تتهيّأ أوساط الفكر والفلسفة في فرنسا للاحتفاء بالذكرى الثلاثين لرحيل «ميشيل فوكو» (المزداد في 15 أكتوبر 1926 و المتوفى في 24 يونيو 1984).. ولقد تمت الاستعدادات لتنظيم الندوات والمؤتمرات ونشر ما جدَّ من كتب وإصدارات؛ فلازال نشرُ دروسه التي كان قد ألقاها ب «الكوليج دو فرانس» يُعطي الانطباع لمُتتبِّعيه، سنة بعد سنة، بأنهم لم يتخلصوا بعد مما يدخره هذا الباحث الفيلسوف من اكتشافات.. لقد كان الرجل ولازال، حتى بعد مماته، أسرع من قراءه وشارحيه في إنتاج الأفكار المبتكرة والمراجع المنيرة ومشاريع البحث الجديدة.. ويظهر ذلك مع إصدار كتاب حول «تفسير وتأويل الذات..» يضم ترجمة محاضراته التي ألقاها بالانجليزية ب «دورتموت كوليج»،1980 (عن منشورات «فران).. وكتاب آخر حول «مجتمع العقاب...» (غاليمار- سوي) يضم الدروس التي كان قد ألقاها خلال 1972- 1973 .. ويغلب الاعتقاد بخصوص هذا الأخير أن الأمر يتعلق بالمادة الإعدادية التي كانت وراء كتابه الأسبق، «الحراسة والعِقاب» (غاليمار-1975) الذي خصصه للبحث في موضوع ميلاد السجون؛ إذ يحاول «م. فوكو» تسليط الأضواء على موضوع الانتقال من نظام عقوبة إلى آخر.. فالنظام القديم كان يتوخّى إظهار الفرجة السلطوية عبر ممارسات التعذيب تاركا بذلك علامات الفظاعة على الأجساد لكي تبقى علامةً تشير إلى طابع سلطته.. « فمن خلال الأثر الباقي على الجسد، ندوبا كانت أم بثورا، لا يبقى الذنب المُقتَرَف وحده حاضرا؛ بل الحاكم أيضا..».. أما نظام العقوبة الحبسية، فالمُراد منه هو حجب المُدان عن الأنظار على أمل أن يقوم صمت الزنزانة بإحداث تحَوّل في نفسية المسجون؛ بل أكثر من ذلك، لأن السجن يُشير إلى بروز تدبير مُختلفٍ لمخالفة القانون يُنتِجُ بنفس المناسبة مُذنبين وعقوبات.. لا يقف «ميشيل فوكو» عند الحد عندما يتحدث عن الحرب الأهلية مؤكدا على أنها حاضنة كل معارك السلطة بكل استراتجياتها ومن ثمة فهي حاضنة المعارك من أجل السلطة وضدَها؛ ثم عندما يعقد تقاربا بين السجن والأجرة (الراتب) وبين ذكاء البورجوازية وبلاهة المثقفين وقيام مجتمع يسن ضوابط لإخضاع زمن الحياة لزمن الإنتاج وغيرها من المواضيع ودروب البحث الغزيرة لديه والتي ما فتئ يرسم معالمها ليفسح المجال واسعا لغيرها لتتقاطع معها مانحة إمكانيات جديدة للتفكير؛ مما يدفع المهتمين إلى إدراك أن اكتشاف ما في جعبة الرجل أكثر مما يوجد في كتبه وأن معينه لا ينضب..? بتصرف عن جريدة لوموند