حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ستنشر هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. هي سيدة في الأربعين من العمر، عندما تراها تشعر بأنك أمام امرأة قوية، واثقة من نفسها، تعرف ما تريده، تعطي الانطباع بأنها مغرورة ومتعجرفة، حين التقيتها جاءت في الموعد، نزلت من سيارتي المهترئة بعد أن ركنتُها لأركب سيارتها الفارهة، ذهبنا إلى مطعم لتناول وجبة الغذاء، بقيت صامتة عن كل شيء وبدت مترددة، خجولة عكس ما ظننته بها بداية. شرعت في الحديث عن نفسي ولم أسألها عن نفسها، سردت لها حكايتي ولم أسألها حتى تطمئن إليَّ وتصارحني....، وبعد لحظات وبينما كنا نتحدث بحميمية النساء، وكأننا صديقتان نعرف بعضنا من زمان،، أطلقت زفرة حزينة وأخذت تسرد معاناتها ثم بدأت حديثها قائلة: أقسم أنني لست مذنبة ولم أذنب في حقه يوما ولست أنا التي اخترت القطيعة، بل هو من قاطعني وهجرني وتركني أجوب دروب الحياة لوحدي بلا حنان ولا حب وبلا شفقة ولا رحمة، تركني أتحير في ليل طويل مظلم، أسبح وأتخبط بين أمواج الحياة. كانت علاقتي به مشوهة، مأزومة، متجمدة منذ الصغر، أو ربما قبل ذلك، فلم يكن يرغب في أن يكون له مولود «أنثى»، كان يفضل الذكور ويكره الإناث. حين ولدت بعد ثلاثة أولاد، طلب من والدتي أن تكف عن الإنجاب، تكفيه هاته المصيبة التي هي «أنا»، لم يكن يحترم مشاعري ولا أحاسيسي، كان يذكرني دوما بأنه لم يكن يرغب فيّ فقط والدتي رحمها الله هي من رغبت فيّ، لم أستطع أن أسأله يوما ما كان ينوي أن يفعله بي لو لم تتشبث بي والدتي، كنت أتحمل قسوته وأنا طفلة في التاسعة وأصمت وأشكر الله في نفسي على أنه لم يرم بي في الشارع. عشت لسنوات بإحساس فضله علي ولم أحظ بعطفه يوماً، كان قاسياً معي تجاهلني طويلاً ولم يكن يناديني باسمي ولم أسمعه يوما أو أتذكر أنه نطقه، كان يكتفي بقول»هاديك» حين يود الحديث عني، تصرفاته معي تعدّت مع الوقت حدود التجاهل، إذ كان يحرض علي الكل، إخوتي كانوا يكرهونني بسببه، لم يحبوني يوما، كانوا ثلاثتهم ضدي، فقد كان يجد لذته حين كان يراني أتألم بسببه ويحس بالسعادة حين يجدني منبوذة ومقصية من طرف الكل. زوجته التي ارتبطت به بعد وفاة والدتي لاحظت كرهه لي، فلم تعاملني المعاملة الشائعة لزوجات الأب، صحيح أنها لم تسبب لي في الأذى يوما، لكنها لم تحاول التقريب بيننا أو ردع والدي عن تصرفاته معي، كانت فقط تصمت ذلك الصمت المشوب بشبهة التواطؤ. مع الوقت، دربت نفسي على تحمل الآلام والجروح والمعاناة وقويت نفسي، كنت أعيش مع أسرتي تحت سقف واحد، نستنشق ذات الهواء وتجمعنا ذات الجدران، لكن مع ذلك لم تكن تجمعنا نفس المشاعر، كنت أعيش في عزلة عنهم، ألفت قسوتهم ولم تعد تصرفاتهم ولا تصرفات والدي معي تثير تساؤلاتي، فقررت أن أتحمل مسؤولية نفسي وأتعامل مع الأشياء بواقعية، فركزت على الدراسة والتحصيل رغم صعوبة الظروف التي كانت تحيط بي، ولم أجعل من نفسي صخرة هشة سريعة التأثر بالتيارات، بل أقمت حياتي على أسس صلبة واقتنعت بالواقع دون أن أستسلم له، بل تحديته، ولم أجعل من هاته التجربة المريرة والمؤلمة مصير حياتي بل أعطيتها معنى آخر، قوامه