حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. لن أندم ما حييت على زواجي منه وأعي جيدا ما قمت به، لم تهمني يوما نظرات الآخرين وعلامات الاستفهام على وجوههم، أؤمن بأن هناك صفة تتسم بها المرأة ولا توجد لدى الرجل وهي أنها حين تؤمن بشيء وتقتنع به فإنها تحارب من أجله بضراوة، ملقية بنفسها في قلب المعركة بدون درع واق. بعكس الرجل الذي يتلفت حوله قبل أن يقدم على موقف أو تصرف لأنه يضع نصب عينيه اعتبارات المجتمع وعواقب الأفعال. هكذا بادرت «مريم» بالكلام قائلة: لا يهمني أي شيء فزواجي من رجل معاق مصاب بشلل في رجله اليسرى ويتعثر في المشي بسببها لم يمنعني من أن أحبه. كنت قبل 12 سنة شابة متحمسة مندفعة في الحياة جميلة ومع ذلك كانت علاقتي بالجنس الآخر متعثرة، لم يكن لي حظ معهم، كان كل من ارتبطت بعلاقة معه يظهر عن نواياه الاستغلالية والانتهازية، لذا رفضت مثل هذه العلاقات وفضلت أن أحافظ على مسافة بيني وبين كل من تودد إلي. بقيت على هذا الحال طوال سنوات. أصدقاء الدراسة كانت تجمعني بهم علاقات محدودة جدا. لم أفسح المجال لأحدهم لدعوتي حتى ولو إلى فنجان قهوة. كنت أتجاهل نظراتهم وهمساتهم وكنت أركز اهتمامي في الدراسة، حيث كان أغلبهم يتلاعب بعواطف الفتيات ولا يعتبرون العلاقة بهن سوى نزوة. حين أنهيت مشواري الدراسي، اشتغلت، باشرت عملي بنشاط كبير وعملت بنصائح أهلي بأن تبقى علاقتي بالموظفين محدودة إلا مع «عبد الله» أحد زملائي في العمل، اعتبرته منذ أول يوم لي في العمل مرفأ للأمان، كنت أكلمه عندما أحس بضيق في العمل وأجد الطمأنينة عنده، كان معاقا لكن ذلك لم يمنعه من أن يشغل منصب مسؤول في المصلحة التي اشتغلت فيها لكفاءته. كان شابا ناجحا رغم إعاقته، طيب المعشر حلو الحديث، واثقا من نفسه محافظا على ابتسامته دائما. كنت أستمد منه القوة في أقسى أوقات العمل وأصعبها، تطورت علاقتي به بعد ذلك حين وجدته نِعْمَ الصديق وصرنا نتقابل خارج أوقات العمل، يسر لي بمكنونات قلبه وأحدثه بدوري عن كل شيء، تعلقنا ببعضنا البعض وأصبحت حاجتي إليه تزداد يوما عن يوم إلى أن اكتشفت أنني صرت أحبه ولا أستطيع فراقه وأقلق وأصاب بالتوتر حين يغيب عن العمل. وفي جلسة مكاشفة أخبرني بأنه يحس الإحساس ذاته تجاهي لكنه لم يقو على أن يفاتحني بالأمر لأنه تجرع مرارة الرفض مرارا، ففضل أن يحتفظ بصداقتي على أن يبوح لي بحبه. شجعني على البوح وأخبرته يومها بصراحتي المعهودة معه بأنني كنت أحلم كغيري من الفتيات بفارس الأحلام، ذلك الشاب الوسيم الذي سيأتي ليخطفني ويذهب بي بعيدا إلى دنيا الأحلام، لكنني اليوم مقتنعة أن أرتبط به لأن الإعاقة أرحم من الارتباط بمن تطال الإعاقة أخلاقه وأحاسيسه. كان قرار الزواج به هو أصعب القرارات التي سأتخذها في حياتي لأنني سأواجه أسرتي التي تريد لي زوجا يوفر لي السعادة في مشواري القادم معه. حين أخبرتهم بالأمر رفضوا رفضا قاطعا مثلهم مثل كل أولئك الذين يعتبرون أن المعاق إنسان انطوائي جاهل ضعيف قدراته ضئيلة وأنه غير قادر على إثبات ذاته ومصارعة الحياة. لكنني تحديتهم ولم يعرقل رفضهم قرار ارتباطي بمن اختاره قلبي وارتضاه عقلي. فأنا اخترت فيه الإنسان الذي كنت أحلم به لأنه يمتلك نفسا شفافة شاعرية مرهفة وحساسة، يحترمني ويحبني وكم هي جميلة كل هذه الأشياء التي وجدتها فيه والتي جمعتني به على مدار 12 سنة رزقنا خلالها بطفلين في غاية الجمال والذكاء، بوجودهما عشنا في بيتنا الدافئ حنانا وطيبة، نحن الآن نعيش معا في شقة راقية نملك كل وسائل الراحة فيها ولا يزال زوجي يشكرني في كل لحظة لأنني قبلت الزواج به ولم أخجل من نظرات الناس التي لا تزال ترمقني برأفة، يقولون: مسكينة حظها العاثر أوقعها في معاق، لكن أنا من يود أن يشكر زوجي لأنه أشعرني بكل معاني الحياة وأبعدني عن حياة المظاهر الخادعة. فهو أفضل عندي من كل شخص معافى في بدنه لكن عقله مريض.