مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمازيغ الدارالبيضاء

ترتب عن تصنيع المغرب، الذي مثلت إقامة الحماية سنة 1912 انطلاقته، نمو ملحوظ في نسبة الساكنة الحضرية. فقد انبثقت بعض المدن من عدم، كالقنيطرة - بور - ليوطي في السابق -؛ واتخذت مدن أخرى أبعادا جعلتها مختلفة كلية عما كانته في السابق: ينطبق ذلك، مثلا، على الدار البيضاء التي انتقلت من 20.000 نسمة سنة1907، إلى قرابة المليون سنة 1960 وهي تقارب اليوم، دون أدنى شك، 1.300.000 نسمة. يتمركز بهذه الحاضرة الكبيرة، العاصمة الاقتصادية الحقيقية للبلاد، النصيب الأكبر من نشاط الأخيرة ككل: الميناء لوحده يمثل 75 - تقريبا، من حيث كمية الأطنان، من التجارة التي تعرفها كل الموانئ المغربية، بينما تقارب الصناعة البيضاوية 60 - من صناعة المغرب، بما فيها الصناعة المعدنية. لذلك لن يفاجئنا كون الدار البيضاء تمتص النصيب الأكبر من الهجرة القروية التي تُوجه منذ نصف قرن ، نحو المدن، فائض الساكنة التي لا تستطيع الأرض إطعامها: لقد أحصينا أنه ما بين 1936 و 1952 امتصت الدار البيضاء ثلاثة أخماس أولئك الذين غادروا القرية للالتحاق بالمدينة؛ سنة 1965، بلغ عدد الأشخاص الذين تحركوا نحو الدار لبيضاء ما يقارب 36.000 شخص.
تمس هذه الهجرة مختلف جهات المغرب بشكل شديد التفاوت. فلو ساهمت كل المدن المغربية في امتصاص الهجرة نحو الدار البيضاء، لكانت المناطق القروية التي تزودها بأكبر أعداد المهاجرين محصورة على نحو مبسط في مثلث تكون قمته هي المدينة نفسها، ضلع جهة الضفاف الساحلية للأطلسي حتى مصب واد درعة، الثاني خط يربط عقفة واد درعة، والقاعدة حدود الصحراء، التي يميزها إلى حد ما المجرى السفلي لدرعة.
نلتقي بداخل هذا المثلث، عربا وبرابرة، وكان المفروض أن نكتب ناطقين بالعربية وناطقين بالبربرية، لأن اللغة التي يتكلمها هؤلاء وأولئك هي الشيء الوحيد الذي بإمكاننا التأكد منه، بما أنه أصبح من المستحيل اليوم توضيح الأصل الإثني. ونوضح مع ذلك أن حالة العرب الذين تحولوا إلى برابرة نادرة جدا، في حين أن قبائل عديدة وشاسعة تعربت على مر التاريخ. و يمثل الناطقون بالعربية أغلبية بالدار البيضاء، إلا أن الناطقين بالبربرية يمثلون أقلية لها أهميتها: بعد تحقيق موسع جدا، تم إنجازه لفائدة إحصاء عدد السكان سنة 1952، قيمنا نسبتهم فيما بين 20 و 22 - تقريبا. وهي نسبة ملحوظة كما هو المجال الناطق بالبربرية داخل المثلث، المجال الذي يتكون من مناطق جبلية أو جنوب صحراوية، بكثافة سكانية ضئيلة مقارنة بالمجال الناطق بالعربية، وتتشكل أساسا من السهول لأطلسية ذات التربة الأكثر ثراء في المغرب. ما يعني بأن الهجرة كثيفة بالأساس عند البرابرة، وذلك طبيعي بالنسبة لقرويين يعيشون في أرض قاحلة. إلا أننا كنا لاحظنا بأن مثلث الهجرة نحو الدار البيضاء، لا يغطي سوى جزء من المناطق التي يعمرها البرابرة اليوم. ويمكن تقسيمها في المغرب إلى ثلاثة أسر لهجية: الزناتية، يتكلمها الريفيون أساسا و مجموعة من البيوت الصغيرة للناطقين بالبربرية في المغرب الشرقي؛ تامازيغت و يتكلمها الأمازيغيون والبرابرة، قبائل غالبيتها رعوية بالأطلس المتوسط والأطلس الكبير في الوسط والشرق؛ وأخيرا تاشلحيت أو لغة الشلوح، الذين يعمرون الأطلس الكبير والأطلس الصغير وسهول ووديان الجنوب الغربي المغربي.
