من المنصف أن نقف أحيانا وقفة تأمل لنمعن النظر فيما تراكم في تربتنا المغربية من مكتسبات حقوقية بالأساس.. ومن المفيد أن نقارن اليوم بين زمن مضى كان فيه الصوت المشاكس يكلف صاحبه حياته و حريته بل ووجوده الفيزيقي «مجهولي المصير» وبين زمن اليوم حيث "التدافع" بالآليات الديمقراطية و بشرعية القانون والدستور ... بين الأمس و اليوم جرت مياه كثيرة تحت جسر المعاناة والمكابدة والجلد.. نساء ورجال قضوا، فكان لفعلهم و نضالهم المستميت والنادر الأثر الطيب والجميل.. كان الوطن، بالنسبة لهم ، بكميائه الجغرافية والتاريخية والحضارية ، فوق كل حساب.. معالم و أسماء تؤثث ذاكرتنا الجماعية .. لم تتردد في حمل السلاح من أجل استقلال البلاد و لم تتوان في مواجهة الاستبداد رغم قهر المنافي والسجون .. و لم تتأخر في إجراء المصالحة الوطنية بما تقتضيه من إنصاف و جبر للضرر من أجل أن يتسع الوطن للجميع.. نطل من نافذة هذا الحوار على زمن مضى و آخر نداوله بين الناس ، لنتابع بشغف مسار عائلة استثنائية بصمت ، بنضالها المستميت ، تاريخ المغرب المعاصر .. قصة الآسفي وثريا وما تفرع عنهما من نسل.. قصة تستحق أن تروى و لو أن «الساردة» تعففت - تواضعا - في البوح بالكثير من التفاصيل!.. الأستاذة أسماء ، أنت غصن من شجرة وارفة تغطي بظلالها التاريخ السياسي المعاصر للمغرب ...بداية ماذا يعني لك الانتساب لعائلة محمد الوديع الآسفي وثريا السقاط؟ بداية لا بد من التنويه بكل من بادر إلى فتح أبواب الذاكرة لتبوح ببعض ما اختزنته عقودا طويلة .....ففي مغرب اليوم تعيش أجيال وأعني الأجيال الشابة تقريبا بدون ذاكرة .....إذ لا يقدم لها من تاريخ بلدها سوى بعض إنجازات لأشخاص بعينهم في حين يتم التعتيم على الباقي ....ولا بد أن يكون هذا النبش في الذاكرة بداية تصالح مع التاريخ ... طبعا لا يعتبر الجواب عن سؤالك بالأمر الهين ....فبقدر ما يعتبر الانتساب لعائلة مناضلة مصدر فخر واعتزاز بقدر ما يجعلك أمام خيار واحد ووحيد هو الثبات على المبدأ والسير على نفس نهج الوالدين بالرغم من كونهما رفعا عاليا سقف الطموحات.... فتجد نفسك رغم قناعاتك ورغم انخراطك المبدئي في قضايا بلدك أمام رهان صعب ، ألا وهو الحفاظ على ذاكرة الأسرة بكل ما يتطلب ذلك من مثابرة واجتهاد يومي من أجل الإبقاء على الأمل طافحا ومن أجل السير على نفس الطريق لتحقيق نفس الأهداف ... مغرب حر وشعب كريم... ومساواة في الحقوق وفي الواجبات .... فهل نستطيع رفع التحدي ...؟؟. غير أن الانتساب لعائلة مناضلة ، لا يعني بالضرورة اقتسام نفس المبادئ...إذ لابد من الإيمان العميق بعدالة تلك القضايا ومعانقتها بما هي مبادئ كونية لا محيد عنها لتحقيق الكرامة والعدالة الإنسانية . دعيني أدعوك إلى الحديث عن ثريا السقاط ... الزوجة والمربية والمناضلة ...هل لك أن تحدثينا عن لقاءها الأول بالآسفي ... لقاء ثريا بمحمد يصلح أن يكون موضوع قصة حب ...يصعب الحديث عنها ، لعدة أسباب ...أولها أنها والدتي ...وأخشى أن يغلب الذاتي على الموضوعي في حديثي عنها .... والحديث عنها سوف يقودنا لا محالة إلى متاهات الحب والعشق والجمال والتضحية ... فهي كما قال صلاح يوما ..."هي الجلد والكبرياء ، وهي المودة وطيبة القلب ...هي الصبر والشموخ ، هي الرأفة والعناية والحذق ...هي رباطة الجأش والشجاعة " وهي أيضا جميل الانتظار ، هي الأم الرؤوم والزوجة العاشقة والمرأة الأنثى والصديقة الصادقة وهي الحزم والحسم حينما يقتضي الأمر ...