لا يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون استحضار تجربة عميد المسرح المغربي الأستاذ عبد القادر البدوي، الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى 67 لوقوفه على خشبة المسرح. عمر مسرحي مديد، قدم خلاله روائع وتحف مسرحية خالدة، لتجعل منه أحد الأضلاع الكبرى والدعامات الرئيسية للمسرح المغربي، الذي قدر له أن يعيش اليوم تراجعا كبيرا، بفعل غياب سياسة ثقافية، تجعل من أبي الفنون رافعة وقاطرة تجر وراءها باقي الأصناف الفنية. تجربة مسرح البدوي تعدت الحدود، ودخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية، العربية و الدولية، تعززت بالتحاق أبناء الأستاذ عبد القادر البدوي بكل من مصر، بلجيكا و الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل الدراسة الأكاديمية الفنية المتخصصة فعادوا محملين بشواهد عليا و بتجارب فنية أخرى، تفاعلت مع فكر الأب عبد القادرالبدوي وانصهرت، فانعكست إيجابا على هذه التجربة الفنية الرائدة. ويصفه البعض بزعيم المسرح الثوري المغربي، والبعض الآخر أطلق عليه اسم بنبركة المسرحي، وفئة أخرى، ترى فيه مشاغبا، ومعارضا يجب الحذر منه، وتحجيمه. رجل بهذا الزخم وهذا العطاء، يستحق منا أن ننبش في ذاكرته، ونغوص معه في أحداث هذه السنوات الطويلة، لنكون فكرة عن ماضي وبالتالي عن واقع المسرح المغربي. من خلال هذه السلسلة الحوارية التي قررنا أن» نتطاول» فيها على ماضي وحاضر العميد عبد القادر البدوي. o حدثنا عن البداية، ومن هو الأستاذ عبد القادر البدوي؟ n أنا من مواليد سنة 1934 بمدينة طنجة. لكني سأعلن لأول مرة للقارئ وللمتتبع عن طريقة الميلاد. كان والدي رحمه الله يعمل تقنيا بشركة التبغ بمدينة طنجة، وفي سنة 1932 انتقل إلى مدينة الدارالبيضاء، رفقة مجموعة من العاملين الآخرين، بعدما قررت الشركة الانتقال إلى العاصمة الاقتصادية. ترك الوالد أمي بمدينة طنجة، وانتقل بمفرده، حتى يهيء لها أجواء الانتقال، وكذا قياس درجة التأقلم مع هذه المدينة، التي لم يكن يعرف عنها أي شيء. بعد أن أيقن بأن الأجواء لا تختلف كثيرا عن الحياة بطنجة، اصطحب معه والدتي، التي قضت بالبيضاء الأشهر السبعة الأولى من حملها بي، ثم عادت عبر الباخرة إلى مدينة طنجة، فأنجبتني هناك. كان والدي يملك بيتا بحي المصلى. وهذا البيت له حكاية. فوالدي رحمه الله، كان في بداياته عاملا بسيطا في مجال الخياطة، وكانت والدتي، التي تنحدر من جدور ريفية، تحت كفالة عمها، الذي كان من أعيان منطقة السواني، التي كانت آنذاك منطقة فلاحية كبرى. تعرف والدي على والدتي أثناء زياراته لبيت عمي، حيث كان يخيط لنساء العائلة الملابس، فعبر عن رغبته في خطبة والدتي. رفض عمها رفضا باتا، لأنه لم يستسغ فكرة أن يتصاهر مع عامل بسيط، بل تساءل كيف تجرأ والدي وتقدم لطلب يد ابنة أخيه، ثم كيف رآها وهي التي لم تكن تخرج من البيت. ووصل به الغضب إلى درجة أن حاول تصفية والدي رميا بالرصاص، غير أن معارف عمي تدخلوا في القضية، لأنهم كانوا يعلمون مدى التزام والدي واجتهاده وكذا حسن أخلاقه. طلب عم والدتي أن يجالس والدي، وأثناء تجاذب أطراف الحديث طلب منه أن يغير العمل أولا. فالتحق والدي بشركة التبغ، وأخبر عم الوالدة بالأمر، فطلب منه بعدها أن يمتلك بيتا مستقلا، وفعلا