ونلتقي في الدار البيضاء، قلة من ممثلي المجموعتين الأوليين. علما بأن الريفيين كانوا يشكلون الأغلبية حتى حدود الحصول على الاستقلال، تفصلهم عن بقية البلاد حدود متداخلة بين المناطق، محكمة السد كما لو كانت حدودا وطنية. وإذا كانوا قد هاجروا، فإن وجهتهم هي طنجة وتطوان. وكانت مواردهم الأساسية تتمثل في تهريب البضائع عبر الحدود، الالتحاق بالجيش الإسباني أو العمل الموسمي في الجزائر. وقد ألغى الاستقلال الأنشطة الثلاثة. إلا أن زوال الحدود ساعد الريفيين في البحث عن العمل بالمنطقة الجنوبية سابقا، في المدن القريبة أولا: وجدة، فاس، مكناس، إلا أننا أخذنا نلتقي بعضهم في الدار البيضاء.
الحرطانيون والأمازيغ
في أوساط الأمازيغيين، نجد أن الهجرة قليلة جدا. بحيث يبدو أن توازنا نسبيا يحقق اكتفاء قام لديهم بين الديموغرافيا والموارد. ويظل الاقتصاد الرعوي مزدهرا، رغم اتساع مجال الزراعة وصعوبات الانتجاع المتزايدة. ويبدو أن نسبة الولادات تسجل لديهم نسبا تقل بشكل واضح عما هي عليه في مجموع البلاد، وذلك راجع لعوامل لا نعرفها بشكل جيد ويبدو أنها ترجع إلى الجانب البسيكو- سوسيولوجي. فالمدن المجاورة، فاس ومكناس والقنيطرة كذلك، والمعادن الموجودة بالمنطقة، كافية لامتصاص فائضهم. أما في الدار البيضاء، فالإحصائيات تصنفهم في خانة « ساكنة مختلفة»، والأمر مختلف بالنسبة للشلوح. فهؤلاء يشكلون جميعهم مقيمين قدماء، علاوة على كونهم يعرفون تربية الماشية، لا سيما في الأطلس الكبير الغربي. إلا أن فلاحتهم فقيرة: إذا كان السقي متوفرا في الأطلس الكبير، فالأرض قليلة به بسبب التضاريس الوعرة؛ والأطلس الصغير والسهول المجاورة القريبة من الصحراء، تعاني الجفاف في معظم الأحيان. ونسبة الولادات مرتفعة بالمنطقة: يتسم الإسلام فيها بتطهرية متزايدة، جذورها قديمة جدا بما أنها ترجع إلى حركتي الإصلاح الديني المنبثقتين من هذه المنطقة خلال العصر الوسيط، حركة المرابطين وحركة الموحدين، المتعارضتين بحدة حول العقيدة، والمتفقتين حول الأخلاق الصارمة. ولا تزال البنيات العائلية تحتفظ، حتى يومنا هذا، بطابع خطي أبوي وبطريركي متميز جدا: لذلك نجد من بين 60.307 أب أسرة بالدار البيضاء، الذين شملهم تحقيقنا سنة 1952، 24.7 - ولدوا بمنطقة تاشلحيت.
والحقيقة، أنه ينبغي إضافة تمييز رئيسي بين هؤلاء الناطقين بالبربرية: ................ ص 3 « حرطاني « - اللفظ الذي يتم ربطه أحيانا بالجذر العربي « حرث «، ويبدو أنه مستمد من النعت البربري - أحرضان-، الذي يعني - أسود - والذين يلقبوهم في الدار البيضاء وفي بقية البلاد « صحراوى « أو « دراوا «. وفي مقابلهم البيض، الموجودون بالمنطقة ويلقبون أنفسهم « أحرار ا «. لم يكن « الحرطانيون « عبيدا، إلا أنهم كانوا يدفعون المكس لرحل، عرب أو برابرة، كانوا يوفرون لهم الحماية بالمقابل، ولم تكن أرستقراطية الصحراء تنظر إلى دافعي المكس على أنهم أحرار بالفعل.
