، وأرجع خروج كلوتيلد من السجن ووضعها رهن الإقامة الإجبارية داخل السفارة الفرنسية في طهران، لتدخل الرئيس السوري، وبالفعل فقد كثفت دمشق من تدخلاتها لدى حليفها الإيراني، لكن زيارة الأسد لطهران يوم 19 غشت لم تسفر عن إطلاق سراح الفرنسية. وتعقدت القضية أكثر عندما غير أحمدي نجاد استراتيجيته يوم 22 شتنبر وأعلن أنه بإمكان الفرنسية أن تغادر إيران إذا ما أفرجت باريس عن «علي فاكيلي راد» المعتقل، في فرنسا في قضية اغتيال شهبور باكتيار، آخر رئيس للوزراء في عهد الشاه. ويعتبر سفير فرنسا السابق في طهران، فرانسوا نيكولو أن «نجاد ارتكب خطأ سياسيا عندما ظهر أنه يريد ربط الإفراج عن كلوتيلد رايس بالإفراج عن علي فاكيلي راد وماجد كاكافاند، فذلك يعني جعل العدالة رهينة للسياسة، وبالتالي عطل كل شيء..». بقي البحث عن مخرج إيجابي، لقد اقترح الرئيس السينغالي عبد اللاي واد «وساطته» ويوم الأحد الماضي أكد واد أنه فاوض إيران حول الافراج عن الفرنسية، وأنه في أكتوبر 2009. طلب منه مستشار الرئيس الدبلوماسي المكلف بافريقيا أندري باران ترك الملف جانبا. وأكد واد أنه لو ترك له أمر التحرك لكانت هذه القضية قد حلت منذ زمان. لكن هذه التصريحات يمكن وضعها في سياق الخلاف الذي ظهر أخيرا بين الرئيس السينغالي ومستشار الرئيس لشؤون افريقيا أندري باران الذي انتقد بشدة ما عبر عنه الرئيس واد عن نيته للدفع بابنه الى السلطة في السنيغال والتي تناقلتها وسائل الإعلام. مؤشرات إيجابية من طهران باريس تعتبر أن الرجل الذي بذل مجهودا كبيرا الفائدة كلوتيلد رايس هو الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي طلبت منه باريس التدخل منذ البداية نظرا لعلاقاته الجيدة مع إيران بعدما اعتبر أن وقوع خروقات كبيرة خلال الانتخابات الرئاسية الإيرانية أمر مستحيل وانتقد «تباكي المعارضين» وهو ما أثار انتقادات العواصمالغربية. ساركوزي قال في نهاية أبريل الماضي أن الرئيس لولا يساعدنا كثيرا وطلب تدخله خلال زيارته للبرازيل بمناسبة لقاء قمة حول البيئة نهاية نونبر. ووعد الرئيس البرازيلي بالتحرك. وقبل ذلك بأيام استقبل الرئيس البرازيلي نظيره الإيراني في برازيليا. وتوالت الاتصالات . ويوم 12 ماي أقدم ساركوزي على مبادرة علنية بالاتصال بالرئيس البرازيلي للتعبير له رسميا عن «دعمه الكامل» لجهوده بخصوص الملف النووي الإيراني وأيضا بشكل غير رسمي، لتدخله في ملف الفرنسية رايس. في نفس اليوم تلقى الإليزيه إشارات إيجابية من طهران. لقد أصبح ملف الفرنسية ناضجا، لأن التهديد بعقوبات جديدة ضد طهران يقترب من مجلس الأمن، وحان الوقت ليظهر أحمدي نجاد حسن نيته. وبالفعل، استقبلت طهران يوم 16 ماي، الرئيسيين البرازيلي والتركي العضوين في مجلس الأمن من أجل وساطة وصفت بوساطة «الفرصة الاخيرة» في هذا الملف الحساس. وأعلن بعدها عن التوصل الى اتفاق في الوقت الذي كانت طهران تحتضن قمة لمجموعة 15 التي تضم قوى سابقة من حركة عدم الانحياز منها السينغال والجزائر التي نشطت أيضا في ملف كلوتيليد. وبالإفراج عن الفرنسية يكون النظام في طهران قد أظهر أن التفاوض معه يمكن أن يعطي نتائج. ومع العزلة التي تعيشها على الساحة الدولية، فإن إيران تبرز فعالية دبلوماسية بعض الدول التي تقدم لها دعما ثمينا. المخابرات الفرنسية تنفي أن تكون كلوتيلد رايس ضمن قوائم عملائها نفي المديرية العامة للمخابرات الخارجية (DGSE)كان واضحا: «كلوتيلد رايس لم يسبق لها أن كانت مسجلة كعميل، ولم يسبق