منذ تولي حزب العدالة والتنمية مسؤولية رئاسة الحكومة من جهة، واحتلال المرتبة الأولى في الفرق النيابية لمجلس النواب, طغى خطاب الإصلاح على كل تدخلات رئيس الحكومة وأعضائها وكذا في التصريحات التي يدلي بها أعضاء فريق العدالة والتنمية, سواء في مجلس النواب أو عبر وسائل الإعلام المختلفة, واستطاع هذا الخطاب أن يخترق قناعة المغاربة والرأي العام وترجمت هذه القناعة بما تم تداوله في الفترة السابقة والمعبرة عنه ب «خليو الناس يخدمو». في الدول الديمقراطية التي يتم التناوب فيها على الحكومة بعد كل عملية انتخاب لأعضاء مجلس النواب, تسأل الحكومة بعد 100 يوم من عملها. لأن الغاية والمبرر لذلك هو أن الحزب الذي يتولى مهام الحكومة يكون له برنامج يقدمه للمواطنين وعلى أساسه تتعاقد معهم، لهذا تقوم الدول الديمقراطية بمساءلة تلك الحكومة داخل أجل 100 يوم, اي مساءلتها عن تنفيذ برنامجها. وكما هو معلوم أن برنامج أي حكومة ليس هو الخطاب الذي تروجه ، وإنما برنامجها وسياستها هي مشاريع القوانين التي تقدمها للبرلمان, لأن تلك المشاريع هي التي تترجم إرادة حكومة وسياستها وحقيقة خطابها الشفوي وتبين تصورها للجميع وإلى أي اتجاه تريد أن تأخذه إليه. وبخصوص الحكومة الحالية والتي اختارت كما سبق ذكره خطاب الإصلاح كآلية للتعامل مع المغاربة بادرت إلى تقديم مشروع لتعديل قانون المسطرة الجنائية. فهل مشروع القانون هذا هو قانون للإصلاح ,أم أنه مشروع قانون يحمل تراجعا على المكتسبات في مجال الحريات العامة والخاصة، علما أن قانون المسطرة الجنائية هو القانون المنظم لحماية تلك الحريات، وبه تشتغل الحكومات, إما لتوسيع الحريات أو للتقليص منها بحسب تصورها و خلفيتها الفكرية, هل هي ديموقراطية تؤمن باشراك الشعب في الحياة العامة ام انها استبدادية و تحكمية تستعمل القانون لتثبيت التحكم في المجتمع بواسطة القانون. وقبل الدخول في تبيان التراجعات التي ستمس الحقوق المكتسبة في الحريات العامة والخاصة, لابد من الإشارة إلى أن دولة الحريات والكرامة هي « Etat de droit « اي دولة الحق و القانون وليس « Etat des lois اي دولة القانون ، إذ أن القانون الذي لا يعمل لصيانة وحماية الحق يصبح عدوا للحق وآلية للتحكم والاستبداد. فما هي إذن التراجعات عن الحقوق المكتسبة في الحريات التي يحملها مشروع قانون المسطرة الجنائية المقدم من السيد وزير العدل. يمكن تصنيف التراجعات التي حملها مشروع قانون المسطرة الجنائية الى نوعين من التراجعات، الأولى، تهم التراجع في مقابل ما أتى به دستور 2011 من حقوق و ضمانات , و الثانية تهم التراجع على المكتسبات التي ينص عليها قانون المسطرة الجنائية الحالي. بخصوص التراجعات يمكن حصرها في هذه القراءة الأولى في 23 تراجعا عن الحقوق المكتسبة. التراجع الأول: 1 -المادة 15 حصرت الحق في اطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء في النيابة العامة والشرطة القضائية وحدهما, مما يعني أنه ما عدا النيابة العامة والشرطة القضائية لا يمكن لأي كان أن يتكلم أو ينقل أي شيء على القضايا المعروضة على المحاكم بما فيهم محامي