حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. خديجة سيدة كانت مقيمة في الديار الفرنسية، لم تعد تحتمل العيش في الغربة فقررت الاستقرار بالمغرب، تبلغ من العمر 44 سنة، تعرفت عليها من خلال إحدى صديقاتها، اقتحمت عالمها، كانت في البداية مترددة في الحديث عن نفسها، لكنني مع ذلك نجحت في استدراجها إلى دردشة فضفضت خلالها عن أحزانها وما يقلقها، تعيش اليوم وحيدة بالرغم من أنها لا تزال في سن يسمح لها بالتطلع إلى المستقبل والزواج من جديد فبمجرد عودتها لوحدها دون أولادها الذين انشغلوا عنها بحياتهم أصبحت معرضة للأقاويل والاتهامات والهمسات الظالمة المملوءة بالشك والريبة والشائعات، كلما تزينت واهتمت بشكلها، قائلين إنها أصبحت امرأة متصابية وأنانية لا تفكر إلا في نفسها، وجدت نفسها في آخر المطاف متهمة وهو ما يسبب لها حرجا ومشكلا كبيرا. فلا أحد يريد أن يصدق أن أبناءها غادروها حالما اشتدت سواعدهم، تقول: كان وجودهم في البيت يبث الدفء فيه ويعوضني فقدان زوجي إثر حادثة سير لأبقى وحدي في الغربة رفقة أبنائي الثلاثة الذين كرست لهم حياتي لأربيهم وأعلمهم، لعبت دور الأب والأم في حياتهم لكن للأسف حين اشتد عودهم تركوني وانصرفوا كل لحياته. تتذكر خديجة قائلة: «يوم غادروني انطفأت كل الأنوار في حياتي ورحت أغرق في الوحدة يوما بعد يوم في عالم صامت يلفه السكون والملل القاتل أصبحت حياتي معلقة في الفراغ فقررت أن أبيع كل شيء هناك، بيتي حيث يتغلغل الماضي بأفراحه وأحزانه، وحيث تربى الصغار وصاروا كبارا، غادروني تاركين لي الذكريات، أسرة مهجورة، وخزانات فارغة، وصور فوق الجدران». كانت تحاول أن تلملم نفسها من أكوام الذكريات وهي تتكلم، تذكرت بدايتها حين كانت ما تزال شابة في مقتبل العمر، لم تكن تتجاوزالثامنة عشرة حين لحقت بزوجها في إطار تجمع عائلي قبل سنوات خلت، رزقت بكل أبنائها في فرنسا، كان زوجها يشتغل في أحد معامل صناعة السيارات وكانت هي ربة بيت، لم تشتغل قط، عاشت من أجل بيتها وزوجها وأبنائها، كانت حياتهما سعيدة لا تشوبها شائبة، لم يعرف الخصام طريقا إلى علاقتهما، فزوجها كان رجلا لطيفا وديعا وكانا يتبادلان الاحترام ويتفنن كلاهما في إسعاد الآخر. تأقلمت خديجة بسرعة مع حياتها الجديدة في فرنسا، ولم تشعر بأية غربة ما دام زوجها نعم الزوج والأخ والأب والحبيب والصديق، رزقا بولدين وبنت، كانت سعادتهما لا توصف بما أغدق عليهم الله من نعم، استمرت بهم الحياة هكذا لسنوات. لكن مفاجأة قاتلة كانت في انتظارها يوم رن هاتف البيت ليخبرها أحدهم بأن تحضر فورا إلى المستشفى لأن زوجها يرقد هناك إثر حادثة سير، وما إن وصلت حتى تم إخبارها بأن زوجها قد مات، سقطت أرضا من وقع الصدمة ولم تحس بنفسها إلا وهي راقدة في نفس المستشفى، كان أبناؤها الثلاثة الذين كانوا لايزالون صغارا يتحلقون حولها. عندما استفاقت