الصمود والقوة والصبر،ولم يدفعني حرماني من حب والدي قط إلى أن أبحث عن الحب خارجا كما هو شائع في مثل حالتي، بل على العكس كانت الآلام تعطيني القوة لفهم الأشياء جيدا، وتحليلها منطقيا وفلسفيا، كنت أقول دائما في نفسي إذا لم يحبني والدي ولم يستطع أن يحبني يوما، ما عساي أن أفعل سوى أن أتقبل ذلك وأتعايش مع وضع مؤلم كهذا. تصمت قليلا ثم تسترسل في الحديث قائلة: أتذكر بمرارة ورغم مرور سنين طوال على معاناتي تفاصيل دقيقة لبعض المراحل والمحطات من حياتي والتي لا تزال حاضرة كجزء لا يتجزأ من كياني، أشم رائحتها في كل نشقة هواء تدخل صدري وتحيي الماضي مع كل خفقة، فلم أقو على النسيان، كان والدي يضربني بقسوة بسبب وبدونه وبلا رحمة، كان يحب أن يصب جام غضبه علي دونا عن غيري كلما كان مغتاضا، بل أحيانا كثيرة لم يكن يحرك ساكنا حين كنت أضرب بقوة من طرف أحد إخوتي الذكور، كنت أبيت لياليَ طوالاً أبكي بحرقة حتى الصباح، وأسأل نفسي لماذا هو قاس هكذا؟ هكذا، رسم هذا الوضع وهذه الظروف علاقتي بالحياة وبالآخرين في فترة من أهم الفترات التي يتشكل من خلالها تكوين الإنسان، فلم أحس يوما أنني كنت طفلة وأنني عشت مرحلة الطفولة، لأن قسوة والدي جعلتني أتجاوز أحلام الطفولة وبراءتها بسرعة لأصبح شخصا راشدا، امرأة ناضجة وأنا لاأزال بعد في سن العاشرة. كبرت ونضجت ودرست وحصلت، بمجهودي وتضحياتي واعتمادي على نفسي، على وظيفة مرموقة وصرت امرأة قوية أقوى من أن تؤثر فيها الأحزان، فلم أكن يوما ممن يبكين على فقدان حبيب أو خيانة عشيق، كنت دائما أتوقع من الناس الأسوأ فمادام أقرب المقربين لي يعاملونني بجفاء، فلماذا أنتظر من الغرباء أن يحسنوا معاملتي، لذا لم أصدم يوما في أحد، كانت لي علاقات مع رجال كثر، كنت دائما أنا من يقرر متى أدخل علاقة مع أحدهم ومتى أخرج منها، لم أكن سهلة الانقياد لأي شخص مهما غمرني بالحب والحنان اللذين حرمت منهما، كنت جريئة، صريحة، ثائرة، صارمة في قراراتي وثابتة في مواقفي مع الآخرين بالرغم من أنني كنت، بيني وبين نفسي أكره هذه الحدّة وأشعرُ بالقهر وقساوة العيش، لأن هذه الحدة انعكست على حياتي حتى عندما تزوجت بمن اخترته شريكا لحياتي، فقد رفضت بشدة الانصياع لغريزة الأمومة وإعطاء الحياة، كنت مقتنعة بفكرة «فاقد الشيء لا يعطيه»، فمن لم يشتبع بالعطف والحب لا يقوى على منحه لأبنائه، كان زوجي، عكس والدي، رجلاً متفهماً واعياً، فقد صارحته منذ البداية بكل شيء عني وعن علاقتي بوالدي، كان يؤكد لي من خلال مناقشاتنا حول هذا الأمر أنه لم يتزوجني لأنجب له أطفالاً بل تزوجني لأنه أعجب بشخصيتي وسلوكي وطريقة تفكيري وفلسفتي، واحترمَ اختياري ولم يجبرني على شيء. استمر خوفي وعزوفي عن إعطاء الحياة خمس سنوات، ولكن حين بدأت عقارب الساعة تقترب من استحالة إعطائها لاحقا هرعت كالمجنونة لاستدراك ما فاتني فأنجبت بنتين وولداً تباعا، واجهت الخوف الذي كان يسيطر علي من أن أكون أما قاسية وسيئة وأتسبب لأبنائي في ما سببه لي والدي، لكني والحمد لله تخطيت هذه الهواجس والوساوس اليوم، ومنحت أبنائي إحساسا مضاعفا بالحب إلى درجة المبالغة أحيانا لأعوض ما افتقدته، فيهم.