المتهم المعني بتلك القضايا. وهو الإجراء الجديد فيه تعدي على دور الصحافة من جهة، وعلى حق المتهم في تقديم رأيه حول قضية للرأي العام. علما أن هذا النقاش كان دائما قائما بين النيابة العامة من جهة ومحاميي المتهمين والصحافة من جهة أخرى. غير أن الحكومة الحالية حسمت هذا النقاش لفائدة النيابة العامة والشرطة القضائية و منعت على الصحافي ومحامي المتهم التكلم مع الرأي العام على تلك القضايا وهو ما يشكل تراجعا كبيرا، بل ومفاجئا، مس حق المتهم في الدفاع عن نفسه أمام الرأي العام و مقومة تكييف الرأي العام من قبل ما تقدمه النيابة العامة باعتبارها جهاز للاتهام ,كما أنه يمس العمل الصحافي لأنه يمس الحق في الوصول للمعلومة الذي هو مطلب مشروع لكل الصحافيين. التراجع الثاني ويتجلى في التعديل الذي أدخلته الحكومة على المادة 40 والتي مددت بواسطته حق النيابة العامة في رفع أجل إقفال الحدود من شهر كما هو جاري العمل به اليوم إلى 3 أشهر و هو تراجع يمس الحق الدستوري في حرية التنقل و يقوى دور النيابة العامة على حقوق دفاع المتهم. التراجع الثالث وهو ما حملته المادة 47 التي أعطت لوكيل الملك بأن يودع المتهم بالسجن بدون أن يستنطقه، وهي المهمة التي كان على وكيل الملك القيام بها قبل الأمر بإيداع المتهم في السجن, كما تنص على ذلك المادة 47 الجاري بها العمل . وقد يظهر أن هذا التعديل ليس له أي اهمية, لكن عندما نعلم أن استنطاق المتهم أمام وكيل الملك هو استنطاق يحضره المحامي وهو مناسبة لشرح القضية أمام وكيل الملك والإدلاء بوسائل الدفاع على المتهم و شعور هذا الأخير بالاطمئنان. فعندما تلغى الزامية استنطاق النيابة العامة قبل اتخاذ الأمر بالاعتقال, فإن ذلك يعني إلغاء حق المتهم في مناقشة ما يتهم به بحضور محاميه معه أمام وكيل الملك. التراجع الرابع وهو أكثر التراجعات أثرا, ليس فقط على حقوق الأفراد، وليس لأنه مثل باقي التراجعات التي مددت اختصاصات النيابة العامة مقابل حقوق الأطراف الأخرى، بل إنه أثر عليه بالأساس على مبدأ استقلال القضاء واستقلال الاعضاء المكونين للنيابة العامة. وهذا التراجع يهم ما أتت به المادة 51 من قواعد جديدة وهي: 1 -إسناد رئاسة النيابة العامة للوكيل العام لدى محكمة النقض. 2 -إعطائه الحق في مراجعة جميع الأحكام 3 -النص على أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض يتولى السهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع إقليم المملكة 4 -عدم إخضاعه للمتابعة و تحصينه منها بصفة مطلقة. التراجع الخامس وتتجلى هذه التراجعات: أ- في كون إسناد رئاسة النيابة العامة للوكيل العام لمحكمة النقض، في نفس الوقت الذي هو عضو في المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو في نفس الوقت المسؤول الثاني في محكمة النقض, ستؤدي إلى تجميع سلطات النيابة العامة التي هي من اهم و اخطر السلطات في الدولة, لأن النيابة العامة تحتكر, قانونا , استعمال العنف المشروع بالأمر به او بإيقافه , في يد شخص واحد, وهو ما يلغي أي استقلال للأعضاء المكونين للنيابة العامة من وكلاء عاملين لدى محكمة