وهي كما قال الصحفي القدير الراحل مصطفى القرشاوي " هي ومثيلاتها كن مفخرة ...فلا ظمأ ولا جوع ...لا خشية ولا تضعضع ...ونادرة هي لحظات الاكتئاب التي كانت مع اللحاف والوحدة ..." تقول ثريا عن لقائها الأول بالآسفي ..." أنا من أنا ...أنا الصبية التي لا تعرف لهذا النوع من الحب ولا للزواج معنى ... ولم تشعر بوجود الرجال رغم أنها تشاهد المئات منهم كل يوم ، غير أنه في ساعة من ساعاتها السعيدة تقع عينها الشاردة عمن ؟ عن أستاذ يدخل إلى القسم تراجع فيه مع باقي التلاميذ والتلميذات للإعداد للقيام بدور البطولة في إحدى المسرحيات ....فتلحظ في قسمات وجهه معنى الإخلاص ، العطف ، الجرأة وبعد حين معنى الحب ، نعم إنه الحب الخالص ، الذي هو نبراسي وهداي ، هنالك وبعد تلك اللحظة الرهيبة بالنسبة إلي أنا الفتاة الخجولة... استمع إلى دقات لم أعهدها من قبل بين ضلوعي ...استمع إلى صوت يناديني من أعماقي ، هذا هو الحب الذي تتحدث عنه أترابك من الفتيات في ساحة المدرسة وقت الاستراحة ..... كل هذا دار بخلدي وأنت بجانبي لأول مرة ، تحاورني في كيفية أداء الدور المنوط بي لأول نظرة ، فما أن خرجت حتى وجدت صورتك قد ارتسمت في القلب قبل أن تسجل في العقل ، فقد ملأت علي الفضاء ، حتى لم أعد أرى إلا وجهك ولا أسمع إلا صوتك يناديني من صميم روحك إلى صميم روحي "...(ص 29 و30 من مناديل وقضبان.) هكذا نشأت قصة حب بدأت بالانبهار والدهشة لتنتهي بالوفاء والإخلاص والمحبة ...ونكران الذات .. فهي لم تحب الرجل مجردا بل أحبت فيه استماتته وعطاءه وتفانيه ورهافة حسه ...أحبت انحيازه للقضايا العادلة ....أحبت صرامة الرجل فيه ... وتصميمه وقدرته على المواجهة ...فكانت الزوجة والحبيبة والصديقة ..وكانت الأم والأخت والمربية... وكانت المرأة المكابرة رغم سياط الزمن ... طيب أستسمحك لنعد شيئا ما إلى الماضي ، عاشت بلادنا مخاضات عسيرة .. كنت شاهدة على العصر بما رافقها من توترات .. ولعلك تذكرين أحداثا منذ صباك .. في مواجهة الاستعمار مثلا ، ما هي ابرز الصور والوقائع التي تختزنها ذاكرتك ؟ فعلا تختزن ذاكرتي العديد من الأحداث والصور سأحاول النبش فيها ما استطعت إلى ذلك سبيلا : كنت لا أزال طفلة لم يتجاوز عمري ثلاث سنوات ، حينما داهمت الشرطة بيتنا بأحد الأزقة العتيقة بمدينة سلا ...وكانوا مدججين بالسلاح ...ظللت أرقب المشهد فاغرة فمي...فقد اقتحموا غرفة والدي الذي كان غائبا ... ثم بادروا جدتي غيثة بالسؤال عن كل من يزورنا من أصدقائه ...كانوا يتحدثون بلكنة غريبة ...بياض بشرتهم ولون الشعر يدل على أنهم ليسوا مغاربة ! ...أذكر أن والدتي وكانت شابة جميلة ، أنيقة ...أخذتني إلى حضنها لتهدئ من روعي وجذبت آسية إلى جوارها ثم نظرت إليهم قائلة أن أبي غير موجود...وأنه معتقل لديهم .... وأن النضال من أجل الاستقلال ليس جريمة ... أذكر أن رباطة جأشها وصلابتها جعلت رئيسهم يفقد أعصابه ويمطرنا بوابل من السباب والتهديد ...كل ذلك كان باللكنة ذاتها التي لم أستوعبها إلا فيما بعد ...خرج والشرر يتطاير من عينيه ...أمر مرافقيه بالانسحاب وغادر البيت هو يتوعدنا بأوخم العواقب ... وهم يغادرون البيت داس أحدهم على قطاري الصغير الذي كان يدور على نفسه ...ويحدث صوتا يبدو أنه أزعجهم ...انصرفوا ..ومشهد قطاري الصغير تحت أقدامه لا يزال حاضرا في ذاكرتي ورجع صدى أنينه يدوي في أذني ! ... أذكر أيضا أنه حدث يوما وأنا بعد طفلة ، أن سمعنا طرقا على الباب ....