يطرح الأسلوب المتبع من طرف المسؤولين في تعاطيهم مع الملك العام بمدينة مكناس ، مشاكل عويصة على واقع المدينة من مختلف المناحي ، حيث يبدو أن مشكل تدبيره وتصريف أموره ، قد ترك لرغبات المستغلين له والمنتفعين من جواره ، دون أدنى شرط تنظيمي أو معيار استحقاقي ، حتى أصبح هذا الملك في حكم المستباح ، وبوسع أية جهة أن تضع يدها على أي جزء منه حسب ما تقتضيه مصلحتها ويطاله نفوذها أو أساليب إغرائها ، بما في ذلك المساحات والفضاءات الخضراء الفسيحة ، التي تعتبر رصيدا غنيا يميز المدينة ، وكذا أرصفة الطرق والساحات المتواجدة بمختلف مناطقها ، ويمكن تمييز أصناف التعامل مع هذا الموروث البيئي والحضاري الرائع حسب الأشكال التالية : * هناك قسم من هذا الملك العام تم تفويته من أجل استغلال الخواص له ، والمشكل هنا لا يُطرح في التفويت بحد ذاته ، فلو تم ذلك بهدف تنمية الموارد الجماعية وفق دفتر تحملات متوازن ، لكان الأمر عاديا ، لكن المشكل يُطرح حين يتم التفويت وفق أساليب تدليسية ، كأن يتم ذلك بثمن جد رمزي ولمدة جد طويلة ، مما يجعل الأمر أشبه بتمليك منه بمسطرة تفويت قانونية ، كما هو الحال بقهى الحبول مثلا ، وإلى حد ما مقهى العين الصافية ، ... ويلحق بهذا القسم تلك الحدائق الرائعة التي وقع تفويتها لفائدة أندية هيئات المحامين والصيادلة والأطباء وموظفي وزارة الداخلية ، حيث أقيمت فيها فضاءات ترفيهية وملاعب رياضية ومسابح ... لكنها خاصة بالمنتسبين لهذه الأندية وأبنائهم وأفراد عائلاتهم ، دون غيرهم من المواطنين . ويمكن الإشارة بهذا الصدد ، إلى تلك الحديقة الرائعة المحاذية لكابو بلان ، التي تمت استباحة عذريتها وتشويه رونقها ، باستبدال أشجارها الباسقة بمبان متفرقة هنا وهناك ، تابعة لماكدونالد والداوليز وفندق إيبيس والبلدية . * وهناك قسم آخر تم إهماله وتركه لصروف الأيام ، إلى أن تم السطو عليه واستغلاله حسب المصالح والأهواء ، ويشمل هذا الحيز مختلف الفضاءات والساحات غير المعتنى بها ، وحتى بعض الحدائق الكبرى التي تعتبر من معالم المدينة ، كحديقة باب الخميس المتواجدة قرب المحطة الطرقية ، والتي أصبحت مرتعا للأزبال والنفايات ، إلى أن تم تحويلها أخيرا إلى موقف عشوائي للسيارات ، وكذا الحديقة المتواجدة بشارع الجيش الملكي قرب إقامة المدينة ، التي استمر إهمالها إلى أن تم السطو عليها وتحويل مساحتها للاستغلال الخاص المشترك بين مقهى (ر) وسكان العمارة ، وذلك بتغطية من رئيس جماعة سابق كان من سكان الإقامة حينها ، واستمر الحال على ما كان عليه لحد الآن ، رغم تخفيف وتغيير مواقع الحواجز المانعة للولوج العام . ويدخل في هذا القسم المهمل أغلب أرصفة المدينة ، على اختلاف مستوياتها وأحيائها ، وذلك بغض النظر عن بعض الاستثناءات المحدودة ، فهذه الأرصفة إما توجد في حالة سيئة أو مستغلة من طرف المقاهي والمحلات التجارية والحرفية والفراشة ... * القسم الثالث من هذا الملك العام هو الذي تنازلت الجماعة عن تدبيره لصالح بعض المؤسسات العامة أو المرافق الخاصة ، فالمؤسسات العامة هي العمران والمكتب الوطني للسكك الحديدية ، والحديقتان المسندتان إليهما ، هما المجاورتان لمقريهما ، وهما اللتان تعرفان اهتماما وعناية من طرف هاتين المؤسستين ، مما يجعلهما قبلة لبعض الأسر وأبنائهم ، ولعموم الراغبين في الترويح عن النفس أو تزجية أوقات الفراغ . أما المرفق الخاص الوحيد الذي تنازلت له الجماعة عن إعادة هيكلة واستصلاح حديقتين ( إحداهما جد صغيرة ) فهو فندق تافلالت ، مما أثار حينها موجة من تذمر واستنكار السكان ضد هذا التفويت ، الذي بدا مستغربا وخارجا عن