يوم 19 فبراير1992 أسلمت ثريا السقاط الروح إ لى باريها بأحد مستشفيات باريس، اليوم تحل ذكراها 21 ، قد يكون من واجبنا -في سياق حفظ الذاكرة - أن نعيد قراءة مسار امراة استثنائية بكل المقاييس ،طبعت تاريخ المغرب المعاصر ببصمات قوية، دافعت عن استقلال البلاد وانخرطت في الخلايا السرية للمقاومة ..شاركت بعناد كبير في النضال السياسي من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ساهمت في بناء حزب كبير بجانب قادة كبار ..عاشت من أجل ذلك محنا كبرى مع الاعتقال السياسي سنوات الجمر والرصاص حين اختطفوا أحبتها ليودعوا بالمخافر السرية والسجون عقودا وسنوات.. ثريا مفرد بصيغة الجمع ،إسم بمساحة الوطن ، قاومت المحن بكثير من الصبر والعناد فكان ملاذها الشعر والبوح الجميل ..اخترنا إحياء لذكراها نشر مساهمة جميلة للكاتبة حليمة زين العابدين في قراءة عاشقة لكتاب الراحلة «مناديل وقضبان» ثريا ..المرأة التي اختارت رجلا يمشي فوق النار والأشواك بقلم : حليمة زين العابدين مناديل وقضبان قصة يؤشر عنوانها إلى متعدد لا متناه من وداع مسكون بهوس الرحيل إلى قلب الوطن، يحاصرهم أخطبوط أرجله قطبان وأسوار من إسمنت مسلح وأقبية كريهة العيون، ينفلتون من شباكه بأعجوبة اسمها الصمود ثم يشدون الرحال إلى هذا القلب المسمى الوطن. وترتفع المناديل بنشيد الوداع ثانية وثالثة... يتعب العد ولا تتوقف الرحلة فالعودة ... قصة يتداخل فيها الزمان بالزمان، في بنية مكانية متفرعة داخل كل بيت بهذا الوطن، زمن الاستعمار وزمن الاستقلال. الراوي حاضر في الحدث، والصوت صرخة من غياهب القهر الممتد من عهود الاستعمار إلى عهد الاستقلال، والرهان امرأة انتصرت على الزمن وشطبت من قاموسه على علامات تؤشر للاندحار والموت، فعاشت ممتدة في عمر الوطن وفي حلم كل امرأة النموذجَ والمثال.. أما المسار السردي التي تتمظهر عليه»مناديل وقضبان» فهو تتابع رسائل تجمع بينها ثنائية المكان . المكان الدال على الضم والانغلاق، (السجن) والمكان الدال على الانفتاح اللامحدود (خارج السجن). وكل رسالة تحتوي على خطاب مضموني، يمكن اعتباره مشروع نص سردي مقدم على علته أو كمادة خام تأخذ القارئ بحركة خلاقة، تجعله يبدع نصا ثانيا وهو يحيى داخل حياة من اللذة والألم، تنبض بها الرسالة، فيتحول من مروي له مفترض إلى مروي عنه. الأم/ الحبيبة/ العاشقة في مناديل وقضبان كلما فتحت هذا الكتاب المشكل من جزيئات الجسد والذاكرة، جسد وذاكرة كل أم وحبيبة أُلْحِقَ بصوتها الشرخ من قهر المعاناة، أقول: «ما أروعها من أم، وما أجملها من حبيبة»، هذه المرأة الساردة لمناديل وقضبان و التي جعلت من نضالها جسرا للامتداد فينا، فلا نحاكي صلابتها الذائبة في الرقة، ولا رقتها المحملة بعنف العواصف، حين ترمي البراكين دخان الخيانة والغدر لاغتيال أجمل ما في أم وأبهى حبيبة، رقتها. صعب الحياد في دراسة نص كاتبته تسكنك. صور الخمس عشرة سنة التي عشت خلالها بجانب ثريا السقاط تتناثر على صفحات مخيلة سقطت منها كل الذكريات إلا ذكرى زمن ثريا المحكي عنه في مناديل وقضبان،السرد الناقل لوقائع كما جرت في الوقائع، من غير