وكانت والدتي غائبة في زيارة لوالدي بالسجن ... لم ينتظر الطارق أن نأذن له بالدخول ، فقد صعد الدرج بسرعة وكان ملثما وحاملا مسدسا في يده ، نظرت جدتي إليه ولم أفهم لماذا ابتسمت في وجهه وفسحت له المكان ليدخل ... إشارة الصمت التي رسمها الرجل بسبابته على شفتيه جعلت خيالي الصغير ينشط ...ويعيد لي شريط القصص التي كانت جدتي أو عمتي تحكيان لي في كل مرة يجافي النوم عيني .... غير ثيابه بسرعة وأخفى المسدس تحتها ثم سأل بصوت غير مسموع عن الطريق إلى السطح ..دلته جدتي دون أن تحكي ...فمر مسرعا واختفى عن الأنظار ... بعد برهة سمعنا جلبة وضوضاء فقد اقتحم الجنود البيت وتوجهوا بالسؤال مباشرة إلى جدتي ...أين هو ؟ أين أخفيته ؟ ... كانت ترد بهدوء وكأنها لم تعش تلك اللحظة الرهيبة ... كانوا يرددون أسئلتهم دون توقف ... الرجل الذي دخل بيتكم قبل قليل ...أين هو؟ لا تضطروني لاستعمال القوة ...الإرهابي الذي احتمى بكم ...أين هو؟ حاولت جدتي ربح الوقت لتفسح المجال للذي دخل البيت قبل قليل للابتعاد ...وكان على ما يبدو قد قطع مسافة ليست باليسيرة ....فتشوا البيت ركنا ركنا ...وهم لازالوا يتوعدون ...عادوا أدراجهم بعد أن يئسوا ولم يعثروا على شيء ...كان بيتنا الصغير مقلوبا رأسا على عقب ... رأيت والدتي بعد ذلك تعود إلى البيت وقد راعها ما رأت ...جلست تحكي عن معاناتها مع السجن ومع الحصار وكانت مبللة بالمطر وضعت القفة جانبا وكانت تسترجع بعض أنفاسها... بينما كانت جدتي تحكي عن الفدائي الذي مر من هنا قبل قليل ... قالت والدتي لا عليك أمي... فتلك ضريبة الوطن.... كلمة الوطن تلك ظلت لسنين طويلة ترن في أذني .....ثم بعد ذلك سكنت الوجدان ! في نفس السياق أسماء .. احتفظ الوالد ومن بعده الأسرة بصورة تؤثت فضاء المكتبة ... محمد الوديع الآسفي يستقبل محمد الخامس ماذا عن تفاصيل هذه الصورة ؟ تابع الآسفي دراسته بجامعة القرويين ، وكان ضمن الطلبة المطالبين باستقلال البلاد عبر القيام بالعديد من أشكال الاحتجاج الأمر الذي عرض طلبة القرويين إلى النفي والاعتقال الذي نال والدي حظه منه ...بعد ذلك سوف يعين هؤلاء الطلبة بأمر من محمد الخامس أساتذة بمدرسة النهضة بمكناس ...تلك المدرسة التي كانت بمثابة مدرسة للوطنية ، سوف يعود بعد ذلك ملك البلاد من النفي ، فيقرر الطلبة إياهم استقباله وشكره على موقفه الداعم لهم ، إلا أن بعض الانتهازيين سوف يحاولون احتلال الصفوف الأمامية وتهميش الطلبة ، فكان رد والدي أن "خذوه ياك حنا للي جبناه... يكفينا فخرا أننا دافعنا على استقلال البلاد حين كنتم تتخبؤون كالفئران بين شقوق الجدران" ! ويبدو أن الملك سمع ما كان يدور حوله من مناوشات فالتفت ضاحكا ونادى على والدي ليأخذ الصورة معه ! فابتسامة والدي على الصورة كانت مليئة بالامتنان والشكر .... على مستوى آخر ، من المعلوم أن الآسفي عين في مطلع الاستقلال قائدا بالخميسات ومن بعدها بسيدي بنور بداية الستينات ...فما لبث أن وضع استقالته لوزير الداخلية أنذاك احتجاجا على تزوير الانتخابات ...ما هي قراءتك لسياق هذا الحدث الاستثنائي ؟ صحيح عين الآسفي ...وبطلب ملح من قيادة الحزب وبانضباط لقراراته ، قائدا على عدة جهات الخميسات وسيدي بنور ...، لم يكن الآسفي راغبا في تقلد هذا المنصب .. فالأمور لا زالت غامضة وبناء الحزب يتطلب مزيدا من الجهد ...وربما كان ذلك لا يروق الجميع ... بعد تقلده للمنصب واجه الآسفي عدة صعوبات ...