تقول إنها لم تقو على رؤيتهم أمامها منكسرين، فقررت أن تستجمع قواها وعزمت على أن تكمل المسير إلى أن تصل إلى الهدف الذي لطالما حلمت به هي ووالدهم الذي توفاه الله. أضافت: «كنت في الثامنة والعشرين من عمري حين حدث ما حدث، امرأة في ريعان الشباب، وجدت نفسي وحيدة تنتظرني مسؤولية ثلاثة أطفال في بلاد غريبة لا أحد فيها. فقررت أن أنتفض وأن لا أستكين ففي النهاية هي مشيئة الله أن أفقد زوجي ورفيق دربي. وقفت شامخة كالجبل الصامد، صمدت رغم كل الظروف، تسلمت زمام قيادة المركب وبدأت الخوض في معترك الحياة، لم أكن أتكلم الفرنسية، لأنني لم أكن أخرج لوحدي، كان زوجي هو من يقوم بكل شيء قبل رحيله، فوجدت نفسي وجها لوجه مع واقع لا أعرف عنه الكثير، استعنت ببعض الجارات المغربيات اللواتي تقربن مني إثر وفاة زوجي، لا أنكر أنني وجدت الدعم والمساعدة منهن كثيرا. كن نعم الأخوات في الشدة، بفضلهن خبرت أساليب العيش الفرنسية وحصلت على حقوقي وحقوق أبنائي من حادثة السير التي أودت بحياة زوجي والتي كانت حادثة شغل أيضا. طردت اليأس، لم أعد أشعر باليتم، كان حب زوجي راسخا في وجداني رفضت كل الطلبات وتجاوزت كل التلميحات، عاهدت نفسي منذ أول يوم فقدت فيه زوجي أن أكرس حياتي لأبنائي وأن لا أدخل عليهم غريبا يشغلني عنهم وتحقق ذلك، لكن مالم يكن في الحسبان هو اختيار كل منهم الانفصال التام عني والالتحاق بحياته وأحلامه، فابنتي لبت نداء القلب والتحقت برجل أمريكي صديق لها كانت تحبه، تزوجت به رغم رفضي له لأنه غير مسلم، ابني الأكبر كان مولعا بالفن والمسرح منذ الصغر فالتحق بفرقة مسرحية تجوب العالم، تركني وذهب وراء عشقه، لا يتصل بي إلا قليلا وعندما يعود إلى فرنسا لا يأتي لزيارتي إلا لماما، تمر أيام وأحيانا شهور ليفعل ذلك بطريقة آلية دون أن يعبر عن أية مشاعر تجاهي، ابني الأصغر أيضا اختار الارتباط بفرنسية يعيش معها في مدينة أخرى غير التي أقطن بها، هو كذلك ابن جاحد رزق بطفلة ولم أعلم بذلك إلى أن جاء مرة في زيارة خاطفة لي، تذكر أن له أما، جاء يتأبط ابنته بين ذراعيه، قدمها لي باسم فرنسي قائلا: ابنتي ليليان. يومها أحسست بغربة كبيرة لم أحسها يوم انتقلت إلى فرنسا أول مرة، فعزمت على تركها للأبد. عدت إلى الوطن، اشتريت بيتا، وقررت أخيرا أن أحيى، أتزوج من جديد ولم لا فلا شيء يعوق ذلك، مازلت في مرحلة العطاء، نظر أفراد أسرتي المحافظة إلى رغبتي في الزواج من جديد وكأنني سأرتكب جرما لن يغتفر، سيطرت عليهم أفكار تقليدية ظالمة تعتبر ما سأقوم به «عيب وحشومة وزيغة وشوهة» صودرت عواطفي، جسدي وشخصيتي، مازلت لم أقدم على الخطوة بعد لكن أظن أنني سأتحدى الجميع وأفكر في نفسي قبل الأوان. فماذا جنيت من إنكار الذات طيلة سنوات مع أبنائي، هل أعيد ذات الخطأ مع إخوتي الذين لا يهتمون سوى بالصورة التي نظهر بها كعائلة بين الناس.