الاستئناف ووكلاء الملك ونوابه. بينما قانون المسطرة الجنائية جعل رئاسة النيابة العامة موزعة على الوكلاء العامين لدى محاكم الاستيناف و لم يسندها قط حتى الى وزير العدل. ب-أن إعطاءه الحق في طلب مراجعة الأحكام بطريقة مطلقة هو إعطاؤه سلطة فوق أطراف النزاع و فوق القضاء, مادام أن كلمة القضاء هي التي يجب أن تعلو وأن احكامه النهائية لا يمكن أن تكون موضوع مراجعة من قبل النيابة العامة التي هي الطرف الرئيس في الدعوى , وهو ما قد يفسر ان الوكيل العام سيطلب مراجعة كل حكم لم يسايره في ملتمساته, مما يخل بالمبادئ الأولية للمحاكمة العادلة .وعلما كذلك أن كلمة «طلب مراجعة» أتت في نص المادة 51 مطلقة وبدون أي قيود تشريعية أو مسطرية. ج- أسند له مشروع قانون المسطرة الجنائية السهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع إقليم المملكة « وهي مهمة لا تسند الا لممثلي رؤساء الدول باعتبارهم فوق جميع الأفراد . فعندما يسند له المشروع هذه المهمة فهو يعطيه كذلك حق تقييم التطبيق السليم القانوني من عدمه ، بينما هذه المهمة هي في جوهرها من اختصاص القضاة الذين يطبقون القانون ولا يمكن أن تكون للنيابة العامة سلطة لمراقبة عمل قضاء الحكم. د-مع كل هذه السلط الكبيرة وغير المحددة و المطلقة التي تخضع للوكيل العام لدى محكمة النقض جميع المؤسسات والأفراد بدون اي استثناء, فإن المشروع حصنه من المتابعة القضائية و بالتالي من المحاكمة. ذلك أنه بالرجوع إلى مشروع المادة 264 و 265 يتبين من قراءة العبارات التي كتبت بها ان متابعة الأشخاص المذكورين في المادة 265 ومن بينهم الوكيل العام لدى محكمة النقض، لابد من موافقته لإلقاء القبض والوضع تحت الحراسة النظرية والإخضاع لتدابير مراقبة القضية من موافقة الوكيل العام لدى محكمة النقض, كما ان تعيين المحكمة المختصة لمحاكمة أولائك الاشخاص او اجراء البحث العادي. وبما أن المواد المذكورة أوقفت المتابعة على موافقة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، فإنها لم تتطرق للحالة التي يكون فيها الوكيل العام لدى محكمة النقض هو موضوع إلقاء القبض أو الوضع تحت الحراسة وغيرها من الإجراء، مما يعني أنه غير قابل بالخضوع لا للإلقاء ولا للوضع تحت الحراسة النظرية ولا للاستماع إليه. وهو ما يعتبر تراجعا كبيرا على ما تنص عليه المسطرة الحالية ومسا بالدستور الذي ينص على ان جميع المغاربة متساوين امام القانون و يخضعون له. التراجع السادس وهو يهم ما أتت به المادة 52 من كون تعيين قضاة التحقيق سيصبح مشروطا باستشارة النيابة العامة. مع أن الفلسفة التي حكمت خلق مؤسسة قضاة التحقيق كانت ترمي إلى السماح للقضاء الحكم لمراقبة عمل النيابة العامة قبل الوصول إلى المحاكمة. لهذا فإن تعيين قضاة التحقيق وإن كان وزير العدل هو الذي يقوم به, إلا أن القانون ألزمه أن يختارهم من القضاة الحكم وأن يتم اقتراحهم من قبل رئيس المحكمة, اي ان الهيأة التي تشارك في تعيينه هي من قضاة الحكم و ذلك من النص الاصلي لقانون المسطرة الجنائية لسنة 1959. وإن وجه التراجع يتبين بكل وضوح من كون مشروع الحكومة