فقد رأى كيف كان بعض المسؤولين يستولون على الأراضي المسترجعة ، وكيف اغتنوا في زمن يسير ، فعمد إلى العمل على إرجاعها لأصحابها مهما كلفه الأمر... ثم جاءت بعد ذلك فترة الانتخابات الجماعية التي حرص من خلالها على كثير من الشفافية، الأمر الذي عرضه مرة آخرى لحرب شرسة مع اللوبيات المناهضة للديمقراطية ولمبادئ حقوق الإنسان... فقد كان همه أن يسهر على نزاهة الانتخابات وذلك سنة 1960 في الوقت الذي كان لوزارة الداخلية رأي مخالف تماما لمواقف والدي ... من هنا جاء قرار عزله ...حيث كان لهذا القرار وقع الانعتاق والتحرر من منصب لم يقتنع به أبدا... هاتف ثريا من مكتبه وطلب منها أن تزغرد فأجابت ، إذن فقد تحررت من المنصب ...فهذه أجمل هدية نتلقاها بعد الاستقلال .... المثير في الأمر أن العائلة ستواجه محنا أخرى في مغرب للاستقلال، فالآسفي الذي اختار دوما الانتصار لقيم آمن بها ... سيكلفه التزامه السياسي الاعتقال مرة أخرى في مخفر سري على هامش مقاطعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لحظتها للدستور الممنوح ......كما تعرض كذلك للاعتقال سنة 1973 .. كيف واجهت الأسرة جماح القمع الذي لا يتنهي ...؟ صحيح اعتقل والدي في إطار ما سمي "بالمؤامرة" سنة 1963 وهو حدث لا زال محفورا في الذاكرة ....وهو فعلا بداية المحنة مع مغرب الاستقلال . أذكر أنه كان قد طلب من ثريا والدتي أن تحضر الطعام لعدد من المناضلين وتهيئ لهم ظروف المبيت ، فبعد انتهاء أشغال اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالبيضاء سوف يحضرون للعشاء والمبيت ... غير أن انتظارها سيطول إلى طلوع الفجر ، حيث غادرت والدتي البيت فجرا رفقة صلاح الذي لم يكن يتجاوز عمره عشر سنين .. كانت حديثة العهد بالبيضاء ولم تكن تدري أي وجهة تقصد ، ولكن صلاح الذي كان يرافق والدي أحيانا إلى مقر الحزب دلها عليه ...وهناك وجدت المكان محاصرا ومطوقا بأعداد هائلة من الشرطة ، حيث علمت أنهم اقتحموا المقر واعتقلوا كل من كان بداخله ...وضمنهم والدي ..عادت لتخبرنا بالأمر وتستعد لرحلة للبحث عنه بل عنهم في مراكز الشرطة المعلومة والمجهولة .... وكيف كان حال ثريا لحظتها ؟ لم ألحظ عليها أبدا الخوف أو الارتباك، فقد كانت مؤمنة بعدالة قضية زوجها بل قضيتها ...كنا نسترق السمع إلى ما يدور حولنا ونفهم بحسنا الطفولي أن الأمر يكتسي خطورة كبيرة ... عجيب أمر هذه الذاكرة تستنفرها فتمدك بأدق التفاصيل ...أذكر أنني وصلاح كنا في المدرسة نعيد ما سمعناه في البيت بأن الدستور الممنوح لا يخدم البلد وأن شعارنا هو لا للدستور ...وأنه يجب أن يخضع لاستفتاء الشعب ..... في الغد كان التلاميذ يروجون لخيانتنا وكنا ندافع عن موقفنا باستماتة ....ربما دون أن نعي معنى الدستور الممنوح ....فلو قدر للطريق التي كنا نقطع مشيا على الأقدام أنا وصلاح أن تحكي ....لحكت عن الأناشيد التي كنا نردد عن فلسطين وعن "فتح" وعن بطولات الشعوب ....ونحن ذاهبان إلى المدرسة ! ...أذكر أن أحد رفاق والدي ويدعى " الشعبي " أطال الله في عمره كان يختبئ ببيتنا بحي لارميطاج ، وأنه استيقظ في أحد الصباحات باكرا ليغادر البيت تحت جنح الظلام ...وفي الصباح كانت الشرطة تملأ جنبات البيت بحثا عنه! في كل مرة أنبهر برباطة جأش والدتي وقدرتها على التحمل والمواجهة ... سنة 1973 كانت سنة استثنائية بكل المقاييس ، فقد اعتقل والدي أو ربما اختطف ضمن حملة الاعتقالات التي طالت عددا كبيرا من الاتحاديين ، حيث جاؤوا بعد ذلك لتفتيش البيت فراعهم عدد الصور المعلقة بمكتبه ... بوعبيد ?