إن أصل هؤلاء السكان يظل غير معروف. فنحن نجد من بينهم سلالة عبيد غزاهم وطردهم إلى جنوب الصحراء كبار الرحل ، الذين جعلوهم يستقرون في الواحات لزرعتها. إلا أنه من المرجح جدا أن يكون الجوهر قد تشكل من قدماء السكان السود في الصحراء، الذين طردهم نحو الشمال أو نحو الجنوب استفحال التصحر، أولئك الذين يسميهم صاحب الكتاب الشهير « رحلة فانون « «الإثيوبيون «، والذين التقاهم في مصب درعة. وحتى يومنا هذا، لا تزال بنيتهم الفيزيقية مختلفة عن بنية غيرهم من السود، سلالة عبيد جنوب الصحراء.
ولا يمكننا، بالطبع، اعتبار هؤلاء برابرة بالمعنى الحقيقي للفظ. فقد تحولوا إلى برابرة، لغويا، في فترة وفي شروط لا نعرفها. بعضهم الآخر أصبح عربيا. وسلوكهم مختلف عن سلوك البيض. فهؤلاء لا يعتبرونهم، رغم وحدة اللغة، أندادا ولا أشقاء. إن المسلمين ليسوا عنصريين؛ والصحراويون، علاوة على ذلك، أناس متواضعون، يرتضون لأنفسهم مزاولة أعمال ثانوية ولا يخاطرون بإثارة ردود فعل حادة من طرف الآخرين؛ يظلون بأماكنهم من تلقاء أنفسهم، ونادرا ما تكون لهم فرصة التحرك. وليس بخاف بأن البسمة المخادعة التي يبعثها سماع لفظ « حرطاني « في محيا الأبيض، بسمة تفوق. فمهما كان عددهم كبيرا في الدار البيضاء - 10 - من بين 24.7 - الذين أشرنا إليهم أعلاه -، فإننا سنتركهم جانبا، ولن نتطرق سوى للبرابرة البيض.
تتخذ هجرة القرويين المغاربة أشكالا مختلفة. صحيح أن أغلبهم يمارسون، من بعيد، الهجرة العائلية والنهائية، وهي أكثر الأشكال تداولا في العالم. يرحل الرجل رفقة زوجته وأبنائه . يتمخض عن هذا الشكل دائما، تقريبا، انفجار العائلة الواسعة . ولا يعود إلى القرية . إذا عاد ، إلا لفترات مؤقتة. ونسجل أنه مع الجيل الأول، من المهاجرين، ظلت الروابط، الاقتصادية والعاطفية، متينة مع بلد الولادة. لكن القطيعة تكون كاملة مع الجيل الثاني عموما: التقينا في الدار البيضاء، مرات عدة، شبانا لا يعرفون أين ولد الوالد. و هذا النمط من الهجرة يسري على كل الناطقين بالعربية، رغم كون قبيلتهم الأصلية تكون قريبة في الغالب من المدينة، وهم يجدون صعوبة في العودة إليها بشكل متواتر.
هجرة بالمذكر
لقد زاول البرابرة، لمدة طويلة، ولا يزال بعضهم يزاول، هجرة ذكورية مؤقتة: يرحل الرجل لوحده، ليترك الزوجة والأطفال في القرية التي يعود إليها بعد فترات متفاوتة . في السابق، كانت فترات الغياب تستغرق وقتا طويلا لبعد المسافة وتكلفتها -، حيث يعوضه أخ أو ابن عم في متجره أو عمله.
هذا النوع الخاص من الهجرة، الذي لم يكن وقفا على الشلوح - كان ولا يزال يمارسه قبايليون ومرابطون، وهم أيضا برابرة -، كان يبدو أنه يرتبط ببعض البنيات الاجتماعية والقانونية. كان سفر الرجل وحيدا، مطمئن البال، ليترك خلفه الزوجة والأبناء، يفترض وجود عائلة بيتية كبيرة، تدمج الأسر دون أن يغير غياب الرجل - ولو كان محسوسا به من الناحية العاطفية - شيئا بخصوص الوضعية المعنوية والمادية لذويه. إضافة إلى ذلك، فالرجل الذي يرحل لم يكن يفعل ذلك بناء على مبادرة فردية أو لمصلحة أسرته الصغيرة، بل كان بمثابة مبعوث للمجموعة العائلية ككل، المجموعة التي كانت تنتدبه للرحيل متوسلة من ذلك تغطية الحاجة المؤقتة أو النهائية لإرجاع جزء من التراث. في الجنوب المغربي، حيث يستغرق الجفاف سنوات متتالية، حيث ينفذ احتياطي الحبوب، كيف يمكن توفير المتطلبات الضرورية دون توفر عمل، دون وجود فرص شغل في مجتمع مساواتي، حيث يتكفل كل واحد بنفسه، في نفس التراب القاحل وفي نفس نظام الاستهلاك الذاتي.
