مرت 25 سنة على آخر درس ألقاه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في الكوليج دوفارنس، في سنة 1984، وقد كان رحيله في ذلك الوقت، خسارة حقيقة للفكر الفرنسي والإنساني على وجه العموم. واليوم حين نعيد استحضاره، فإننا نستحضر مثقفا في أهم كتبه» تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». وعلاوة على شذوذه الجنسي الذي كان معروفا، فقد ذهب فوكو إلى طهران حيث عايش الأيام الأولى للثورة كمراسل صحافي، كما التقى بآيات الله الخميني في باريس وجالسه. اليوم، ما ذا تبقى من فوكو؟ الجواب الجاهز، كتبه، وشخصيته الجدالية.. خان فوكو حلم العائلة في أن يتحول إلى طبيب جراح مثل والده، كانت قدرته التعليمية متأرجحة بين المراحل الدراسية الأولى، لكنه سوف ينبغ في المراحل الدراسية المتقدمة، وانتقل من وضع الخمول الفكري الذي سيطر عليه في البداية إلى وضع آخر أكثر توقدا. ولد ميشيل فوكو عام 1926 في بلدة «Poitiers» في غرب وسط فرنسا، لأسرة ريفية بارزة. والتحق بالمدرسة العليا، وأثناء وجوده فيها كانت حياة ميشيل فوكو صعبة، حيث أصيب باكتئاب حاد دفعه إلى محاولة «الانتحار» الانتحار. خضع بعدها للعلاج النفسي، وانتهى إلى ولع خاص بعلم النفس. فإضافة إلى حصوله على إجازة في الفلسفة فقد حصل أيضاً على واحدة في علم النفس، وشارك في العيادة التابعة للهيئة حيث تعرف إلى مفكرين من مثل لودوينغ بينسوانغر. حصل فوكو على شهادة الأستاذية عام 1950. ليعمل محاضراً في مدرسته (Ecole Normale) لفترة، ما لبث بعدها أن تقلد منصباً في جامعة ليل ليحاضر في علم النفس ما بين 1953 و1954. في العام 1954نشر كتابه الأول بعنوان « Maladie mentale et personnalité»، وهو عمل تراجع عنه فيما بعد. وقبل انقضاء وقت طويل بات واضحاً أن ميشيل فوكو غير مهتم كثيراً في مجال التدريس، وعزل نفسه لمدة بعيداً عن فرنسا. في عام 1954 عين فوكو مندوباً عن فرنسا إلى جامعة أوبسالا في«السويد» السويد، منصب أعده جورج دومزيل خصيصاً لفوكو. غادر فوكو منصبه هذا في عام 1958 لمنصب لبث فيه فترة وجيزة في جامعة وارسو وأخرى في جامعة هامبورغ. عاد فوكو إلى فرنسا عام 1960 ليتابع الدكتوراه ويحصل أيضاً على شهادة في الفلسفة من جامعة كليمونصو فيران، حيث التقى دانييل ديفر وعاش معه بقية حياته في علاقة متعددة. حاز على شهادة الدكتوراه عام 1961 بعد أن قدم بحثين كما هي العادة في فرنسا، أولهما رئيسي بعنوان «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» وآخر ثانوي تضمن ترجمة وتعليقاً على الفيلسوف الألماني «كانط» في الأنثربولوجيا والنظرة «النفعية (لم تتم كتابتها بعد)» النفعية. لقي «تاريخ الجنون ترحيباً واسعاً في الأوساط الثقافية. التزم فوكو بجد ونشاط بجدول في إصدار كتاباته، ففي نشر كتابه «ولادة العيادة» . انتخب ليحتل كرسياً في أهم هيئة أكاديمية في الكوليدج دو فرانس «الكوليدج دو فرانس» كبروفيسور في «تاريخ نظام الفكر»، نشاطه السياسي تزايد، فقد انخرط شريكه ديفير مع حركة البروليتاريين الماويين المتطرفة، كما ساهم فوكو نفسه في تأسيس «مجموعة المعلومات الخاصة بالسجون»، وهو ما ساهم في تسييس أعمال فوكو من خلال كتاب «المراقبة والمعاقبة»، والذي يعد «سرداً» للبنى الصغرى للسلطة والتي تطورت في المجتمعات الغربية منذ «القرن الثامن عشر» القرن الثامن عشر، مركزاً على مؤسستي السجن والمدرسة. انحسر النشاط السياسي في أواخر السبعينيات بعد خيبة الأمل تجاه الكفاح اليساري. وقام عدد من الشباب الماويين (الشيوعيين المتطرفين، نسبة إلى ماو تسي تونغ) بالتخلي عن معتقداتهم ليصبحوا ما يسمى «المتفلسفون الجدد»، وغالباً ما ذكروا بأن فوكو يمثل مرشداً أساسياً لهم، وهو أمر بدا أن مشاعر فوكو كانت مختلطة تجاهه. في هذه الفترة أطلق فوكو مشروعاً من 6 مجلدات، «تاريخ الجنسانية» وهو كتاب لم يتمكن من إنهائه، و»إرادة المعرفة». المجلد الثاني والثالث لم يظهرا إلا بعد ثمان سنوات، وقد كانا مثار استغراب القراء نظراً للأسلوب التقليدي لهما، وموضوعاتهما (نصوص إغريقية ولاتينية كلاسيكية) ومقاربتهما لمفاهيم أهملها فوكو فيما سبق. وبينما بلغت التظاهرات ضد الشاه في إيران أوجها، عمل ميشيل فوكو مراسلاً صحافياً خاصاً لجريدتي: (كورير ديلا سيرا/Corriere della Sera) و(لونوفل أوبزرفاتور le Nouvel Observateur). عمل فوكو صحافياً لفترة قصيرة، فسافر إلى إيران، التقى بقادة وبسياسيين وناشطين في التظاهرات التي قادتها المعارضة ضد نظام الشاه، كما التقى بأناس عاديين، التقى أيضاً بالخميني في ضواحي باريس، وكتب سلسلة من المقالات عن الثورة.