عمر ? المهدي ? الخطابي ? الحاج المانوزي ....سعيد بونعيلات تتشي غيفارا وآخرون ...وكانت والدتي ترقبهم وتشرح لهم أن هؤلاء هم أهلنا وعشيرتنا ... رفعوا من وثيرة الترهيب ... وهددوا باعتقال الأبناء ... ظل والدي في عداد المفقودين طوال سنة كاملة لم تترك خلالها والدتي بابا إلا وطرقته ولا سجنا إلا ولجته ولا مركزا للشرطة إلا وتوجهت إليه ...دون جدوى ... سوف يتبين فيما بعد أنه كان يوجد بمركز الاعتقال السري " الكوربيس " حيث غادره في هيئة شبح بعد أن رأى بأم عينيه رفاقه يموتون واحدا واحدا ...من التعذيب والجوع والبرد ...وكان حظه أن خرج للوجود من جديد ووزنه لا يتجاوز خمسا وثلاثين كيلوغراما ... سيكون أول لقاء له بعد ذلك بآسية بالمحكمة حيث سيخبرها أحد الحراس أن والدها يوجد ضمن المعتقلين المقدمين أمام وكيل الملك ... ستهرع آسية إلى مكتب الوكيل وسوف يصعب عليها التعرف عليه ...فالشبح الواقف أمامها كان والدي ....هو من نادى عليها ...كان حافي القدمين رث الثياب أشعث الرأس خائر القوى ...تكسوه صفرة الموت ....وهو على قيد الحياة . .. ! ستتولى والدتي فيما بعد تضميد جراحه النفسية والجسدية وسيستغرق ذلك سنين يعلم الله هل طالت أم قصرت ولكن عناية ثريا ستعيد البسمة إلى قلب محمد . وكيف واجهت ثريا عناد الحياة بعد اعتقاله ...؟ لم تثبط الأهوال عزيمتها ولا نالت من إقبالها على الحياة ...بل كانت حافزا لها على العطاء فكانت المناضلة الشاعرة والأديبة المعطاء...ولم تكن لتدع غياب الزوج يؤثر سلبا على حياتنا أو ينغص صفو الأيام، لم يؤثر بحثها عنه في السجون والمعتقلات على حرصها الأكيد عن متابعة دراستنا ونيل النتائج المرجوة ... فكانت بعده المرأة الرجل الأم .... ،أذكر أنها كانت تتابع بنفس الحرص سير دراسة " محجوبة " الطفلة التي ربت إلى أن نالت الشهادة الابتدائية بتفوق ... فطلبها والدها للزواج رغم اعتراض والدتي .... كابرت ثريا حتى لا يظهر عليها التأثر ، صبرت وصابرت رغم السجن والنفي والاختطاف ...قاومت حتى لا تضعف ...وظلت شامخة متماسكة .... من المؤكد أن محنتها تضاعفت باعتقالك أنت كذلك سنة 1973 رفقة صلاح وعزيز الذي لم يتجاوز سنه 17 سنة؟ لا تختزل ذاكرتي أي لحظات ضعف أو تخاذل ... فقط ...قلب أم يحترق ...في صمت وجلد ...كنت أحيانا اسمع أنينا صامتا منبعثا من ثنايا فؤادها ...لم تكن تسمح له بالإفلات ....فاعتقال الأبناء الثلاثة لم تضرب له حسابا ...ولم تجعله في الحسبان ...لم تكن قد استرجعت أنفاسها بعد إطلاق سراح الآسفي حتى داهمها اعتقال آخر لأبنائها الثلاثة ....كان صعبا علي بعد إطلاق سراحي من المعتقل السري درب مولاي الشريف أن أبلغها بوجود صلاح ضمن المختطفين ...وأما عزيز فقد أخذوه أمام عينيها ...سلمت مجددا بالأمر وراحت تنتظر ....وتسأل وتبحث....بعد إحالتهم على المحكمة ضمن مجموعة ما كان يسمى "مجموعة السرفاتي" وصدور أحكام ضدهم بمدد تجاوزت العشرين سنة ...ستظل زغرودتها داخل المزار حديث الجميع...وستظل رباطة جأشها نبراسا لنا ...رغم عنف عدد السنين الصادرة ضد ابنيها صلاح وعزيز ستكون ثريا خير بلسم لجراح والدي الذي كادت تلك الأحكام أن تقصم ظهره... لنعد الآن إلى موضوع آخر .. خلفت ثريا كتابا استثنائيا في مضامينه " مناديل وقضبان" هو مناجاة متبادلة بين محمد الوديع الأسفي وزوجته ثريا السقاط ...كتاب يطفح بالأشعار والمشاعر الجياشة من داخل الأسوار ..كتب بغير قليل من الألم والآمال .....ما هي زاوية قراءتك لهذا الكتاب ؟ " مناديل وقضبان" ...يمكن تصنيفه في خانة السير الجماعية ...والتأريخ لفترات متباينة من تاريخ البلد ...فبالرغم من كونه يحتوي على رسائل الحب والعشق ثم الجدل الفكري مع الأبناء ...إلا أنه كتاب سياسي وفكري بامتياز فهو يحكي عن تاريخ حقبة من أكثر الحقب اشتعالا في تاريخنا الحديث ... فمن خلاله يمكن استكشاف قدرة الإنسان على تخطي الصعاب والمساهمة الرائدة في بلورة الأفكار والعواطف والإبقاء على الأمل ... وإذا كانت المعاناة والمحن هي التي تبعث فينا الإنسان وتحيي المثل العليا ...وتذكي الإبداع وتستنفر الكامن في أعماقنا ...فإن تاريخ الأسرة طبع ولا شك كل أفرادها ... فكل منا يكتب بطريقته ..العربي مبدع وشاعر صامت في أغلب الأحيان... يكتب باللغتين ، توفيق كذلك يواكب الأحداث...يؤرخ لها ويشد بالنواجد على حزب والديه ... !! وفاء تحرص على حقوق العمال من خلال عملها النقابي المستميت ...جمال ....كان يسميه أحد المناضلين بفيلسوف العائلة ...وأما خالد فيتابع نضاله اليومي بفرنسا ضد العنصرية والإقصاء ...فيساعد المهاجرين على تحرير مطالبهم وتقديمها للجهات الرسمية ... ثم آسية التي لم يكتب لها أن تنشر ما دونت ...ربما يكون لنا دور في ذلك مستقبلا ... عزيز يضحك من المأساة بطريقته ...فيسرق الضحك ويتبله بالملح والإبزار... وأما صلاح الذي نظم الشعر وهو ابن التاسعة فقد ظل لسنين وما يزال يتغنى بالحب وبالجمال ...يناهض الاستعباد ...فلا يقبل اليد التي تمد له وفوق رأسه شاشية ...ولا يلثمها إلا حبا وطواعية ....ثم يقدم لنا عريسا استثنائيا وقصة عن هول تزمامارت .... وهل من مكر الصدف أو أجملها أن تجتمع في الأسرة محنة الاعتقال مع الشغف بالشعر ...؟ والدي طبعا نظم الشعر وكتب بعض سير المناضلين وأنشدت ثريا قريضا في الحب وفي الرثاء وفي الذكريات وعن الشهداء.... يقول عزيز في تقديمه لديوان " أغنيات خارج الزمن "إن غنائية الشعر وموسيقاه تلح على الوجدان فيذوب الفؤاد ..ثريا ليست شاعرة فقط إنها حاضرة في قلب كل الأحداث ، سواء التي صنعت المغرب المعاصر ، أو التي تصنع المغرب المعاصر ....بالفعل والحركة والعمل الدؤوب والأدب تؤرخ وتصنع الأيام كي لا تتشابه الأيام ". والشغف بالشعر والأدب لم يكن مقصورا على بعض أفراد العائلة دون غيرهم ...بل كنت ترى أحدهم يرتب كلاما ثم يتوجه إلى ثريا ليسألها عن رأيها ...وهل ما قاله شعرا ... !! س- من المؤكد أن الآسفي اختار الاستقرار في بيته بالبيضاء رفقة العائلة مطلع الستينات ...ماذا يعنى لك هذا العنوان : 14 زنقة النخيل ? الوازيس ؟ ج - الحديث عن بيتنا بالوازيس يقتضي الرجوع إلى تاريخ ومناسبة اقتنائه ...ذلك أنه بعد إطلاق سراح والدي إثر قضية "المؤامرة " سنة 1963 وكنا نكتري بيتا بحي لارميطاج ، اضطررنا إلى تركه بعد أن تراكمت ديون الكراء التي لم يكن في وسع والدتي دفع مستحقاتها رغم كونها بادرت إلى تعويض والدي في المدرسة التي كان يعمل بها ، وكانت أجرتها لا تفوق ثلاثمائة درهم شهريا ...وكنا تسعة أطفال بجميع متطلباتهم ...وكانت الرحلات المتتالية إلى السجون والمعتقلات وما يستتبعها من نفقات .. تركنا البيت إذن وحملنا أنفسنا إلى بيت بحي قرية الجماعة ، كان مبلغ الكراء أقل كلفة ...لبثنا به بعض الوقت ...وكان والدي مهددا بالاعتقال في كل حين .. فاضطر جدي للأم أن يفاتح والدي في أمر اقتناء بيت يحمينا شر السؤال وغدر الزمن ...