أن يتدخل أي سارد لتكييفها أو لخلق زمن روائي يتداخل فيه الواقع بالخيال. إنها امرأة ما حكت نسجها الأساطير، فهي لم تلاعب القدر بغزل نسيج ، تفك خيوطه بالنهار ،لم تبك ابتلاع البحر للحبيب ولم يرق قلب آلهة البحار لها فتحولها نورسا يقتفى أثر السفن العائدة على الموج، فعلا لم تحك عن مثلها أساطير الفنيقيين والإغريق لأنها امرأة من عصر ذوبان الجليد. في مناديل وقضبان تسرد قصتها ومحمد الوديع الأسفي،عبر رحلته في سراديب وأقبية سجون ما قبل سنة 1956 التي تحولت إلى اصطبلات تحت أرضية ما بعد سنة 1956، أمكنة تخصى فيها إنسانية الإنسان ويتم إلحاقه بفصائل الحيوان يقول محمد في رسالة لثريا: «أخذت أتحسس راسي فوجدت شعرى قد تشعث وتحجر في أمكنة متعددة فقلت في نفسي ما هذا؟ وأخذت أحثت ما تحجر فإذا به الدم الذي نزف من أماكن شجت في رأسي، وهنا فهمت ما كان يصرخ به أحدهم حين كانوا بصدد شجي -اضرب الرأس لا تخسر البطانة- كنت أعتقد أنهم يتكلمون عن كبش فأدركت بعد فوات الأوان أن الكبش المعني هو أنا» ص260 . وهي مرحلة تتوالى أحداثها في النص وفي الواقع، لتزامن أحداث سنوات السبعينات من القرن الماضي و مرحلة اعتقال ابنيها عزيز وصلاح وابنتها أسماء، ومعاناتها كأم لحرمانها من أن تداعب يدها شعر أطفالها المنتزعين قهرا من حضنها. فالمرأة ثريا هي الحقيقة وهي الخيال، هي الممكن و هي المستحيل . الحقيقة، أن ثريا وجدت فعلا. الخيال: هل بمقدور عقل بشري أن يتصور زهرة ارق من النسيم تحز بكل منشار صدئ ودنيء ولا تتهاوى ولا تسقط؟ الممكن: فهي الأم التي عضت بأسنانها الظلم يغتصب ثلاثة من أبنائها مرة واحدة . المستحيل: ماذا تتصورون أن تفعل أم أمام قاض يوزع على ابنين لها. واحد دون العشرين والثاني تجاوزها بقليل أربعين سنة سجنا وبالتساوي. لا. لم تبك ولم تصرخ ولم تسقط صرعى أحزانها ولم تحول المحكمة إلى مأتم .. تصوروا أعلت زغرودة اهتزت لها أركان الدارالبيضاء ، فخرجت في مظاهرة ما لها آخر في مقدمتها أم في السبعين من عمرها وفي آخرها أم في العشرين وكلهن لحمة نسيج قصة المرأة ثريا فالقصة ليست قصة امرأة يدخل زوجها السجن فتحمل قفة زاد وتتبعه متوسلة أن يطعموه. ولا قصة أم يعتقل ثلاثة من أبنائها في زمن واحد بتهمة عشق الوطن. فتلبس الحداد وتترك الدمع جارفا يعري أحزانها. ولكنها قصة امرأة هي شعلة التحدي في زمن اغتصاب إنسانية الإنسان. تتقاطع أحداثها وشخوصها مع قصة عنوانها الوطن. وتبدأ أحداثها على محور زمن السرد سنة 1951 وكلها أحداث استرجاعية ترددية، يجريها في الزمان والمكان قوى فاعلة لا يتبدل فيها إلا الفضاءات والمؤسسات القمعية والجلادون الذين يغيرون الأقنعة بحسب أزمنة تواجدهم وما يسند إليهم من أدوار. سنة 1951 كانت بداية علاقة ثريا مع السجون، ولكنها لم تكن بداية حركية فعل ثريا ليمتلك الوطن جوهره, ولتخرج المرأة من الصمت الذي يلفها وتمنح قوة الإصرار لتحول الأنثى الجريحة بداخلها إلى إنسان، فقد بدأت مسيرتها النضالية منذ كانت تلميذة، ومن على خشبة المسرح المدرسي كانت ترفع علم النضال لتحرير الوطن من الاستعمار ولتحرير المرأة من قهرها المركب. ثريا امرأة جميلة لم تقل هذا عن نفسها في مناديل وقضبان. ولم أستخلصه من رسائل زوجها لها من داخل السجن وهو يناديها عبر إحدى رسائله :» سيدتي فلله درك من أديبة نابغة، وحفظك الله من فصيحة فاتنة، فلئن افتخر ابن زيدون بولادته وتباهى ابن عباد باعتماده وتعاظم ابن أبي ربيعة بعاتكته فللأسفي أن يعتز بثرياه ...» ص86 ولكنني عرفتها بعد تاريخ هذه الرسالة بعشرين سنة.