اشترط في تعيين قضاة التحقيق استشارة النيابة العامة, كما الزم أن عزل قضاة التحقيق يتم باستشارة النيابة العامة. وهكذا تم إرجاع هيأة قضاء التحقيق من حضن قضاة الاحكام إلى وصاية النيابة العامة مما رفع عملهم إلى استقلاليته. التراجع السابع أنه من الثابت، في المسطرة الجنائية الحالية أنها حصنت الأفراد من حق النيابة العامة والشرطة في تفتيش منازلهم وأطرت ذلك بعدة مقتضيات منصوص عليها في المواد 59 وما بعده. لكن، بالرجوع إلى المادة 59 من مشروع الحكومة الحالي, سيلاحظ أنه تمت إضافة فقرة ثالثة التي أفرغت كل تلك الضمانات من محتواها وهي الفقرة التي تنص على ما يلي: «يجري التفتيش في جميع الأماكن التي يمكن أن يعثر بها على مستندات أو وثائق «أو معطيات معلوماتية أو أشياء مفيدة في إظهار الحقيقة. فهذه الفقرة بصيغتها العامة والمطلقة ستؤهل النيابة العامة بإجراء التفتيش في أي مكان و بدون قيود . وأن مثل هذه الفقرة وهذه الصياغة هي التي فسرت بها الفقرة الأولى من المادة 108 التي سمح بها لقاضي التحقيق في استعمال آلية التنصت خارج الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الثانية من نفس المادة. بدعوى ان المشرع عندما لم ينص في تلك الفقرة على ان قاضي التحقيق يجب عليه ان يلتزم بما تنص عليه الفقرة الثانية من الفصل 108, فان ذلك يعني ان قاضي التحقيق غير ملزم باحترامها , و هو ما دفع قاضي التحقيق الى استعمال آلية التنصت في جرائم لا علاقة لها بالجرائم المنصوص عليها في الفصل 108 م قانون المسطرة الجنائية الحالي . لهذا تعتبر الفقرة المضافة في الفصل 59 تراجعا على الضمانات التي ينص عليها قانون المسطرة في عملية التفتيش. التراجع الثامن يتمثل في الحق الذي أعطاه مشروع المسطرة، لأول مرة في تاريخ المغرب، للنيابة العامة أن تتصرف في الحجج التي يتم حجزها وذلك بحقها في الحذف النهائي للنسخة الأصلية من الدعامة المادية, وذلك عندما نصت الفقرة 8 من الفصل 59 المتعلق بإجراءات التفتيش على ما يلي: «يمكن للوكيل العام أو وكيل الملك كل فيما يخصه أن يأمر بالحذف النهائي «للنسخة الأصلية من الدعامة المادية التي لم توضع رهن إشارة المحكمة بعد أخذ «نسخة منها إذا كانت حيازتها أو استعمالها غير مشروع أو كانت تشكل خطرا على «أمن الأفراد أو الممتلكات أو منافية للأخلاق. «يحرر محضر بالحذف تضاف إلى المسطرة, بهذه الفقرة أعطت للنيابة العامة الحق «في التصرف في الحجج التي يعثر عليها التفتيش في الحق في تقييم ما هو مفيد «للعدالة من عدمه، وعندما يحذف أصل, فإنها تحرر محضرا وهو الذي يضاف إلى «المسطرة وليس الحجز. التراجع التاسع من المعلوم أن الفصل 23 من الدستور أحدث قاعدة جد متقدمة في حماية حقوق المتهمين وضمان المحاكمة العادلة, عندما قرر أنه من حق المعتقل أن يلزم الصمت عندما يكون أمام الشرطة. غير أن المشروع لم يلتف لهذه القاعدة الدستورية وحمل مشروع المسطرة قاعدة قانونية تعطي للشرطة الحق في إرغام أي شخص قصد سماعه يمدها بمعلومات, وهو ما تنص عليه الفقرة الثالثة من المادة 60 من المشروع التي ضمن فيها ما يلي: «ثالثا، يمكن