القاعدة ، ولعل أصداء هذا الاستنكار قد وصلت آنذاك إلى دواليب الوزارة الوصية كما راج بالمدينة ، والمشكل أن الأشغال بهذا الفندق قد توقفت لمدة طويلة ، مما جعل الإهمال يطال هاتين الحديقتين ، دون أن يثير ذلك أدنى اهتمام لدى المسؤولين الجماعيين ، وكأن الأمر خارج نطاق اختصاصهم ومسؤولياتهم ، إلى أن استؤنفت الأشغال بالفندق مؤخرا ، حيث عادت الحياة إلى هاتين الحديقتين . * أما القسم الذي بقي تحت مسؤولية وتدبير الجماعة ، فهو عبارة عن فضاءات بهيجة ورائعة وممتدة ،كحديقة ساحة الاستقلال قرب القصر البلدي ، وحديقة الحب بطريق مولاي إدريس ، وحديقة سناء محيدلي بجانب شارع يعقوب المنصور ، وغابة الشباب الفسيحة ... وهذه الحدائق وغيرها ، رغم روعتها وتواجدها بمواقع حساسة من مركز المدينة ، فإنها غالبا ما تترك عرضة للإهمال والتردي ، وحتى حين يتم استصلاحها ، فإن ذلك يتم بأشكال وكيفيات لا ترقى لذلك المستوى الذي يجعلها محط إعجاب المواطنين وانجذابهم ، لذلك لا تراهم يقصدونها طلبا للاستجمام والترويح عن النفس ، سواء منفردين أو مصحوبين بأفراد أسرهم أو أصدقائهم ، بل يترك أغلبها لبعض المجموعات من الشباب الباحث عن الخلوة لتعاطي بعض الممنوعات بعيدا عن الأعين ، مع استثناءات محدودة كحديقة ساحة الاستقلال رغم وضعيتها البئيسة ، وذلك نظرا لتواجدها - في الغالب - بموقع مركزي مأمون وسط مجموعة من المؤسسات . والذي يبعث على الاستغراب ، أن كل حدائق المدينة وفضاءاتها ، لا تتوفر على حراسة ، رغم العدد الهائل من المستخدمين الذين تتوفر عليهم الجماعة ، وحين تنعدم الحراسة ، تبقى كل النباتات والأغراس عرضة للعبث بها وإتلاف أجزائها وتشويه رونقها . وإذا كانت هذه هي الصورة العامة التقريبية للوضعية التي يوجد عليها الملك العام بمدينة مكناس ، فإن الأمر يبعث على تسجيل الملاحظات التالية : - من المؤكد أن الضحية الأولى لهذا الوضع هم سكان المدينة ، الذين يعانون من آثاره في حياتهم اليومية ، فإذا أرادوا السير والتجوال بين الشوارع والأزقة ، وجدوا الأرصفة في غالب الأحوال إما محجوزة أو متربة أو مليئة بالأزبال ، وإذا أرادوا الاستجمام والاستمتاع بالفضاءات الخضراء ، وجدوها في أوضاع لاتروق زائرا ولا تبهج متجولا ، بغض النظر عن الأجزاء التي تم تفويتها . - يَعتبر سكان المدينة ، أن الفضاءات وأجزاء الملك العام التي تم تفويتها أو الاستيلاء عليها ، هي في حكم الرهينة ، وقد ساهمت ظروف وأحوال في هذا المصير الذي آلت إليه ، والذي كان في بعض الحالات موضع احتجاج السكان واستنكارهم . - لا شك أن هذا الوضع الملتبس ، يقتضي العمل على إعادة الأمور إلى نصابها ، وذلك باتباع المساطر القانونية من أجل استرجاع الأجزاء التي تم الاستيلاء عليها دون وجه حق أو بطرق مغشوشة ، مع ضرورة العمل بكل جدية من أجل النهوض بمختلف مناحي الملك العام بالدينة ، من أرصفة وفضاءات خضراء وساحات ، حتى تصبح جديرة باهتمام السكان ، وحتى تشكل نقط جذب واستمتاع بالنسبة إليهم ، ولا شك أن هذا الأمر يتطلب مجهودا مشتركا ومتوازيا بين المسؤولين بالمدينة من جهة ، وجمعيات المجتمع المدني من جهة أخرى ، باعتبارها المعبر المباشر عن تطلعات سكان المدينة وانتظاراتهم . وتجدر الإشارة إلى أنه قد لوحظت في الآونة الأخيرة ، بعض التحركات المحدودة للسلطات المعنية، من أجل تحديد المساحة المسموح باستغلالها من طرف بعض المقاهي ، غير أن مثل هذه التحركات يتسم باستمرار بالكثير من الانتقائية والمحدودية والمناسباتية ، ولعل العملية مرتبطة أساسا باستعداد المدينة لاستقبال المهرجان الفلاحي ، الذي سيحل بها بعد بضعة أيام .