حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ستنشر هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. نجاة «ك» امرأة أكملت عامها الخمسين، تعيش بمدينة الرباط رفقة والدتها المسنة وحيدتين، تقول إنها ترددت كثيرا قبل أن تتصل بي لتحكي لي حكايتها، لأن من طبعها التردد والخوف والخجل، وهي صفات رافقتها طيلة مشوار عمرها وأوصلتها إلى ما وصلت إليه الآن، حيث لم تكمل دراستها، ولم تتزوج، ولم تحقق أي حلم من أحلامها التي شهدت تساقطها كأوراق الخريف سنة تلو الأخرى. توفي والدها وهي في سن ال14. كانت أكبر إخوتها، 4 بنات وولدان، فارتأت والدتها أن تجلسها في البيت لتساعدها في الأشغال المنزلية وتربية إخوتها ريثما يطرق الباب طارق لطلب يدها. لم تعارض نجاة ذلك، فإحساسها المبكر بالمسؤولية دفعها إلى أن ترضخ لطلب والدتها. فتوقفت عن الدراسة في الوقت الذي استمر فيه باقي إخوتها في السير قدما في مشوارهم الدراسي. كانت هي من يقوم بكل شيء بدلا عنهم حتى يتسنى لهم التركيز في الدرس. لم تكن تشعر بأي نقص حين كانت تخدمهم، لأنها كانت تحس دائما بأنها مسؤولة عنهم، وكانت ترى أنه من الواجب أن تهتم بهم أكثر من اهتمامها بنفسها. فرغبتها في أن تظل أسرتها متماسكة وملتحمة بعد موت والدهم لم تسمح لها بأية استقلالية، مما أدى إلى ترسيخ نوع من أنواع التفاعل الخاطئ داخل الأسرة، فمع الوقت سلمتها والدتها إدارة البيت وتحررت هي من كل مسؤولياته، وأصبحت بذلك «نجاة» هي سيدة البيت وهي من يعرف كل صغيرة وكبيرة فيه، وهي من يطبخ ويكنس وينظف، وهي من يمسك ميزانيته، كانت تحس بمشاعر مختلطة، فتارة تحس بأن هذه المسؤولية تخنقها بقوة لأنها لا تسمح لها باستنشاق أي هواء غير هواء البيت الراكد في العزلة والوحدة، وأحيانا كان الوضع يروق لها، فقد كانت تقنع نفسها بأن هذه هي حياتها ريثما تتزوج وتنتقل إلى بيتها الخاص، وحينها ستكون ربة بيت ممتازة لأنها أتقنت ذلك في بيت أهلها. مرت السنوات على هذا المنوال، وكبر إخوتها، وأتم كل منهم دراسته، وتزوج من تزوج، واشتغل من اشتغل، وأصبح لكل منهم حياته إلا هي، فقد وجدت نفسها في النهاية بدون أية حياة خاصة بها. أنفقت سنين عمرها في خدمة الآخرين ولا يزال هؤلاء ينتظرون خدماتها. فقد كان كل من يحتاجها من إخوتها يطلب ذلك دون تردد، ودون أن تمر به لحظة تأمل في كونها هي أيضا شخص مستقل له حاجياته النفسية الدفينة، فأصبحت بذلك حياتها متقلبة وغير ثابتة على وتيرة محددة، فقد كانت تتنقل للعيش بين بيوت إخوتها، تدير منازلهم، تهتم بأبنائهم، تمرّض أخواتها حين يضعن مواليدهن، وتقوم بحضانة الصغار... تقول إنها كانت تشعر بالغبطة من ذلك، فقد كانت ضعيفة أمام إطراءات والدتها التي كانت تردد دائما أمامها أنها «امرأة ونصف». كان كلامها هذا ونظرات الإعجاب التي تنطق بها عيناها تشجعها على التضحية أكثر فأكثر، لكن تأكد لها مع مرور الوقت أنها كانت ضحية سعيها إلى تلبية رغبات والدتها، فقد كانت على استعداد تام لفعل أي شيء يرضيها. وفي الوقت الذي كان فيه إخوتها يسعون إلى أن يكونوا من المميزين والأوائل في العلم والعمل، وأن يحققوا أمانيهم بدخول القفص الذهبي، كانت هي تتوارى إلى الخلف لتفسح لهم المجال للتقدم أكثر. لكن مع مرور الأيام استنتجت نجاة أنها كانت القنطرة التي عبرها إخوتها لتحقيق أحلامهم، بينما ظلت هي ثابتة في مكانها دون حراك.. أصبح الإحساس بالمرارة والغبن يخنقها، ففي الوقت الذي قاموا هم بأدوار البطولة ليتوج كل منهم حسب دوره على مسرح الحياة، اكتفت هي بدور الكومبارس في تمثيلية محبوكة لا تدري من طرف من؟ الزمن؟ الظروف؟ والدتها؟ إخوتها؟ لا تعرف! كل ما تعرفه هو النتيجة التي وصلت إليها.. امرأة غزا الشيب شعرها، ومر الزمن أمام عينيها بسرعة خارقة، وكل الأشياء تحولت إلى لا شيء، لتعيدها إلى نقطة الصفر. أصبح كل يوم من عمرها يمر أصعب من سابقه بكثير، انتبه إخوتها إلى حالتها، وكانت لا تزال تحتفظ بأحلام الحب وطيف الأماني، فأحضروا لها عجوزا أرمل كعريس مثالي لامرأة في مثل وضعها.. نعتوها بالغبية حين هزت رأسها استنكارا لذلك الاختيار، أقنعوها بألا تضيع هذه الفرصة لأنها فرصتها الأخيرة، رضخت لعرضهم مجبرة، فليس لديها بديل، فقد كتب عليها أن تعيش لخدمة الآخرين وأن تقدم احتياجاتهم على احتياجاتها. تزوجت في حفلة عرس خجولة، حضرها القليل من الأقارب والمعارف، تقول إنها كانت تبتسم يومها للزوار بسمة مودة وصفاء وهي بجانب زوجها العجوز، وكانت تقرأ في أعينهم كلاما لم يجرؤوا على أن ينطقوا به. انشغلت بعد ذلك بحياتها الجديدة، وانخرطت مع زوجها في حياة اجتماعية، تلبي الدعوات والزيارات العائلية متأبطة ذراعه المرتجفة، لم يُسمعها أحاديث الحب والإعجاب، كما يفعل كل العرسان حديثي العهد بالزواج.. كانت كل حواراتهما تدور حول تقارير الأطباء ومعدل ارتفاع السكر والكولسترول والضغط... لم يدم ذلك طويلا، فقد توفي زوجها العجوز في السنة الأولى لزواجهما، وحتى تحافظ «نجاة» على سمة الزوجة الرصينة الوفية، ارتدت ثوب الحداد الذي لم تخلعه بعد، ليس حزنا على زوجها المتوفى، وإنما حدادا على عمرها الذي دفن ودفنت معه كل الآمال والأحلام.