لها أن تعاملت مع مصالحنا». وقبيل الإفراج عن الفرنسية، خرج مدير مساعد سابق في المخابرات الخارجية الفرنسية بيير سيرامي ليؤكد لإحدى القنوات الفرنسية بأن كلوتيد رايس التي لم يسبق أن كانت عميلة مخابرات بالمعنى الكلاسيكي للكلمة ، كانت تزود السفارة الفرنسية «بمعلومات في ميدانيين محددين»: السياسة الداخلية الإيرانية والانتشار النووي. ويضيف سيرامي «لقد اتصلت بالسفارة وقبلت الشروط: أي التكتم الكامل الذي احترمته تماما». سيرامي الذي أصدر كتابا صحبة الصحفي لوران ليجي تحت عنوان: «25 سنة في المخابرات السرية»، قال أيضاً، إن كلوتيلد رايس كانت «مشرفة وشجاعة» و «تستحق التحية كشخص قام بعمل جيد». التكذيب الرسمي للمديرية العامة للمخابرات الخارجية على هذه التصريحات غير المألوفة وربما غير المسبوقة في ميدان قاعدته الأساسية هي التكتم، يبدو كلاسيكيا. ومن الواضح أن كتاب سيرامي لم يعجب إدارة المخابرات الفرنسية. وحسب خبر نشرته أسبوعية «ليكسبريس»، ذكر أن وزير الدفاع الفرنسي هيرفي موران طلب دراسة إمكانية رفع دعوى قضائية بتهمة خرق السر المهني. لكن سيرامي يؤكد مع ذلك أن كلوتيلد كانت تقدم معلومات على المستوى الدبلوماسي والنووي منذ سنتين أو ثلاث سنوات، لكنها في نظره لم تكن عميلا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة ولا حتى «مراسلا»، ولكنها كانت فقط «اتصالا». وهذين الصنفين من الأشخاص لا يتقاضون أجوراً على المعلومات المقدمة. والد كلوتيلد يعتبر أن هذه الأخبار لا تعني شيئا ولا علم له بها، غير أن الصحفي المشارك في تأليف الكتاب لوران ليجي قال، إن اسم كلوتيلد أثير عدة مرات وطرح السؤال عما إذا كان لابد من ذكره في الكتاب، ولكن كان «واضحا أن اسمها لا يمكن إثارته مادامت لا تزال معتقلة في إيران». سفير إيران في باريس «علي أهاني» صرح يوم 25 غشت 2009 لصحيفة «لوباريزيان» أن كلوتيلد رايس «كانت تحت المراقبة مادامت فوق التراب الإيراني»، كما تحدث أهاني عن تقرير أعدته الشابة الفرنسية عندما كانت متدربة لدى مفوضية الطاقة النووية التي كان يشتغل بها والدها، وبالتالي يؤكد السفير الإيراني «هذه الوثيقة تبرر شكوكنا تجاهها». كلوتيلد رايس: المغرمة بإيران منذ صغرها، عاشت كلوتيلد رايس وسط المنفيين الإيرانيين وتشعبت بالثقافة الفارسية. وتعلمت اللغة الفارسية ونشرت سنة 2007 تقريرا عن النووي الإيراني، الذي كان بداية متاعبها. كانت شابة خجولة لكنها صارمة ومتحفزة مثل جميع أقرانها، متعطشة للعمل الإنساني. ولكنها كانت كذلك مختلفة مسيحية وتعشق الشرق وبالأخص إيران. لم تكن كلوتيلد ، ذات 24 ربيعا ، مهيأة لتصبح أداة للعلاقات السيئة بين إيرانوفرنسا. لكنها أظهرت هدوءا نادرا بعد اعتقالها من طرف الشرطة وحجم التهم الموجهة إليها ومدة اعتقالها بسجن ايفين تم المحاكمة التي انتهت بالإفراج عنها يوم 15 ماي. في إقامتها الإجبارية بالسفارة الفرنسية في طهران لعدة أسابيع لم يتسلل الملل إلى الشابة كلوتيلد، التي كانت تمارس رياضة الجري كل صباح وتقرأ وتستمع للموسيقى، بل تمكنت من اجتياز امتحان السنة الأولى من الإجازة في اللغة العربية بالمراسلة. كانت مجدة في إقامتها الصغيرة التي أعدت لها في أحد أجنحة مكاتب السفارة الفرنسية بطهران. كانت كتومة، حريصة علي إخفاء حياتها الخاصة في هذا المكان المغلق. وسط عائلتها كانت كلوتيلد معروفة بعشقها لإيران، عشق غدته الصدفة والعلاقات، عشق تولد لديها عندما كانت طفلة . في المقاطعة 13 بباريس التي