أربعون عاما مرت على آخر زيارة لي للبلد. في البداية كان لابد من أن أتكيف مع وضعي الجديد كبدوي أقام في المدينة. عليّ أن أجدّ في عملي لكسب ثقة الرؤساء وود الزملاء. وعليّ أن أتعلم اقتناء البدلات؛ واختيار ألوان ربطات العنق؛ والعطر الملائم للفصول؛ وتلميع الأحذية، وتناسق الألوان. ثم عليّ أن أتعلم رسم البسمة والرّضي على المحيا في جميع الحالات. أن تنجح هو أن تستطيع العمل ضمن المجموعة قال لي أقرب الزملاء ذات فطور أديت ثمنه. كما عليك أن تتقبل معاييرها، وعليك أن تنتمي لشبكة ما، لجمعية أو نادي أو حزب أو طاولة في مقهى. ثم لابد أن أبني دارا، قبر الدنيا، بلغة أهل المدينة، لا يمكن أن أبقى في دار الكراء طول العمر، خاصة بعدما كبر الأبناء وأكملوا دراستهم. بعد كل ذلك عملت عل كسب ود الجيران وأصدقاء النادي. واستقر الحال وأصبحت ابن مدينة أحببتها صدقا ليس بالتاريخ، ولكن بالرغبة والمنافع. بدأت أسوّف واختلق الأعذار؛ أشغالي الكثيرة في المكتب؛ وجلسائي في المقهى؛ وقراءة الصحف، وتتبع المقابلات. كل ذلك يؤجل تفكيري في الرحيل. إلا عندما استعد للنوم، حينذاك تنساب الصور أمام عيني واضحة كمرآة. في كل صيف أفكر في العودة ولو لأيام، لكن الأبناء يصرون على رحلة الشمال. الجنوب غير محتمل في الصيف يقولون، اذهب أنت إذا شئت. ومرت السنون وغزا الشيب مفرقي؛ وبدأت أشعر بوجود مفاصلي؛ وأصبح الزكام يغلبني؛ ولم يعد العمل يفرحني، وفارقت المقاهي. لقد أصبحت المدينة جد ملوثة؛ وعلا الضجيج كل مكان؛ ورحل من الأصدقاء إلى لله من رحل؛ والتصق الباقي بهموم صغيرة منفرة. وذات مساء قررت الرحيل. وفعلتها. تحيرت في البداية بين أن أسكن دارنا العتيقة أم اكتري منزلا، أم أن أقيم في نزل حتى .وبعد مشاورات قررت العودة إلى الدار القديمة. مرت الأيام الأولى كأني في حلم، بعد كل فطور أخرج إلى المزرعة وأتنفس الكون، كل الكون. المزرعة لم تتغير في ما يبدو. تعرفت حتى على النخلة تلك؛ والزيتونة التي في مفترق الطرق ونهاية الساقية؛ والأثل العملاق الذي كان يسكنه الثعلب. وملأت النشوة كياني، واسترجعت بعض حبوري الطفولي. وبدأت أتعرف على الناس، وأعيد تمييز معرفة العلاقات السلالية، والتي بالمصاهرة والتي بالجوار. قلت أزور المقهى الوحيد. كان الشباب ودودا ويلعبون الكرة الحديدية كل مساء. وبدأ التواصل بطلب الهويات. ولما كثرت الأسئلة شعرت بإزعاج الرواد، وليس في القرية مقهى آخر. هذا ما يميز المدينة، إنه الاختيار. يمكنك أن تغير كل شيء في المدينة، الأمكنة والناس والحقيقة. ثم بدأ الناس يتساءلون وماذا يريد هذا «البراني» منا نحن الفقراء؟ ربما يترصد أرضا أو منفعة، أو يهيئ نفسه للانتخابات. عندما أمر وأسلّم يرد بعضهم والآخر لا يرد. وفي المدينة كل يصنع عقيدته ويمضي. في المدينة كل شيء مؤقت وقابل للتغيير. وهنا تثبت الأشياء كطمي الوادي. لقد تغير كل شيء، فقريتك لا توجد سوى في الأحلام. ارحل.