فقد كان هو وجدتي يلازماننا خلال فترات الاعتقال ويقتسمان معاناة الأم وأبنائها التسعة ! ... اضطر والدي إلى الاقتراض ، وباعت أمي كل ما كانت تملك من أجل اقتناء بيت لم يكن ثمنه يفوق 9.000 درهما تسعة آلاف درهم ! ...كان بيتا متواضعا جدا ...استطاع أن يقينا لزمن غير يسير تربص المتربصين ومكر الأيام ... فكانت لنا به ذكريات لا تنسى ....آخر ما حدث معي بالنسبة لهذا البيت ... قصة طريفة ، فقد اكتشفت مؤخرا وأنا أركب سيارة أجرة صغيرة أن السائق كان يعمل في سلك الشرطة خلال السبعينيات من القرن الماضي ، وكان مكلفا وقتها بحراسة البيت ومتابعة خطوات والدي ، فقد أقر بذلك في حديث طريف معه وطلب مني المسامحة وهو يوصلني إلى البيت دون أن أدله عليه ... ! سيظل ذلك البيت شاهدا على كل القمع والقهر الذي طال ساكنته ...وعلى أساليب التفتيش الهمجية التي عرفت جنباته... وعلى صمود وشموخ أصحابه ...وسيذكر أيضا كل الفرح الذي سكنه وقت كنا نجتمع لنتسامر ونسمع سويا شذو أم كلثوم وفيروز تحت ظل شجرة وارفة ...هي شجرة الوديع وثريا .... - إذا تجاوزنا زوار الليل ولحظات الاعتقال الرهيبة؟ في هذا البيت بالذات الذي ظل مشرعا للجميع مرت وجوه طبعت تاريخ المغرب بمسار استثنائي " عبد الرحيم بوعبيد ، عمر بن جلون ، بوستة ، الفقيه البصري ، بونعيلات ، بنسعيد ، اليازغي وآخرون ... كما أن عدة اجتماعات بالبيت صنعت أحداثا وطنية كبرى خطط لها من هناك ....بماذا تحتفظ ذاكرتك على المستوى........؟ لقد ظل البيت فعلا مشرعا في وجه الجميع ، كان قبلة لكل المناضلين وملجأ لكل مظلوم ...وكانت ثريا شمعته التي تضيء حلكة الليل وزهرته التي تعبق بها جنباته ...كان البيت يحتضن جميع اللقاءات التحضيرية للاجتماعات الحاسمة ...ثريا كانت تؤثث الفضاء وتدبر الاستقبال بما يليق بالضيوف بل بأصحاب البيت دون أن تتخلف عن صنع الحدث معهم ... فقد أصبح في وقت لاحق قبلة كل من أسسوا لمغرب اليوم ...عبد الرحيم بوعبيد ....الفقيه البصري .بونعيلات بنسعيد ..اليازغي.. عمر ، بوستة ، محماد السيكليس ..الشعبي ...بن موسى ...المكناسي ...الأموي ...واللائحة طويلة .. كنت أرى والدي مزهوا وهو يستقبل المناضلين على اختلاف مستوياتهم ومسؤولياتهم ..ويطلب من والدتي أن تعد لهم ما يكفي من الطعام بالابتسامة المعهودة ...الآسرة ...وكانت هي تستجيب بقلب طافح بالمحبة وبشغف الولهان المتيم بحب الوطن ...وبحب الآسفي . لعبة الأطفال لم تكن تخرج عن إعادة المشهد الذي يعيشونه يوميا .... " جمال أنا هو السي عبد الرحيم ونتا عمر "....يحادث العربي ... ويبدأ" النقاش"بينهم حول شؤون البلد .تماما كما كانوا يسترقون السمع لحوارات الكبار .... ! سوف يلتحق بنا بعد ذلك يوسف ابن آسية وحفيد ثريا ...صار ابنا وصديقا لجدته ...فكان يرافقها إلى جميع تظاهرات فاتح ماي... يرفع الشعارات ويمشي في المظاهرات وهو ابن التاسعة أو العاشرة ...يحشر نفسه في كل صغيرة وكبيرة ...كان يعطي الانطباع بأنه " رويجل " ويعول عليه ... ! اليوم ...هو رفيق للمناضل الكبير عبد الرحمان اليوسفي لا يقدم على أمر إلا بمشورته ...رغم أن الرجل لا يتكلم كثيرا ...صار يفهم توجيهاته المقتضبة ...ينتشي أمامنا وهو يخبرنا بأن له موعد أو لقاء مع الرجل ! س- الأستاذ أسماء أنت اخترت واجهة النضال الحقوقي وإسناد القضايا العادلة ، فيما اختار صلاح مسار الإنصاف والمصالحة ، واختارت آسية رحمها الله مسار الكفاح من أجل أنسنة السجون .. واختار عزيز الكتابة بالملح والإبزار وسرقة الضحك لمقاومة شبح الماضي الرهيب .. وبينكم يقف توفيق ومعه يوسف حاملين ، بين الوقت والحين ، مشعلا ليستمر الاستثناء قاعدة لما ينبغي أن يكون ؟ ما تعليقك ؟ ج- اختيارات الأبناء لم تكن بعلاقة مع رحيل الوالدين ...فالانخراط الإنساني في علاقتنا بما حولنا كان يطبعه في البداية نوع من الاندفاع العاطفي.... ثم سرعان ما خضع للتهذيب فكان اختيار كل منا نابعا من قناعات راسخة بأن البشر لا بد أن يكونوا متساوون في الحقوق وفي الواجبات ...فآسية مثلا كان يزعجها كثيرا أن ترى طفلة صغيرة تعنف أو تحرم من الحق في الدراسة وفي الفرح ...فقد علقت يوما وهي بعد طفلة بسيدة داخل حمام عمومي لأنها كانت تسيء معاملة طفلة صغيرة ....كانت على ما يبدو خادمة لديها ...قصة الحذاء أيضا الذي أهدته لصبية كانت مارة من الزقاق وهي حافية القدمين مؤشر على توجهها الإنساني منذ الصغر .... فهذه الاختيارات إذن كانت نابعة بالدرجة الأولى من منطق الإيمان الراسخ بأن المساواة بين بني البشر أمر لا يقبل الجدل ... وأن كل عمل سواء كان جمعويا أو سياسيا أو نقابيا لا بد أن يكون أساسه الأخلاق ...فلا ابتذال في السياسة ولا حسابات ضيقة ... ولا شفقة في العمل الجمعوي بل تضحية وعطاء .... ولا مساومة في العمل النقابي ...ثم لا خلط بين أمور الدين والدنيا ... كل ذلك ينضوي تحت منطق الواجب الذي علينا جميعا تجاه وطننا وشعبنا ...ومع ذلك ظل الجانب العاطفي يطغى على كل اختياراتنا ...فكلنا يذكر كيف بكى صلاح بحرقة مع بوح ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكيف سخر عزيز من قسوة الجلاد فأحال حلكة الأيام إلى بسمة على شفاه القارئ ....كتابة تفيض عاطفة إنسانية راقية.. ! في النهاية هو ضحك كالبكاء ... لا شك أن العواطف تورث كذلك ...فوالدي ظل لسنين يخفي خلف جدار الصرامة قلبا ينفطر ألما ويذوب كمدا لأبسط صورة للحكرة ...أو الظلم ...فتراه يثور كبحر هائج وبداخله ألم دفين ... سؤالي الأخير عن رجل ظل وفيا للعائلة ... بل أضحى واحدا من أفرادها ، يقاسمها الأحزان والمسرات ولا يتردد في الزيارة والسؤال ... عبد الرحمان اليوسفي صديق العائلة .. ما هي قراءتك لهذه المودة الاستثنائية ؟ هل هي مودة استثنائية ..أم محبة أم احترام متبادل.... وهل هي صداقة أم انصهار ...استحال فيه الأطراف إلى واحد ...أم هي المبادئ والأخلاق توحد بني البشر....لا يمكن اختزال الحديث عن الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي في سطور .... ولا عن علاقته بالأسرة في شهادة واحدة ...فقد شببنا نحن منذ الصغر على قامة هذا الرجل وهو يدخل بيتنا في أحلك الظروف ...يحاور ...يسأل عن الأحوال ...يبتسم في هدوء وهو يدافع عن فكرة...يرسل نظرة حب للجميع ...عبد الرحمن اليوسفي وهو أحد رجالات هذا الوطن و أحد القادة الحزب الاستثنائيين ... رجل المواقف الصعبة ... رجل الحوار والمصالحة ...حتى لأني خلته في بعض اللحظات العمود الفقري للحزب والقادر على حل كل المعضلات ...رجل يتكلم في صمت .... فهل كان فعلا أحد أفراد الأسرة أم أن الأسرة أصبحت كلها تنتسب للرجل ؟ .... رجل شاركنا الأحزان والآلام أكثر ما شاركنا الأفراح والمسرات .... حضوره القوي عند رحيل الأحبة كان له أكبر الوقع في النفوس ..فقد عرف كيف يضمد الجراح ويداوي الألم ويخفف من وقع الفواجع... آخر ما سمعته يقول يوم رحيل آسية ..وكان يجلس بغرفتها ..بالبيت إياه بالوازيس ... قال لي ..." أراهم الآن جميعا حولي ...ثريا ، محمد وآسية ...إنهم معنا ..." لا تحزني ....ثم ربت بيده على كتفي ...