اشترى أرضا وبنى منزلا بحي المصلى، وبعد أن لمس عم والدتي مدى إصرار والدي قبل أن يزوجه ابنة أخيه. كان جدي لأبي رجلا صوفيا، فقرر بعد ولادتي أن أسمى الصادق عبد القادر، وأصر على موقفه، مما خلق نوعا من الانزعاج لدى بعض العائلة، لأنهم كانوا يريدون أن يسموني بأسماء أخرى، ليتقرر في النهاية اسم عبد القادر. أقام لي والدي عقيقة من سبعة أيام بحي المصلى، وبعدها أصرت عائلة والدتي بالسواني على إقامة عقيقة من سبعة أيام أخرى. وبعد أن أكملت ستة أشهر الأولى عاد بنا والدي إلى الدارالبيضاء رفقة جدتي لأمي. كان الاستقرار في البداية بحي الأحباس، لأن أرباب العائلات الطنجاوية، التي استقرت في تلك الفترة بمدينة الدارالبيضاء اشترطوا على شركة التبغ من أجل قبول الانتقال أن يحصلوا على سكن لائق، فوفرت لهم مساكن بحي الأحباس ودرب ليهودي. كان تسكن بجوارنا عائلة علي يعتة، لأن والده كان يشتغل مترجما بشركة التبغ، وهو الآخر هاجر من طنجة إلى الدارالبيضاء. وكانت تربطنا بهذه العائلة علاقة صداقة متينة. كان حي الأحباس في تلك الفترة راقيا، وكانت تقطن به نخبة من أبناء مدينة فاس، حلوا بالدارالبيضاء من أجل التجارة. فكانت هذه المنازل مكتراة فقط، لأنها في ملكية الأحباس. بعد أن بلغت السادسة من عمري أدخلني والدي إلى مدرسة النجاح، التي كانت تبعد عن البيت ببضعة أمتار. وبالقرب منها كانت تتواجد أيضا مدرسة الفلاح. كانت مدرسة النجاح تضم في تلك الفترة أبناء النخبة، وأبناء الطبقة الميسورة. فكان المنهاج التعليمي يرتكز بالأساس على اللغة العربية، وكانت الفرنسية ثانوية، لأن الحركة الوطنية حينها، وبعدما أنشأت هذه المدارس الحرة، كانت ترفض الاستعمار، وتعتبر أن اللغة التي يجب التعامل بها هي العربية، ولا يمكن للمغربي أن يستعمل الفرنسية في حياته اليومية. بعد أن كبر شقيقي عبد النبي سيدخل هو الآخر إلى المدرسة. في هذه الفترة كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، ولحد الساعة أتذكر بعض المشاهد، التي مازالت عالقة بذاكرتي، حيث كان والدي يقوم بطلاء زجاج البيت، حتى لا ترصدنا طائرات ألمانيا، التي كانت تقصف جيوش الحلفاء. هؤلا العسكريون كانوا يسلموننا الحلويات والشكولاتة، وبعض المأكولات، كالموز المصبر، الذي لم أشاهد له مثيلا منذ تلك الفترة. o ما هي الدروس التي كانت تقدم لكم في هذه الفترة؟ n بالإضافة إلى الدروس العادية، كنا نتعلم الشعر والخطابة، وأيضا المسرح، فكانت الحفلات التي تنظم بمناسبة عيد العرش تنشط من طرف الأساتذة والمعلمين، وأيضا تلاميذ المدارس الحرة. لقد كانت هذه الحفلات تؤطر من طرف رواد الحركة الوطنية. o من كان يشرف على هذه المدارس الحرة في تلك الفترة؟ n كانت الحركة الوطنية هي التي تبنت هذه المدارس، وعلى رأس كل واحدة كان يعين مديرا، والكل منصهر في هدف واحد، وهو مناهضة الاستعمار، وبأي طريقة. فحتى الأحزاب المتواجدة حينها، كانت موحدة الهدف. فرغم أن حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال كانا قويين، لم تكن بينهما أي خلافات، بل كانت الأدوار موزعة بينهما، وكانا يكملان بعضهما البعض، بعيدا عن أي مزايدات. وبموازاة مع كل هذا، كانت الفرق الرياضية متواجدة بكثرة، وهكذا يتضح أننا تربينا في مناخ سليم، حيث كان يؤطرنا أساتذة ومعلمون