حين كان عمرها ثمانية وثلاثين سنة. أمضت منها اثني وعشرين سنة في صراع مع معاناة الاستعمار ومعتقلاته ومخلفات رحيله والحنين إلى عالم لا حيف فيه ولا امتهان لكرامة الإنسان عالم يتساوى فيه الرجل بالإنسان والمرأة بالرجل, وكانت فوق الوصف, تعجز معانيها صور الشعر لأنها هي الشعر. ويقصر مقول كل جنس أدبي عن تجسيدها كما رأيتها. لم تختر زوجها وهي في السادسة عشر من عمرها رجلا يضيفها إلى قائمة ممتلكاته وأشيائه تمثالا مرمريا يحجبه عن الشمس ... ولكنها اختارته مشردا مطاردا لأنه قال: لا .. لاغتصاب الوطن . تحمل قضيته عن وعي بها وإيمانا بقضية الوطن . تخرج للنضال إنسانا قادرا على فعل التغيير الاجتماعي والسياسي، وامرأة تدرك معنى الحجر على عقل المرأة وإقصائها من الفعل في معركة الوطن، تحارب في صفوفها الأمية وتعرفها بقضية الوطن لتصبح «امرأة طليعية» تقول:»وفي هذا الإطار كان عملي يتمثل في تأطير السيدات في مدينة سلا ومحاربة الأمية في صفوف الطليعة, طليعة الشابات التي كنا نطلق عليها طلائع الإصلاح. وإسعاف عائلات المعتقلين أثناء فترات اعتقالهم...» ص11 يعتقل زوجها وهو يوزع المناشير، يحرض الشعب المغربي للخروج في المظاهرة التي دعا لها حزب الاستقلال تضامنا مع الشعب التونسي إثر اغتيال فرحات حشاد. لم تستسلم لطوفان الحزن المندفع مع طقطقات المفاتيح تغلق أبواب الحديد على المعشوق العاشق لجنون مغامرة الارتماء في بحار البحث عن الجميل في الإنسان،حاكت من أحزانها مرقى للاعتلاء على كل فعل مقصود لاغتيال أجمل ما بداخل الإنسان، «الإنسان» تقول:»هذه كانت أول تجربة لي مع السجن بكل ما يتطلبه من ذهاب وإياب وصراع في باب السجن، وخصام مع المسئولين عنه، وتوعية عائلات المعتقلين الذين ألتقي بهم بباب السجن*ص12 ويغادر الزوج السجن بعد غيبة قهرية دامت ستة أشهر. تزامن خروج زوجها من المعتقل مع أحداث غشت 1953 ، لم يكن بوسع نشوة اللقاء أن تصرف الحبيبين عن هموم الوطن، يتركان خلوتهما وينخرطان في معركة التحرير . تخرج ثريا من بيتها عاصفة تهز أركان المستعمر الذي لم يضع في احتمالاته أن توجد امرأة قادرة على تحويل غضبها من أجل الوطن إلى شهب من نار تقول: «في هذه الأثناء جاءت أحداث غشت سنة 1953 التي روعت المغرب بأكمله..........وكنا نحن النساء نتوزع على مساجد الرباطوسلا لمراقبة خطب الجمعة ونقوم بإبلاغ المعلومات إلى الحزب...لم يتوقف عملنا النضالي كنساء سواء على مستوى التوعية أو بعقد اجتماعات للخلايا أو بالتفكير في وسائل النضال بالطريقة التي سار عليها الفدائيون فيما بعد و التفكير بالعمل المسلح» ص12 في خضم هذه الأحداث تأتي تجربتها الثانية مع السجن، قالت عنها أنها كانت أعنف وأشرس من الأولى. أعتقل زوجها ولم تكن تعلم في أي سجن حط الرحال. حملت متاعه وخرجت للبحث عنه و كان حضر التجول مفروضا بقوة جنود المستعمر واستطاعت أن تصل إليه، قالت: «اخترقت حشد الجند إلى أن وصلت إلى باب السجن قرعت الجرس...