حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. أبدا لم يخطر على بالي ولم أتصور يوما أنني سأصبح من «الحريم»، لم أظن قط أنني سأصبح جارية في عصر التحرر، أنا التي كنت أعشق الحرية وأكره الأقفاص، أنا التي خفض لها الزمن بالأمس صهوة جواده لأمتطيها، أنا التي أهدتني الحياة بكل كرم وسخاء، كنت جميلة قوية شامخة دون أي عقدة نقص، كنت ضد جميع السلطات وخارج جميع العادات لا أدري كيف استسلم الجبروت الذي كان يسكنني واستسلم معه كل شيء بداخلي. لأصبح فجأة إنسانة لا خيار لها في ما تعيشه في حياتها، تلبَّستني حالة من الطاعة جعلتني امرأة لا تنتظر شيئا. هكذا بدأت «سعاد» قصتها وهي تلوّح بسنوات الحنين من بعيد وتسأل نفسها عن عصر عاشته لم تتبق منه سوى الذكريات، كانت الحياة خلاله مرتعا للسعادة نهلت من نبعها وشربت أملها بلا قيود ولا حدود. تعود بذاكرتها إلى الوراء قائلة: عشتُ طفولة سعيدة، كنت محبوبة من طرف أسرتي مُحاطة بالحب والحنان من قبل الجميع، كنت عكس أخواتي مُدللّة معفية من جميع ضرائب البيت وأشغاله، كانت دراستي أولى اهتماماتي، كنت سبّاقة إلى آخر صيحات الموضة، لم أحس يوما بنقص، كانت ثقتي بنفسي أهم ميزات شخصيتي، كنت أمارس الحياة في حماسة عالية، كنت أحلم بغد مشرق يكون امتدادا ليومي. كنت كذلك محظوظة في عالم الرجال، كان الكل يتهافت عليَّ، وكم من علاقة وصداقة أقمتها مع رجال من الوزن الثقيل. كان الكل يحسدني على حظي في الحياة. لكن فجأة وفي رمشة عين انتهى كل شيء، ضاع الحلم وضاع معه الأمل وكل الانتظارات يوم التقيت شابا دون ميعاد مُسبق، شاب مثلي في مقتبل العمر أناقة ووسامة، تلقيت ذبذبات حبِّه وخفق له قلبي وبدأت قصة حبّنا التي حبكت أطوارها وعزفنا معا على أوتار الغرام، طالت مدة تعارفنا وأحسست معها بأن حياتي توقفت عند لقائه فأصبحت غير قادرة على بعده، سقط عليّ حبّه كإعصار حاصر كل أسواري المنيعة، أطفأ نار سطوتي وتوحش عنادي وشراسة تسلطي، استطاع أن يخضعني ويجعلني في يديه كقطعة ثلج باردة تذوب خارج الماء، تكلل حبنا بعد ذلك بالزواج لا أنكر أنه كان يُحبني أيامها إلى حد الوله فقنعت بقسمتي ولم أطمع في أكثر مما حصلت عليه. كنت طالبة جامعية في السنة الأولى فرفض أن أكمل دراستي أو أن أشتغل. تزوجنا في حفلة عرس عائلية وكان مستقرنا بيت والديه الكبير فانقلبت حياتي رأسا على عقب، أحسست أنني دخلت معتقلا حكم عليّ فيه بالأعمال الشاقة، ضاع الحب، كان تفاؤلي زائدا عن حده، كم لحظة أحسست أن هذا الرجل لم يتزوجني إلا لأكون جاريته الموطوءة موؤودة الأحاسيس التي يحرم عليها إظهار رغباتها ولو على سرير اللذة مع زوجها. لم يكن من حقي أن أقترب من زوجي إلا في غرفة النوم، هذا ما كانت تسمح به ظروف الزحام العائلي الذي عشت فيه رفقته. فكان من العار أن أتبادل وإياه أي كلام أو مشاعر أو ضحكات، كانت أسرته تنتفض بالكامل إن حدث ذلك سهوا مني، وكأنني ارتكبت جرما أو فعلا فاضحا وكأن شرط الزواج ألا يحب الزوجان بعضهما بعضا. ومع ذلك استسلمت لمصيري، حبلت بطفلي الأول، أنجبت ولم يتغير شيء، ازداد تشنج علاقتي بأسرة زوجي، كنت أحس بأنهم يكرهونني دون سبب ويختلقون المشاكل من لاشيء، كنت أحس أنني معزولة، مظلومة مهضومة الحقوق، وكم من مرة تمت إدانتي دون محاكمة وسقت إلى العقاب دون ذنب. وكان في غالب الأحيان عقابا نفسيا شديدا. كان لساني يخرس عن النطق وتتولى عيناي النطق بدلا عنه، وكم من دموع ذرفتها وأنا وحيدة، وكم مرة أحسست بخيانة زوجي لي، فغفرت له رغم أنني كنت أتألم لذلك. طمست شخصيتي وهويتي، لم أعد أعرف نفسي وأصبحت محرومة من كل شيء حتى بالنسبة إلى الملابس يجود عليّ الآخرون بما لم يعودوا في حاجة إليه، لم يكن زوجي يحمل نفسه عبء كسوتي أنا من كانت تتابع صيحات الموضة وكنت السباقة لتقليعاتها. أرى نفسي اليوم معزولة على هامش التاريخ. الناس يتقدمون وأنا أتراجع إلى الوراء أحقابا كثيرة. حتى أسرتي حُرمت من رؤيته. زوجي يجود عليّ بزيارة كل شهر أو شهرين لا يسمح لي بقضاء الليل عندهم تقتصر لقاءاتي معهم على سويعات أقضيها معهم وأعود إلى معتقلي. تبخّرت أحلامي وشاهدت رحيلها عني بعيدا. وأصبح عنوان حياتي الهزيمة ولم أقو على الثورة، استسلمت ولازلت متمادية في استسلامي، أواجه الحياة بالصبر، رزقت بطفل ثاني ومنَّ علينا الله ببيت مستقل أعيش فيه مع عائلتي الصغيرة، لكن موقعي لم يتغيّر مازلت أنا الجارية الخادمة التي تؤمر فتطيع.