مكنونا في فنيات الشعر والخطابة، وحتى المسرح. وهنا يكمن السر في قوة الشخصية التي كان يتمتع بها جيلنا، لأن الزعماء الذين كانوا في تلك الفترة حرصوا على تكوين شخصية قوية للمواطن المغربي. وفعلا استطاعت الحركة الوطنية أن تملأ فراغ الشباب المغربي في تلك الفترة، حيث كانت ممارسة الرياضة من الطقوس اليومية، ولاسيما كرة القدم. كانت تنظم دوريات في كرة القدم فيما بين المدارس، وكان يشرف على تأطرينا أشخاص تركوا بصماتهم في تاريخ الرياضة المغربية، وفي مقدمتهم المرحوم عبد القادر الخميري، الذي كان يشتغل إلى جانب والدي في شركة التبغ، وطلب منه أن يشرف على تدريبنا، خلال منتصف الأربعينات. كانت تداريبنا من طرف الخميري تجري بأحد الفضاءات المتاخمة للمسجد المحمدي. كانت المساحات الفارغة شاسعة، وكان أكثر من نصف هذه المساحات يستخدم كمتاريس عسكرية إبان الحرب العالمية. كنت لاعبا جيدا لكرة القدم، وقدت فريق المدرسة حينها إلى الفوز بأحد الدورات، وجرت المباراة النهائية بملعب كان يسمى لآنذاك " تيران لحويط" بالقرب من مقر شركة التبغ القديم. كانت الملاعب منتشرة بشكل كبير، لأن المساحات متواجدة. وإلى جانب هذا الملعب، كان هناك ملعبا ثانيا يسمى " تيران البرواك" وآخر يدعي " تيران العسكر" ورابع يدعي " تيران الحلفة". كانت هذه الملاعب القبلة المفضلة لنا، وكانت المباريات يشبه يومية. جرت هذه المباراة تحت أنظار بعض مؤطري الوداد البيضاوي، يتقدمهم المرحوم قاسم، الذي تحول إلى التدريب بعدما كان لاعبا متميزا، وكان برفقته شخصان آخران. بعد أن نلت إعجابهم، طلبوا مني أن انضم للفريق الأحمر، فقلت لهم أن يطلبوا ذلك من والدي، وفعلا اتصلوا به فوافق، واصطحبني في اليوم المتفق عليه إلى مقر نادي الوداد بالمدينة القديمة، غير أننا لم نجد أحدا في انتظارنا، وبقينا هناك من الساعة السادسة إلى السابعة والنصف، لنعود من حيث أتينا. خلفت هذه الواقعة حسرة في نفس والدي، الذي لم يستسغ هذا التجاهل. حكى ما حصل لزملائه داخل نادي الشعب، الذي كان أحد أعضائه الفاعلين، وكان بجانبه كل من البيتشو الأكبر والحاج محمد اللذين كانا يلعبان لفريق الراك وعمر البيكادي، لاعب الياسام والزهر الأكبر، شقيق عبد الله، الذي حمل ألوان فريق الرجاء البيضاوي، وغيرهم من اللاعبين المتميزين في تلك الفترة. تساءل أصدقاء والدي، كيف له أن يذهب بي إلى الوداد وهو لاعبون رسميون بالراك، فأجابهم بأنه لم يكن في نيته أن ألعب "لا للواك ولا للراك"، فكل ما في الأمر أن قاسم عرض عليه الانتقال إلى الوداد، وضرب له موعدا ثم أخلفه. هنا تقرر أن ألتحق بفريق الراك. o من كان يسير فريق الراك في تلك الفترة؟ n لا أتذكر من كان يرأس الفريق حينها، لكني أتذكر اسم المدرب، وكان دانيال بيلار، وكان أيضا الدكتور فورنيي، الذي سيتولى تسيير الفريق فيما بعد. o ألم يكن من بينهم المرحوم النتيفي؟ n بالطبع كان أحمد النتيفي متواجدا، بيد أنه لم يكن بعد قد تولى الرئاسة. كان ابن الدكتور فورني يلعب معنا في هذه فئة الصغار، فكان يقلني على متن سيارته رفقة ابنه إلى ملعب التداريب بحي المطار (لافياسيون)، حيث تتواجد حاليا ملاعب الوداد والرجاء. كان فريق الراك يتوفر على إمكانيات مهمة في تلك الفترة، وجدت أنه فعلا ناديا بكل ما في الكلمة من معنى، حيث كانت ملاعب التداريب الخاصة بالصغار والفتيان تناهز العشرة. كانت المساحات رحبة، وكانت الفواكه منتشرة بحدائق الفيلات، وكنا عند العودة من التداريب بقوم بقطفها وأكلها. o مَن مِن الأسماء التي جايلتك في تلك الفترة، وبرزت فيما بعد رفقة الراك؟ n العربي، الذي غادر إلى دار البقاء رحمه الله،- ليس العربي أحرضان أطال الله في عمره- هذا العربي عندما قدم من البادية، توسط له والدي كي يشتغل بشركة التبغ، ونظرا لكونه يتوفر على موهبة في كرة القدم، وبنية جسمانية مهمة، لفت أنظار مسؤولي الراك، والتحق بالفريق، وبعدها انضم إلى فريق الياسام، وهو في سن الثامنة عشر من عمره، ثم التحق بالفريق الوطني في سن 21. كما برز أيضا مصفى الصقلي، الذي كان أيضا بطلا كبيرا في حمل الأثقال. قضيت سنة بصغار الراك، وكنت أشغل مكان وسط ميدان أيمن. وفي السنة الموالية، كان فريق الفتيان يضم ثلاثة لاعبين مغاربة مسلمين فقط، من بينهم شابين قادمين من وجدة، لم أتذكر اسميهما، والعلمي، الذي سيتحول فيما بعد إلى المجال الصحفي، وسيصبح مذيعا بالتلفزيون المغربي. كان العلمي يلعب في الفتيان وسط ميدان أيمن، لأن كرة القدم كانت تعتمد الطريقة التقليدية ((WM، قد تعرض لإصابة حرمته من اللعب. وفي أحدى المباريات الخاصة بالصغار، طلب مني المدرب الفرنسي، الذي كان مكلفا بهذه الفئة، ويدعى " ميسيو لارناك" أن أغادر الملعب بعد ربع ساعة من بداية اللقاء. لم يعجبني هذا القرار ، لأنني كنت قد سجلت للتو هدفا، وكنت أريد إكمال المباراة، غير أن " ميسيو لارناك" أخبرني بأنه تلقى اتصالا يطلب مني أن التحق بفريق الفتيان، الذي كان مقبلا على خوض مباراة أمام فتيان الوداد، في رفع ستار مباراة نهائية بين كبار الفريقين ب "سطاد فيليب". فرحت كثيرا، وأخبرت والدي الذي كان يتابعني بالمدرجات، بهذا القرار الهام. تناولنا الغذاء، وكانت فرحتي لا توصف، وقلت له إن اليوم سيكون مشهودا في حياتي، وستكون انطلاقتي نحو الفريق الأول. o كيف كان دخولك أول مرة لسطاد فيليب، وكيف عشت الأجواء؟ n كانت فرحتي كبيرة، وكانت المدرجات مملوءة بالجماهير، التي حجت لمشاهدة هذا اللقاء النهائي، وفي مقدمة الحضور رئيس الجامعة، الفرنسي بونا وباقي أعضاء مكتبه، الذين كان كلهم فرنسيون. دخلنا اللقاء، ومرت حوالي نصف ساعة دون أهداف، وبما أن خطة اللعب كانت تعتمد على الحراسة اللصيقة، كان مدافعا أيسر من فريق الوداد يقف كظل لي. ومع اقتراب نهاية الشوط الأول، توصلت بكرة، وموهت خصمي بحركة سريعة، وتجاوزته، وراوغت لاعبا ثانيا، ثم توغلت داخل معترك العمليات، فأسقطني المدافع الأيسر، وحصل الفريق على ضربة جزاء، كلفني المدرب بيلار بتسديدها، فسجلت الهدف الأول. كان بيلار مدربا ذكيا، ومن ضمن الدروس التي لقننا إياها في تلك الفترة، أن اللاعب يجب أن يلعب برجلين، وكان أي لاعب يلعب رجل واحدة، يفرض عليه ضرب الكرة بالرجل الضعيفة، ويحرم عليه استعمال بالرجل المتميزة، حتى يكتسب مهارة الرجلين معا. وكنت من بين اللاعبين الذين استفادوا من هذا الدرس. سددت الكرة باليسرى، فذهب الحارس في جهة والكرة في الجهة الأخرى. بعد العودة من مستوع الملابس، وبُعيد انطلاق الجولة الثانية، سأتعرض لإصابة من طرف المدافع الأيسر، فغادرت الملعب، وكانت هذه الإصابة نقطة نهاية بيني وبين الراك.