لضابط الشرطة القضائية أن تستدعي أي شخص لسماعه إذا تبين له «أن بوسع هذا الشخص أن يمده بمعلومات حول الأفعال أو الأشياء أو الوثائق أو «المستندات أو المعطيات المعلوماتية أو الأشياء المحجوزة وأن يرغمه على «الحضور في حالة امتناعه بعد إذن النيابة. فهذه المادة تعطي للنيابة العامة الحق في أمر الشرطة بإرغام شخص على عدم الصمت، وهو ما يناقض من جهة الفصل 23 من الدستور ومن جهة أخرى الحرمة الشخصية للفرد. التراجع العاشر هو السلطة الجديدة للوكيل العام في الأمر بإيداع متهم في الاعتقال حتى ولو لم يضبط في حالة تلبس، و حتى ولم يعترف أمامه حتى ولو كان يتوفر على كل ضمانات الحضور، وأعطى المشروع للوكيل كل الحق و كل السلطة بأن يودع في السجن من يريد بدون اي مراقبة لقراره ، وهو الأمر الذي كان مشروطا بعدة شروط منصوص عليها في الفصل 47 من المسطرة الحالية. التراجع الحادي عشر وهو ما أتى به المشروع في المادة 83 عندما ألغى إجبارية التحقيق في الجنايات و جعله اختياريا, لأول مرة في تاريخ المغرب . إذا كانت كلمة «اختياري» تظهر بريئة, فإنها في الحقيقة تخفي وراءها تراجعا كبيرا في الضمانات التي تقرها المسطرة الجنائية الحالية عندما تنص على إلزامية التحقيق في الجنايات. لأن جعل التحقيق اختياريا في الجنايات يعنى ان المحكمة ستحاكم المتهم بناء على ما دون في محاضر الشرطة. لأن التحقيق يعطي للمتهم الحق في الدفاع عن نفسه وإحضار شهوده و الإتصال بمحاميه وحضور المحامي معه ومناقشة خصومه أثناء ذلك التحقيق والاطلاع على الملف قبل استماع قاضي التحقيق للمتهم. وأن النص على ان التحقيق اختياري في الجنايات يعني اعطاء للنيابة العامة ان تختار, هل تأمر باجراء التحقيق ام لا, وليس للمتهم الحق في ان يطلب اجراء التحقيق معه ، فلها وحدها أن تقرر إما أن تحاكم المتهم بناء على ما ورد في محاضر الشرطة أو أن تحيله على التحقيق وهذه القاعدة ليست فقط تشكل تراجعا على ما هو عليه الأمر الآن, على أنها تمد صلاحيات وسلطات النيابة العامة على حقوق المتهم مما يجعل قواعد المحاكمة العادلة تختل بصفة واضحة. التراجع الثاني عشر وهو ما أتى به المشروع في المادة 92 عندما قيد حق المتضرر في تقديم شكاية مع الانتصاب طرفا مدنيا بشرط أن تكون الجناية أو الجنحة قابلة للتحقيق, إذ تنص المادة المذكورة في الفقرة الأولى على ما يلي: «يمكن لكل شخص ادعى أنه تضرر من جناية أو جنحة قابلة للتحقيق. وهو ما يعني أن حق إقامة الدعوى العمومية من قبل المطالب بالحق المدني أمام قاضي التحقيق ألغاها المشروع وأوقفها على الحالة التي تكون فيها الجناية أو الجنحة قابلة للتحقيق, وهو ما يعزز احتكار النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية الاصلية و تحكمها في الدعوى العمومية التي قد يريد تحركها المطالب بالحق المدني خلافا وتراجعا على ما تنص عليه المادة 92 من قانون المسطرة الجنائية الحالي. التراجع الثالث عشر الكل يتذكر النقاش الكبير الذي عرفه استعمال قضاة التحقيق لآلية التنصيب بدون الحصول على إذن من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف من جهة، وفي غير الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 108. ولقد استقوى المدافعون على حق قاضي التحقيق في استعمال التنصيب بدون إذن من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف وخارج الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 على كون الفقرة الأولى من تلك المادة لا تلزم قاضي لا باستصدار أمر من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ولا بالتزام بالجرائم المنصوص عليها في الفقرة 108. غير أن الدستور الحالي حسم هذا الخلاف الفقهي والقضائي، ونص في الفصل 24 منه على المنع في التقاط المكالمات إلا بناء على أمر قضائي. غير أن مشروع المسطرة الجنائية لم يلتفت للفصل 24 من الدستور وأبقى على المادة 108 وهو ما يعني تراجعه حتى على الضمانات التي نص عليها الدستور. التراجع الرابع عشر من المعلوم أن قوانين المسطرة الجنائية وغيرها من القوانين حصنت مكاتب المحامين انطلاقا من كون العلاقة بين المحامي وموكله هي محصنة ومصونة ولا يمكن الاطلاع عليها أو إفشاؤها حماية لحق المتهم . غير أن مشروع قانون المسطرة الجنائية في المادة 116 المحدثة نصت على قاعدة جديدة أكدت على المبدأ المذكور في الفقرة الأولى من تلك المادة. غير أن المشروع سرعان ما أفرغ الفقرة الاولى من المادة 116 من كل مضمون ومن الضمانات التي نصت عليها عندما أضاف الفقرة الأخيرة في المادة 116-4 الذي ورد فيها: «لا تطبق مقتضيات هذه المادة على الترتيبات التقنية التي يحملها شخص إذا ولج بكيفية شرعية إلى المحلات المذكورة في الفقرة الأولى أعلاه. وأنه يفهم من هذه الفقرة أن مكتب المحامي هو كذلك يمكن أن يتم فيه تثبيت وسائل التنصت فقط, إذا ما دخل من يحملها لذلك المكتب بكيفية شرعية. وأنه يغظ النظر على مدى صوابية استعمال كلمة «شرعية» التي هي كلمة لا تستعمل في القانون الوضعي, وإنما تستعمل في الفقه الإسلامي، فإنها لا تعني أي شيء, إذن أن حامل أدوات التنصيت يمكنه الدخول إلى مكتب محامي بكل حرية, لأن هذا المكتب هو مفتوح للعموم وبالتالي يمكن التنصت من داخل مكتب المحامي وهو ما يعتبر خرقا خطيرا لحرمة مكتب المحامي الذي هو في الواقع في القانون، مكتب لموكليه ومجمع لأسرارهم. فهذا المقتضى ليس فقط فيه تراجع على القواعد التي تحمي حرمة المساكن وحرمة مكاتب المحامين، بل فيها تراجع عن الفصل 24 الذي نص على أنه لا تنتهك حرمة المنزل. التراجع الخامس عشر وهو ما أتت به المادة 393 من المشرع عندما ألغت الحق في التعرض على الأحكام الغيابية القابلة للاستئناف. ذلك أنه من المعلوم أن الطبيعة القانونية للتعرض هو أنه تظلم يعطي الحق للمتهم الذي لم يتمكن من الحضور لمحاكمته أن يعود عند نفس هيأة الحكم ليدافع أمامها على نفسه وفي نفس الدرجة التي صدر الحكم ضده. غير أن المادة 393 من مشروع المسطرة عندما ألغت التعرض على الأحكام القابلة للاستئناف, مما تعني ان تلك المادة : -قد تراجعت على حق من حقوق الانسان و هو الحق في تعرض المحكوم عليه على حكم لم يستدع ولم يحضر أمام المحكمة للدفاع على نفسه -أن من شأن دخول هذه القاعدة حيز التطبيق هو