يظل المورد الوحيد هو الرحيل باتجاه المدن، باتجاه المراكز المعدنية أو الأوراش الكبرى، حيث تكون إمكانية تحصيل المال متوفرة سواء في التجارة أو في العمل المأجور. إن الشخص الذي يرحل هو منتدب الأسرة البيتية و، بعد عودته إليها، يعوضه في الهجرة أخ أو ابن عم.
لماذا لم يلجأ الناطقون بالعربية أبدا - أو إلا نادرا - لهذا النوع من الهجرة؟ مؤكد أنه لا دخل للغة في ذلك. وينبغي التذكير بأن البرابرة لم يكونوا يتميزون، حتى وقت قريب، عن باقي المغاربة باللغة فقط، بل بالنظام القانوني. لقد ظلت غالبيتهم مخلصة لعرف قديم تأثر، مع مرور القرون وعلى نحو عميق إلى حد ا، تبعا للمناطق، بشريعة القرآن؛ إلا أنه كان يختلف عنه بشكل واضح حول بعض النقط. لا سيما ما تعلق بالإرث. فنحن نعرف أن القرآن، خالف العرب، حين منح المرأة حق الإرث. حتى لو كان ذلك الحق لا يتجاوز نصف حق الوريث الذكر. أما التقاليد البربرية، الوفية لروح النظام الخطي الأبوي، فهي ترفض حق المرأة في الإرث، لأنه بمغادرتها الأسرة والتحاقها بأسر غريبة، كما يلزمها الزواج بذلك، تتنازل عن حصة من الإرث، وهذا غير معقول وغير مقبول في منطق النظام. في حين أن الأمازيغيين ظلوا متشددين بخصوص هذه النقطة: المرأة مقصية من الإرث. بينما قبل الشلوح، الأكثر ورعا والأكثر تأثرا بالشريعة، المبدأ إلا أنهم ابتكروا كل أنواع الحيل القانونية لحرمان ذلك المبدأ من آثاره والإبقاء عمليا على الإرث كله في إطار الذرية الذكورية. وليس الأمر كذلك بالنسبة للعرب أو الذين تعربوا، الخاضعين منذ مدة للشريعة القرآنية، والذين يرون أن الإرث يُقسم أو ينطلق على الأقل، عند كل جيل جديد، بإرث النساء.
وحدة التراث
لكي يظل تكافل الأسرة الواسعة على حاله، يلزمه أساس اقتصادي، وهو الإرث بالكامل. أما إذا تجزأ هذا الأخير، فإن الروابط بين العائلات الزواجية تفتر بالضرورة، وتنزع نحو الاستقلالية. ذلك ما حدث عند الناطقين بالعربية. وبخلافه ، فالذين يتكلمون البربرية حافظوا بشكل أفضل على وحدة التراث، تمسكوا بتكافل الأسرة البيتية الكبيرة. ذلك مجرد افتراض، بالتأكيد؛ ويبدو لي أنه يتضمن احتمالا أكثر مما يتضمن تفسيرا لا أدري وفق أية « تيارات « طابعها العلمي مشكوك فيه على الأقل. إضافة إلى ذلك، فأهمية التراث والحفاظ عليه، تظهر بشكل جيد في الدوافع التي أثارت الهجرات الأولى
للبدويين الشلوح: كان الأمر يتعلق في معظم الأحيان باكتساب الإمكانات لاسترجاع جزء من التراث، أجبرتهم الظروف القاسية على التنازل عنه بشكل مؤقت. أقول: مؤقت. لأن الشلوح نادرا ما يُجرون بيعا نهائيا، على الأقل إذا هم الأمر أرض المولد: إنهم يبيعون عن طريق الرهن، بيع الوفاء، الذي يسمح لمن باع بأن يشتري من جديد حين تسمح له الإمكانيات بذلك. فقد كان البيع في الغالب هو الطريقة الوحيدة للامتلاك الفوري للنقود، كشيء نفيس ونادر في القرى المغربية، وكانت الهجرة هي الفرصة الوحيدة لاسترجاع جزء من التراث سبق التنازل عنه بحكم ضرورة ملحة: كان الخضوع لهذا التنازل بمثابة فقدان للشرف.