انتقلت إليها عائلتها، كان الجوار صورة للصراعات السياسية التي تهز آسيا الوسطى. ومنذ 1976 واندلاع الثورة الخمينية ، استقرت عشرات العائلات الإيرانية المنفية في العمارة التي تقطنها عائلة كلوتيلد من بينهم عائلة «غاراي». الأب كان طبيبا والأم «باريروخ غاراي» لم تكن تتقن اللغة الفرنسية وبسرعة توطدت علاقتها بوالدة كلوتليلد، ماري أنييس. السيدة رايس كانت تشتغل ضابطا في الجيش الفرنسي وكانت آنذاك تشرف علي مصلحة بأحد أقسام مستشفى «فال دوغراس» العسكري بباريس. ولكن مرض السرطان أجبرها علي دخول المستشفى لمدد طويلة. كان أولادها صغارا وخاصة كلوتيلد التي لم يكن عمرها يتجاوز 5 سنوات. وتطوعت باريروخ غاراي للاعتناء بها ورعايتها، وترعرعت الصغيرة في أحصان التربية والحكايات الفارسية. وعندما توفيت والدتها كان عمر كلوتيلد لا يتجاوز 15 سنة. وكان والدها «ريمي رايس» إطارا في شركة «ألستوم» قبل أن يتحلق بمفوضية الطاقة الذرية كمهندس. بعد حصولها علي الباكالوريا، قامت كلوتيلد مع مربيتها الإيرانية بأول زيارة لإيران وعادت منها عازمة علي تعلم الفارسية. وبموازاة حصولها على الإجازة في التاريخ من جامعة السوريون، حصلت أيضا على دبلوم من المعهد الوطني للغات والحاضرات الشرقية بميزة حسن ،تم اتصلت بالمعهد الفرسني للأبحاث الإيرانية في طهران، الذي يحضى باحترام كبير في الأسواط الثقافية الإيرانية، لكن النظام يعتبره وكرا للجواسيس ، هذا المعهد استقبل كلوتليد في مناسبتين . لكن الشابة اكتشفت أن شواهدها لا توفر العيش المطلوب ، ولذلك توجههت إلى مفوضية الطاقة الذرية التي كان يشتغل بها والدها. وفي خضم الجدل الدولي حول الملف النووي الايراني، طلبت المفوضية من الشابة المتدربة إعداد دراسة حول الملف النووي في الصحافة الإيرانية. وأعدت أيضا ورقة تحت عنوان «كيف تفهم السياسة الإيرانية في ظل الأزمة النووية» ، وهي عبارة عن تقرير من 5 صفحات تحلل فيه كلوتيلد الوضعية الجيوستراتيجية للبلد وخلاصته الواضحة هي نظرة عدم الاحترام التي تنظر بها للنظام الإيراني حيث تقول «إن الإجراءات الأخيرة للأم المتحدة والولايات المتحدة الرامية إلى ضرب «حراس الثورة» ، تبدو وسيلة جيدة لضرب مصالح الطبقة السياسية وإضعاف النظام». وقد كانت هذه الوثيقة هي التي اعتمدتها إيران بعد عامين لاتهام كلوتيلد بالتجسس. في سنة 2008، حصلت كلوتيلد علي منصب قارئة للغة الفرنسية في جامعة اصفهان المدينة المحافضة والهادئة أكثر من ظهران الصاخبة . عاشت في البداية في الحي الجامعي على أطراف المدينة قبل أن تعتر علي شقة صغيرة في قلب الحي الأرمني واليهودي ، الذي يعتبر «غيتو» متحرر نسبيا بالمدينة. استطاعت أن تتأقلم مع كل شيء في ريران بما في ذلك الحجاب ، وخاصة الإداراة الإيرانية التي أصبحت هاجسها الدائم. لأن ازعاجها لم يفارقها منذ دخلت إيران حيث كانت تقطع 335 كلم كل شهر لتجديد تأشيرتها في طهران. كانت تجهل إنها مراقبة بعدما اطلعت السلطات على التقرير الذي أعدته سنة 2007 كمتدربة لدى مفوضية الطاقة النووية . ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية عادت إلى طهران يوم 13 يونيه وعقب هذه الاتخابات فاجأتها المظاهرات كما فاجأت الإيرانيين. ومع توالي الأيام كانت تحكي لأصدقائها في فرنسا عبر الرسائل الإلكترونية والأنترنيت ما يجري... لم تكن تعرف أن الخناق يشتد حولها. وعندما بدأت الشرطة اعتقال المئات من المتظاهرين تم اعتقالها يوم 1 يوليوز وهي في المطار للإقلاع إلى باريس.