أن يتم إصدار أحكام في غيبة المتهمين مادام أنها سيعرض أمام محكمة الاستئناف ولا يتم التعرض عليه. «-أن البت في غيبة المتهمين يعني الحكم عليهم بدون حضور المحامي الذي يدافع «على مصالح ذلك المتهم. إن إحداث هذه القاعدة في قانون المسطرة المدنية قد «يكون مفهوما, لأن الأمر يتعلق بنزاع حول الأموال، لكن أن تطبق نفس القاعدة «على نزاع يتعلق بحرية الأفراد هو في الواقع تغليب موقف النيابة العامة التي هي حاضرة دائما على حقوق المتهم أو حتى الطرف المدني الذي قد يكون يتغيب لسبب قاهر, فيتم حرمانه من درجة من درجات التقاضي التي اقرتها كل القوانين باعتبارها حق من حقوق دفاع المتهم و ضمانة من ضمانات المحاكمة وهو ما يشكل تراجعا كبيرا في ضمانات المحاكم العادية. التراجع السادس عشر إن وجه هذا التراجع يتجلى فيما أتت به المادة 393 من مشروع المسطرة الجنائية في الفقرة 3 منه التي ورد فيها ما يلي: «يعتبر التبليغ للمحامي بمثابة تبليغ للمتهم ويترتب عليه اعتبار الحكم بمثابة «حضوري. إن هذه القاعدة تشكل تراجعا واضحا عن النقاش والجدل الذي اختلف حوله المجلس الأعلى حول المركز القانوني للمحامي في الميدان الجنحي، أي هل المحامي يحل محل موكله, أم أن هناك استقلالا بينهما و هو النقاش الذي حسم بعدم صحة تبليغ المحامي محل المتهم,غير ان المشروع تراجع و اعطى شرعية لذلك التبليغ . علما أن هذه القاعدة ستؤدي إلى آثار متناقضة سنفصل بعضها بما يلي: 1 -هذه القاعدة غير قابلة للتطبيق لأن تعيين المحامي من قبل المتهم يأتي بعد تبليغ هذا الأخير بالاستدعاء, وبالتالي كيف يتصور أن يبلغ المحامي بالاستدعاء في غيبة المتهم. 2 -أن التبليغ للمحامي ليس له أي أثر قانوني, لأن المحامي لا يمكنه أن يرافع في غيبة موكله الغائب. وأنه إذا كان الأمر يتعلق بسهو في سن هذه القاعدة ,فإن الإشكالات التي ستطرحها هي واضحة. لكن، إذا كان الغرض هو الإسراع في البت في الملفات، فإن المحامي في هذه المادة سيشغل فقط لتجهيز الملف والبت فيه في غيبة المتهم ومنع المحامي من الدفاع على موكله الغائب، وهذا ليس فقط تراجعا على كل ضمانات المحاكم العادلة, بل فيه نوع من الالتفاف على الحق في الدفاع لأنه سيعمل المحامي كعنوان لتبليغ الاستدعاء, بينما سيمنعه من أخذ الكلمة في الجلسة التي استدعي إليها. التراجع التاسع عشر من المعلوم في جميع التشريعات أن آجال الطعن تبدأ بالنسبة للنيابة العامة من اليوم الموالي لصدور الحكم، باعتبارها دائما حاضرة بكونها من مكونات المحكمة. غير أن الفقرة 7 من المادة 393 من مشروع المسطرة الجنائية أحدث قاعدة جديدة مددت فيها للنيابة أجل الطعن في الأحكام وألزمت كتابة الضبط بإشعارها بانتهاء الأجل. وبهذه القاعدة أصبحت النيابة العامة مثلها مثل المتهم أو الطرف المدني, يجب أن تبلغ بالأحكام لكي يسري أجل الطعن بالنسبة لها. مع ان تلك الاحكام صدرت بحضورها . وهذا التراجع ليس فقط في المبادئ المنظمة للمحاكمة العادلة, بل فيه تمديد لصلاحيات النيابة. التراجع العشرون من القواعد الحمائية لحقوق الانسان و كرامته هي حقه في ان يحاكم من دون ان توضع الاصفاد في