رأيت شبحا قادما من الأسفل والضمادات تغطي يديه وقدميه ووجهه تعتمره صفرة الموت...»ص13. وأقسمت ثريا ألا تركع للموت الأصفر يسرق زوجها والوطن. توجهت في اليوم الموالي إلى السجن أخبروها أن زوجها نفي إلى الصحراء، لم تصدق أقوالهم ولم تنهزم أمام أحزانها وقررت مواصلة البحث عنه. و من سلا أخذت الطريق سيرا على الأقدام حتى سجن لعلو بالرباط، هناك أنكروا وجوده. لم ترجع إلى بيتها ثكلى أحزانها... نسيت همومها في هموم الوطن و انخرطت في مَظاهرة وجدتها في طريقها تهتف برجوع محمد الخامس. كررت محاولاتها لفك الحصار عن زوجها و الوطن، كسبت ثريا رهان التحدي، فقد أخبروها أن بإمكانها رؤيته. فرحة تفكر كيف تقول لزوجها: «أحبك»، وهي كلمة لا تقال أمام الرقباء والمخبرين، وكيف تحكي له عن أخبار الوطن التي منعت أسوار السجن وصولها إليه. تأتيها فكرة كتابة رسالة ، تقول فيها « .... حبيبي الغالي كم أنا سعيدة لأني كلما أردت أن اكتب لك أشعر أني أحلق وإياك في دنيا من القداسة والسعادة والنور، أشعر كأني أخاطبك وجها لوجه... أيها الحبيب نحن هنا في سلا، بعدما أخذوك مكثت أبحث عنك فلم أعثر لك على أثر، وفي خضم الأحداث وأثناء التهديد بنفي الملك وعائلته قررنا أن نخرج في مظاهرة شاركت فيها جمع غفيرة من النساء ، كتبنا على الجدران عبارات معادية للاستعمار رغم أن العسكر والشرطة بكل فصائلها كانت تطوقنا ... كل الطرقات الفاصلة بين منزلنا في سلا وبين سجن لعلو كتبنا عليها عبارات تمتلئ ثورة وغضبا. نساء المدينة القويات المناضلات يقمن بواجب المواطنة على أحسن الوجوه... كل عائلات المعتقلين ترعاها أخواتنا المناضلات بالمساندة والدعم، في اجتماعنا الأخير مع طلائع الإصلاح تحدثنا كثيرا عن إمكانية خزن الأسلحة، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة «ص 37 -38 تدس الرسالة في ثنايا الملابس التي أخذتها لزوجها. قضى الزوج سنة بسجن لعلو، ثم تقرر نقله إلى سجن آخر لم تخبر به، تحس بداخلها جرحا ينزف طوفانا من حمم الغضب ومقاومة عارمة لكل سيافي الحب ومغتصبيه. تقول:» وهكذا كان علي أن أداوم أمام باب السجن طيلة خمسة عشر يوما لمعرفة اليوم الذي سيتم فيه ترحيلهم إلى سجن العاذر،وذات صباح جاءت إحدى الشاحنات العسكرية وعلى متنها جنود مدججون بالسلاح وحملت المعتقلين الذين كانوا مقيدين بالأصفاد ... هنا بدأت تجربتي مع سجن آخر هو سجن العاذر .. كنت أزوره أسبوعيا...» ص 39. بعد أربعة أشهر يتم ترحيل الزوج إلى سجن القنيطرة . لم توقف ثريا المسير، في زيارتها لزوجها بالمزار، كانت أرق من النسيم وفي الشارع الغاضب كانت أعتى من الزوابع، تناضل على كل الواجهات، تناضل ليفك الحصار عن الحبيب المعتقل،تناضل ليستقل الوطن وتناضل لتنال المرأة حريتها وحقوقها. وجاء الاستقلال يحمل معه نهاية معاناة ثريا مع الاستعمار وبداية معاناتها من اغتيال الحلم