في إطار هذا النوع من الهجرة الذكورية والمؤقتة، أي هجرة الشلوح، ينبغي إقامة تمييز بين الهجرة التجارية والهجرة العمالية.
كما هو الشأن بالنسبة لسكان مدينة جربة بتونس، والمرابطين بالجزائر، فإن « سواسة « احتكروا تقريبا تجارة البقالة في المدن الموجودة شمال البلاد. والحقيقة أنه رغم كوننا نلتقي بقالين ينحدرون من قبائل مختلفة، ومن قبائل غير بربرية بالطبع، فإن كما هائلا من متاجر البقالة يسهر عليه « شلوح « ينحدرون من بعض القبائل، المحددة، من الأطلس الصغير؛ يتعلق الأمر بالقبائل الملتصقة، في الشمال وفي الجنوب، بأعلى سلسلة المرتفعات، جبل لكست: أيت صواب، إيدا او كنديف، أيت مزال، إيدا اوكتير، أيت عبد الله شمالا، آملن، إكونان، أمانوز وتاسريرت في الجنوب. كما نجد تجارا في مناطق أخرى: هنا، يمكن القول بأنه لا وجود لمهاجر لا يمارس التجارة.
لقد طرحنا السؤال حول سبب الظاهرة. يبدو من الصعب أن يدخل ضمن الأسباب تأثير « ميول « خاص. فباعة الماء والفحم، في باريس بلزاك، كانوا كلهم تقريبا من أوفرن، ومنظفو المواقد من سافوا: لم يفكر أي كان في أن يخصهم ب « هبات « خاصة عن تلك المهن. وقد بين بعض الملاحظين تقاليد يبدو حسبها أن جماعات يهودية مهمة وُجدت في السابق بتلك المنطقة وتعرضت لتعذيب قد يكون أفضى إلى العديد من عمليات الاهتداء القسري. صحيح أنه في القبائل المجاورة كانوا ينعتون البعض عن طيبة خاطر « يهودا «، مستندين إلى تلك التقاليد، رجال القبائل التي تمارس التجارة، إلا أن الغيرة التي كان يثيرها نجاحهم لم تكن مستبعدة بالطبع. هنا أيضا نرفض تفسير ظاهرة اجتماعية ب « أهلية وراثية « مزعومة: إذا كان اليهود تجارا - وصناعا تقليديين: ننسى إراديا الصناع التقليديين في هذه القضية، رغم كون عددهم يفوق عدد التجار - ، فلأنهم كانوا ينكرون عليهم حق امتلاك الأرض: في المناطق حيث سُمح لهم بذلك - في بعض وديان الأطلس الكبير، في قبيلة أيت بوكمز مثلا - ، كان هناك يهود مزارعون. أما التجار « الشلوح « بالأطلس الصغير، ولنفترض أنه كان لهم أسلاف يهود، فقد كانوا مزارعين منذ أجيال: لا نفهم جيدا « أهلية تجارية « تنام لقرن أو قرنين ثم تستيقظ يوما ما بشكل مفاجئ. يتعلق هذا بالرواية، وليس بعلم الاجتماع أو علم النفس.
لقد أثرنا، بطريقة علمية أكثر، الحالة الاجتماعية للقبائل موضوع الخلاف لحظة انطلاق الهجرة. كان يُسير القبائل المجاورة كلها شيوخ فيوداليون تقريبا يقتطعون نسبة كبيرة من الأموال التي يبعثها المهاجرون، في حين أن أهل قبيلة آملن، مثلا، عرفوا كيف يتجنبون إقامة الحكم الشخصي، الذي كان معمما آنذاك تقريبا عند برابرة الجنوب الغربي وحافظوا على جماعتهم العتيقة التي كانت تفرض حدا أدنى من النظام ومن العدالة. بذلك، فالتراكم الرأسمالي، المستحيل عند جيرانهم، لم يلاق أي عائق عند سكان آملن. إنها فكرة لبقة، إلا أنها لا تصمد أمام الواقع. رغم كونهم « قبيلة البقالة « الرئيسية، فقبيلة أملن ليست الوحيدة، وقد كان عدد كبير من القبائل الأخرى تحت سلطة أولياء أو أمغار، المعروفين كلهم بجشعهم؛ فأهل أملن أنفسهم كانوا يدفعون المكس لمربيه ربو، أخ الهيبة المقيم بكردوس، منذ فشل « السلطان الأزرق « سنة 1912 .