يده. غير أن مشروع قانون المسطرة الجنائية في المادة 423 يسمح بأن يتم وضع الأصفاد في يد المتهم عندما تكون المحكمة تستنطقه وتحاكمه مما يشكل تراجعا كبيرا على الوضع العام اليوم. التراجع الواحد والعشرون يتجه المغرب اليوم في نقاش وطني يكاد يلامس الاجتماع على ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، وهو النقاش الذي تمثل في تقديم مقترحات قانونية بشأن إلغاء عقوبة الإعدام مثل المقترح الذي قدمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. غير أن مشروع قانون المسطرة أبى إلا أن يسير في عكس الاتجاه العام وأن ينص على عقوبة في فقرة جديدة و مضافة للمادة 430 التراجع الثاني والعشرون يتمثل هذا التراجع في منع المتهم من حق الطعن في الحكام الذي تصدر ضده بغرامة أقل من 20.000,00 درهم وهذا التراجع اعتمد كأساس لحماية الحقوق، ليس الكرامة الانسانية ومبدأ المساواة، وإنما مبلغ الغرامة دون أن يلتفت الى ان مبلغ 20.000,00 درهم وهو بمثابة ثروة بالنسبة للعديد من المغاربة. فحرمانهم من الحق في الطعن بدون بديل هو تراجع كبير على ما تنص عليه المسطرة اليوم. التراجع الثالث والعشرون هذا التراجع يظهر من سلب حق المحكمة في تكييف الأفعال التي تحيلها عليها النيابة العامة، إذ تنص الفقرة الجديدة المضافة الى المادة 49 على ما يلي: «خلافا للقواعد المنظمة للاختصاص النوعي يمكن للوكيل العام للملك لدى محكمة «الاستئناف كلما تعلق الأمر بجناية وكان الضرر الناجم عنها محدودا أو كانت «قيمة الحق المعتدي عليه بسيطا، أن يحيل القضية إلى وكيل الملك المختص «لإجراء المتابعة بشأنها بوصفها جنحة إذا كان القانون يسمح بوصفها بذلك. «إذا تمت الإحالة وفقا لمقتضيات الفقرة السابقة فإنه يتعين على المحكمة البث في «القضية وفق للوصف المحال عليها. فهذه القاعدة الجديدة ألغت حق المحكمة في إعادة وصف الجريمة وألزمتها بالبت فيها وفق الذي تقدمه النيابة العامة، مع إعادة وصف الأفعال هي من مهام واختصاصات المحكمة و ليس النيابة العامة. و الأمر غير المفهوم, هو أن مشروع المسطرة الجنائية مع أنه أحدث القاعدة الجديدة المشار إليها أعلاه، إلا أنه لم يلغ المادة 390 الذي يعطي للمحكمة حق إعادة وصف الأفعال، مما يشكل، بالإضافة إلى التراجع عن المكتسبات، تناقضا في سن فصول نفس المشروع المقدم من قبل المحكمة. وأنه يتبين من القراءة الأولى لمشروع قانون المسطرة الجنائية أن الحكومة بدل أن تعزز ضمانات المحاكمة العادلة تقدم في مشروعها قواعد جديدة تمكن المتهم من الدفاع على نفسه إعمالا لمبدأ البراءة هي الأصل قامت بالعكس من ذلك بتعزيز وتمديد صلاحيات النيابة العامة. علما أنه لم يسبق لأي حكومة أن بادرت إلى توسيع صلاحيات النيابة العامة على حساب حقوق دفاع المتهم، كما فعلت هذه الحكومة. لهذا من حق الحقوقيين والفاعلين السياسيين مطالبة الحكومة بالتراجع على تقديم مشروعها للبرلمان لأنه ليس فقط لا يرقى إلى مستوى ما أتى به الدستور من ضمانات وحقوق, وإنما يحمل تراجعات عديدة وخطيرة ومؤثرة بشكل كبير على المحاكمة العادلة وممددة لصلاحيات النيابة العامة.