اسمحوا لي أن أستعيد معكم ثريا اليوم??? هي لا محالة ترقبنا وتبتسم، فقد انتصرتم لاختيارها وهي التي طالما احتفت بأمهات المعتقلين رفيقاتها في الكفاح الطويل??? هي الآن تحضر بيننا??? فسلاما لهذا الحنين وسلاما لفرحنا??? لجرحنا الدفين??? سلاما لامرأة جمعتني وإياها آصرة القرابة وآصرة الشعر??? اسمحوا لي أن أستعيد ذكرياتي معها ببوحها الجميل??? "يقينا سترهقني الذكريات، ويرهقني عالم متحد لكل نبي عبر رأيتك في الزمن السرمدي تسأل عما مضى وعما سيأتي وعما تولى وعما انصهر وتسأل كيف تأبد هذا القدر??? لكم هو جميل أن نستعيد الذكريات ولو أن الزمن العنيد??? قاس! من مكر الصدف أنني خرجت إلى هذا الوجود وبلادي تعيش على إيقاع حالة الاستثناء والجماهير بالبيضاء منتفضة وعريس الشهداء المهدي بنبركة غدرت به الأيادي الآثمة??? وتدرجت في الحياة لأكون شاهدا على لحظات رهيبة من تاريخ وطني، فكانت البداية مع محنة ثريا السقاط? أذكر وأنا طفل صغير حين دعاني أبي لزيارة أسرة الوديع، كان ذلك سنة 73، لم أكن أدرك لحظتها معنى الاعتقال وبالأحرى بشاعة التعذيب??? كانت المناسبة الإفراج عن محمد بن العربي الآسفي، ذلك الطلل الشامخ الذي قضى في معتقل سري شهورا وأياما قاربت السنة دون أن يأتينا أحد بالخبر اليقين أو يدلنا عن مكان وجوده??? أذكر الوديع قبل الاعتقال وجها متقدا بالحيوية والمرح، بعد الإفراج عنه لم أتعرف على ملامحه إلا بصعوبة، حيث يستعصي على الأطفال لحظتها التمييز بين الأشباح وبني البشر??? جسم نحيل كان وبضعة أعظم من الاعتقال منهكة??? سمعتهم يتكلمون عن وزنه بغرابة 35 كلغ هي كثلة الجسم الذي كتب لها الاستمرار في الحياة??? وجدنا ثريا تضمد يديه ورجليه بالماء الدافيء بعد أن تجمدت بفعل القيد والأصفاد??? كانت المرأة تحضن زوجها كطفل رضيع لم يكن لوقع المأساة أثر على شموخها وعنادها الجميل??? لم يمهل الزمن ثريا لتستعيد لحظاتها السعيدة مع زوجها وأبنائها، فقد اختطفت الأيادي السوداء هذه المرة صلاح وعزيز ليدينا ب 22 سنة سجنا نافذة??? تصوروا معي قساوة هذا الحكم وأثره على أم ثكلى قدر لها أن تعيش محنة أخرى شاقة وطويلة مع السجون السرية والعلنية??? هكذا ظلت ثريا شامخة كشجرة الأرز، عنيدة كسفينة تبحر بإصرار??? ظلت طيلة عشر سنوات ونيف أما لجيل من المعتقلين الحالمين??? هي التي شدت بصوتها الحزين وأصدحت بقريضها أغنيات لأمهات الشهداء الخالدين??? عمر بن جلون، العبدي، سعيدة، كرينة، رحال، زروال والآخرين? "ونحن هنا نسامر أحزاننا ونرقب أطياف أحبابنا الشهداء في مثل لمح البصر، تضاءل ضوء القمر وأسلمت الأوراق أعناقها حدادا، وأن لنجوى الثكالى الشجر??? أذكرك يا صلاح وأنت معتقل بالسجن الفلاحي عين علي مومن سنة 78 كنت هيكلا نحيلا، أستحضر صورتك الآن لم يسلم منك إلا صوتك الرخوي، فقد صلبوك رغم براءتك من المسيح والمسيحية? أستحضر وجدان ثريا حين تنظر إليك ولكم تنهد قلبها الحنون يا عزيز وهي تصغي لأنينك ومحنتك??? وتستمر المرأة شامخة عنيدة تطوي الزمان الكاسر تحضن أمهات المعتقلين طيلة عقدين تؤطر نضالاتهن وتدعوهن إلى الصبر والتجلد والإيمان، فغدا ستشرق شمس يوم جميل??? لم تكتمل فرحة ثريا حين عانق بعض المعتقلين سماء الحرية سنة 84، كان من بينهم صلاح وعزيز، فقد واصلت نضالها رفقة أسر الضحايا لإطلاق سراح باقي المعتقلين??? أذكر يوم زرتها كانت المناسبة عيد الأضحى، وجدت السيدة تحضر وجبة العيد، كانت الأضحية وجبة غذاء لما تبقى من معتقلين بالسجن المركزي بالقنيطرة، ترجتنا أن نحملها لهم على الفور لتكتمل فرحة العيد، كنت لحظتها رفقة آسية وتوفيق، جالسنا بالمزار الضيق للسجن رفاقا كانوا هناك: الشاوي، المشتري، المنصوري، التمسماني، الركاب، الزناكي وآخرون? سألونا عن ثريا??? عن صحتها عن معنوياتها وعن باقي الأحبة??? أذكر حضنا دافئا يوم وجدت ثريا أمام مصحة بالبيضاء خريف 86، عانقتني بحرارة وضعت يدها على كتفي ومشينا??? كانت تحدثني بلغة الكبار وتعلمني قواعد الصبر والتجلد??? لم أكن أدرك أن أبي قد رحل، ولهول المصاب كان جميع أفراد العائلة في حالة انهيار إلا ثريا طاقة من الصبر والعناد??? ووري جثمان أبي التراب وظلت ثريا تبادلنا الزيارات الى أن وهن ذلك الجسد الغالي، واسمحوا أن أعترف أمامكم بأنني ومنذ رحيلها أحسست بيتم كبير??? أذكر سيدة استلهمها قول الشعر حالمة كهذا كانت تبدو شغوفة بالابداع والبوح الجميل??? كان تنشدني كل ما خطته أناملها وفاضت به عواطفها الجيّاشة? أذكر قصيدتها الرائعة اغتيال القمر حيث سافر الحلم بعيدا وكذا الناي انكسر??? غنت خارج الزمن بعد أن كتبت بخط الفجيعة مناديل وقضبان انشدت لدلال المغربي وللثوار الأبرار، كما أنشدت لضحايا 20 يونيو ولأمهات الشهداء ولفلسطين? سلاما لثريا??? سلاما لمحمد بن العربي الآسفي??? سلاما لجميع الأحبة?