بفجر الحرية، ففي يوليوز 1963 يذهب الزوج لاجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدارالبيضاء فلا يعود، تأخذ طفلها صلاح وتذهب للبحث عن الزوج. تراودها أحزان وظنون طوفانية تتمناها لو تكون وهمية، فالوطن الذي هتفت له بالحرية وكتبتها على جدران دروبه وحواريه بدمها لن يكون قاسيا عليها... ترجع إلى بيتها تحمل خبر اعتقال زوجها ورفاقه إلى عائلاتهم عبر الهاتف والبريد، وتتعمق الجراح ويصبح لكل جرح روافد فها هو الاستقلال يكافئها بالحكم بالإعدام على الرجل الذي لاحقت حبه من سجن لسجن في عهد الاستعمار . تقول:» إن البلاغ الذي قرأه على أمواج الإذاعة الحاج محمد بحنيني، الوزير الأول آنذاك،لم يكن له سوى معنى واحد هو أن جميع المعتقلين سيحكم عليهم بالإعدام ... هنا بدأت معاناة جديدة ليس بالمفهوم السابق ، نحن في عهد الاستقلال،سجن يعذبك فيه مغربي.ص 15, تدخل ثريا في دوامة بحث جديدة عن الزوج الذي اختفى، يصل بها المطاف إلى درب مولاي الشريف، يصلها صراخه ملونا بصفير الكرباج، مخترقا أسوار السجن, تستجمع آهاتها المحمومة، بحر من صخب الصراع وارتطام أمواج المد والجزر ، أن ترجع منكسرة، أن تفجر غضبها بركانا يطيح بأسوار المعتقل السري ولم تكن تملك إلا الصراخ، بعد عشرين يوما ثم نقله إلى سجن القنيطرة ، تلتحق به وهي لا تعلم مكانه تأخذ طريقها إلى الكوميسارية ومنها إلى المحكمة لتأخذ الإذن بالزيارة، تذهب إليه صلبة وعذبة تحمل حبا قويا يستشرف اقتلاع جذور الاعتداء على الإنسان. ولا تقدر أن تحدثه عن مشاعرها أمام أعين الحراس بالمزار ، وحين عودتها إلى بيتها تكتب له رسالة،حكاية حبها مذ كانت تلميذة تقول فيها: «حبيبي الأسفي .. سألتني من أنا ؟ أنا الصبية الشاردة عمن ؟ عن أستاذ يدخل إلى قسم تراجع فيه مع بقية التلميذات والتلاميذ نص مسرحية تقوم فيها بدور البطولة، فتلحظ في قسمات وجهه معنى الإخلاص،العطف، الجرأة وبعد معنى الحب، نعم إنه الحب الخالص الذي هو نبراسي وهداي....» وتستمر في رحلتها معشوقة وعاشقة لفجر الحرية، لا تعرف محطات للتوقف، اختارت طريقها حين اختارت رجلا يسير فوق النار والأشواك. رسالة الى الأم الثريا .. في ذكرى رحيلها 21 ثريا حبيبتي، أيتها الأم الرؤوم في ذكرى فقدك الواحد والعشرين، قبر ينضاف، غصن من شجرة الوديع يتهاوى وجرح غائر لن يندمل. رَحلَتْ آسية يا والدتي بعد أن عرَفَت كيف تُحْيي ذكرى غيابِكِ العشرون. غابت في غفلة من الجميع، تَعِبَ الجسدُ وفضَّلَ الراحة والإراحة، ولكن الروح ظلت حاضرة معطاء إلى أن أعلن القلب، العضو، استقالته وتقاعدت إلى جواركم، كما كانت تصرح دائماً. فَقْدٌ خَاصٌّ، يا والدتي، في زمنٍ عَزَّ فيه أشخاص ذوو قيمة من طينة آسية. آسية عرفت كيف تحمل مشعلكما أنْتِ والآسفي فلم يَزْدَدْ إلا توَهُّجاً ولَهيْبُه أكثر اتِّقاداً، فحازت على اعترافٍ وطنٍّي وَدولِي بِسُمّو العمل وَنُدْرَة العُمْلَة. بعد رحيلك والدتي، عرفت آسية كيف تَلُمُّ الشَّمل، احتضنت الآسفي الشيخ، الطفل وَبَعْد رحيله احتضَنَتِ العائلة بأكملها، وأخذت على عاتقها تفعيل مناديلك وقضبانك، فأنْسَنَتِ السُّجُونَ وعرفت كيف تستميل فؤاد الملك الشاب لنصرة قضيتها، فاسْتجاب وانخرط في مشاريع ضخمة ولم يعد يُفارقها ولو للحظة داعيا للقاءات في فضاءات السجون أو مُهَاتِفاً طالباً مَشُورة لقرار، حاضناً إبَّان المرض، مُواسياً بَعْدَ الفِراقِ إنّه الأخ الذي لمْ تلديه يا وَالدتي، إنه بَلْسَمُ الجُرْح الغَائر فَأكّدَ مَا كانَ يُرَدِّدُهُ الآسفي رُبَّ أَخٍ لم تَلِدْهُ لك أُمُّك«. يَحضرني في ذِكْراكِ بيت من قصيدة »مديح الظل العالي« ظلت تردده دائماً ويًصْدُق على حَالَتِنَا حيث يقول درويش: »ذهب الذين نحبهم ذَهَبُوا... فإمَّا أن نَكُون أو لا نَكون حَتْماً سَنَكون رَغْمَ غيابِ الأَحِبَّة، آسية أعْلَت لَهيبَ المِشْعَل وجَعَلَتِ المَسيرَة أصْعَب لَكنّ الخَلَف استطاع الصمود رغم الإعصَار الذي هَدّ العائلةِ، فَيُوسُفُ الجريحُ يُدَارِي ألَمَ الفِرَاقِ مُكْتَشِفاً عَالمَ اليُتْم اليتم القاسي, آخذا على عاتقه مواصلة المسيرة محتضنا.,عن بعد، الجمعية ذاتها موجها وناصحا حفاظا على ما أسست له آسية، وندى حفيدتك وآخر من احتضنت وأنت على فراش المرض استفاقت من هول الصدمة، عرفت كيف تدعم وفاء، ساهرة على إحياء أيام آسية بسجن النساء مقنعة أبناء جيلها بالانخراط في نفس العمل فخلقت جمعية أخرى تخلد لمبادئ آسية. والدتي، أيتها الثريا، ذكراك، بالفعل متميزة هاته السنة فقد صرتم ثلاثة في عالمكم الآخر. هي في جواركم وبقدر حبي لها ولوعتي لفراقها بقدر غيرتي من مجمعكم هذا والبكر فينا بينكم، حتما أراها منتشية بالحضور توزع كؤوس الشاي وفي كامل أناقتها وبعد ترتيب المجمع، تشغل آلة التسجيل، فتصدع أم كلثوم بأروع أغانيها، كل أحبتي اجتمعوا منصتين: فهذا عمر الشهيد يقترب من الآسفي طالبا منه شرح بعض الأبيات وهو يربت على كتفه بحنو وصدق، وذاك عبد الرحيم القائد والذي يفضل الاستماع لمقتطفات من فن الجاز رضخ كعادته لرأي الأغلبية الحاضرة بعد تدخل سريع من ثريا شارحة أن عتابه على طول القصائد المغناة في محله, لكن السياق يفرض ذلك. عبد الحق... السبتي متأبطا لعبة الشطرنج المفضلة له يستعجل عمر الشهيد في السماح له بالاستفراد بالآسفي لرد دين له، فقد هزمه الأخير في لقاء ببيته وثريا تقدم كأس القهوة المعتاد، عبد الرحيم، الخال الملحن حاملا عوده يهمس لثريا بالتدخل لدى آسية من أجل السماح له بإهدائها لحنا بالمناسبة, ألم يهم بها هي إبنة الأخت البكر التي تقاسمت وإياه وزهرة أحلى اللحظات. فاطمة، غيثة، أحمد السقاط والعم محمد، الراحلون كلهم يحيطون بآسية وبقدر نشوتهم بلقائها بقدر استغرابهم حضورها المبكر بينهم. لقد أحبتكم بشدة فأوصيكم بها خيرا, فقد افتقدت الراحة في عالمنا البئيس وفضلت لقاءكم، أما أنا فلي الله في هذا الفقد لم أجد أجمل من بعض أبيات الآسفي أهداها لآسية في الزمن الجميل حيث يقول: بنيتي بنيتي رمز الأماني الغالية أهديك سفرا زاخرا بكل معنى زاهية لتعلمي لتفهمي مجرى الحياة الراقية لتتركي بعد الرحيل للشعوب الآتية معالم مرصودة تهدي الحشود الضارية صوت الخلود هاتف ما العمر إلا ثانية. توفيق الوديع الآسفي * العنوان من مقال بقلم المرحوم مصطفى القرشاوي