نحن الفقراء لا تنبت أحلام كبيرة في رؤوسنا، ولا الافكار الكبيرة أيضا. في المهن، غالبا ما نحلم بحرف تسد المرق ( ليس هناك خطأ في الكتابة)، وغالبا ما نسعفها بالحكمة الشهيرة التي ترى أن« حرفة بوك لا يغلبوك» تليق بنا ، كما تليق ...الحسانة بروس ليتامى. ومنها أننا لا نبتعد كثيرا عن المياه الأبوية في البحث عن المهن. ومن خصب فقرنا أننا نعوض .. الافكار والأحلام .. بشعرنا. نحن في العادة كثيفون: شعر رؤوسنا يشهد على سوء توزيع الثروة بين أطراف الجسد. ولنا في الغالب إحساس مرتبط ، بنزعة شمشونية قديمة: جزء من الكرامة في الشعر غير المحفوف بالسواطر .. ولا بشفرات الحلاقة. وعندما يريد أحد من السلطة أن يهين الفقراء، أو المعارضين، فهو يعمد الى حلق الرؤوس. وغريب ما يحدث من انقلاب سيميائي في الغرب، عندما يريد أحد ما أن يعبر عن نزعته الفاشية والسلطوية، والرغبة في إقصاء الآخر يحلق رأسه هو، وعندنا عندما يريد أحد أن يعبر عن الرغبة في الاستبداد والهيمنة، فإنه يستعير رأسا أخرى ليحلقها. هكذا حدث مع قائد سيدي بطاش ومن يقف وراءه. وهكذا سبق أن تعلم باشا بخنيفرة الاستبداد في رأس شيخة شعبية .. وهكذا امتدت يد استبدادية كنا نعرفها لا تخرج بيضاء بدون سوء، الى شعر الفنانة ثريا جبران.. وامتدت قبل ذلك، عبر التاريخ، مقصات كثيرة كانت تقص شعر المظلومين وأحلام الشعوب بضربة مقص واحدة. وتسقط، بعد كل قصة استبدادية، ظفائر الحرية في القمامة. كان شمشون ينتصر بشعره، واستبدت به دليلة وسلمت ظفائره الى أعدائه ، فسقطت كرامة ما في الوحل.. وسقطت رؤوس كثيرة. فببلادنا، مازالت مناطق بلدية (بتسكين اللام ) تنتظر حلاقا مخزنيا، تربى في حضن الاستبداد العائلي وحنين السلطة المطلقة الإهانة، لكي تخرج من حياتها المألوفة. يمر بها قائد مثل الولد المدلل حجار، وهو بالمناسبة من حليقي الرؤوس ، لكي يخرجها من روتينها وفقرها، مثلما يمر بها السيرك أو لحظة جنون تصيب أحد الابناء في ليلة ماطرة. في الزمن الذي أعقب الصراع مع النازية، كانت البلدان الخارجة من نير المحتل النازي تقلده، بعد أن يهرب جنوده، في التنكيل بالذين اعتبرت بأنهم تعاونوا مع النازية والفاشية، وانتشرت صورة الذين تعرضت رؤوسهم للحلاقة، نساء ورجالا، وسموا بحليقي الرؤوس: فماهي الخيانة أوالتعاون الذي استعمله يا ترى الشاب البيهاوي لكي تهان كرامته بذلك الشكل المنحط ، الذي أودى بحياته؟ ما الذي افتقر إليه في وطنيته لكي ينال عقاب ابن مدلل : لا شك أنه كان يعاني فقرا واحدا هو ... الفقر وكان غني الكرامة لكي يقوده فعل طائش لاإنساني الى الانتحار. تريد السلطة عندما تفقد عقلها في عقل أحد رجالها أن ينسحق الفقير الى درجة أن يصير حيوانا يجز شعره، وتنحدر الانسانية إلى الدرجة قبلها وتعود السلطة إلى عمقها : الوحشية. إنه عقاب لا يسرده أي خيال متوحش في أدبياته، لأنه بكل بساطة يجمع بين نزوع حيواني مستبد وبين نزوع إجرامي، حيث في الرأس الفقيرة أو الرافضة تكون نقطة الالتقاء بين .. راعي البقر وبين .. المستبد بالسلطة مهما صغرت! أعرف أنه لا يستقيم أبدا أن نسمي القائد أو نصفه بأوصاف النازية ، أبدا، وإلا كنا نبخس الجريمة ضد الانسانية ونرفع القائد الى ما فوق الدرجة التي يحققها لنفسه في سلم الهمجية ( وهي هنا همجية أخلاقية كبيرة ).. إننا نستبشع الذي حدث في سيدي بطاش عبر .. تضخيم حمولته اللاإنسانية. إنه طقس العار .. والرذيلة. ما يواسي في الحادث أن القائد حلق رأسا صغيرة فطارت «رأس كبيرة». فهل كان يتصور أن المقص الذي امتد لشعر الفقيد البيهاوي، سيقطع رأس والده في السلطة طبعا !