يمكننا أيضا - وقد فعلنا ذلك - أن نجازف بتأويل فيبري ل « تابقالت «،مرتكزين على تطهرية أملن وجيرانهم من خلال مقارنتها بتطهرية المرابطين وسكان جربة، برابرة آخرون يهاجرون بدورهم نحو المدن الشمالية، في الجزائر وفي تونس، ويكادون يحتكرون البقالة بها. إلا أن المرابطين، وكذلك قسم من أهل جربة، خارجيون إباظيون، أي بدعيين في الإسلام، ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للشلوح: كان هناك خارجيون من بين برابرة المغرب، إلا أنهم انقرضوا كلية منذ زمن بعيد. كل المغاربة المسلمين سنيون، أي أورثودوكسيون، إضافة إلى أن مذهبهم مالكي. إن الشلوح شديدو الورع، بالتأكيد، هم أكثر ورعا في كل الأحوال من الأمازيغيين، و « الطلبة ( حفظة القرآن ) كثيرون ضمنهم إلى حد يسمح لنا بالقول، من باب الفكاهة، أن إنتاجهم كان صناعة وطنية لسوس. إلا أن ما هو صحيح بالنسبة للقبائل التي تمارس التجارة، هو كذلك أيضا بالنسبة للقبائل الأخرى ولا يمكنه تفسير التخصص الميركنتيلي للأولين.
الأعراف الأربعة
والحقيقة أن التطهرية متشددة أكثر عند هؤلاء، لا سيما فيما يتعلق بالنساء، المتحجبات والمترهبات بصرامة كما لو كن مدينيات من وسط تقليداني. إلا أنه يبدو أن هذه السمة الأخلاقية، هي نتيجة للهجرة وليست سببا لها: كما أن « سواسة « الذين اغتنوا يقلدون البورجوازية المدينية في لباسها ونمط عيشها، فهم يقلدونها في السلوك المفروض على النساء - بشيء الانزياح مع ذلك، مادام أن الشلوح يحجبون نساءهم، عي حين أن البورجوازيين يكشفون نساءهم.
في « ابن العم بونس «، يؤاخذ بالزاك « اليهود، النورمانديين، سكان أفيرن وسافوا، هذه الأعراق الأربعة من الناس لها نفس الغرائز، تغتني باتباع نفس الوسائل. إنهم لا ينفقون شيئا، يكسبون أرباحا زهيدة ويراكمون المنافع والفوائد، ذلك هو ميثاقهم «. لندع جانبا اليهود، الذين يطرحون مشكلا آخر، ولنتوقف عند لفظي « أعراق « و « غرائز « اللذين يترجمان نوعا من الحتمية البيولوجية التي أصبحت متجاوزة. هناك شيء مشترك بين سكان نورماندي، أفيرن وسافوا، وهو أنهم قرويون، يزرعون - المجموعتين الأخيرتين على الأقل - أرضا متعرجة وفقيرة، كما هو شأن الشلوح في الأطلس الصغير. كما أن صفات الاستبسال في العمل، الاعتدال، الادخار، الشح، التي ينبغي بذلها للتمكن من البقاء في أراضي قاحلة، تأثر تأثيرا بليغا في الأنشطة المدينية، سواء تعلق الأمر بالعمل الصناعي أو الحانوتي. في المعادن بالمغرب، بالنسبة لعمال باطن الأرض، الذين يمارسون العمل الأكثر قسوة، لكنه أيضا، وبفضل منح المردودية، أحسن الأجور، هم في الغالب برابرة، ولا سيما من الأطلس الصغير.
ذلك لا يفسر، بالطبع، لماذا نجد في الأطلس الصغير نفسه قبائل توفر عمال المناجم وصبيان المقاهي، بينما توفر أخرى التجار. ينبغي فقط أن نستحضر هنا عاملين، أحدهما يتعلق بالاتفاق: إنه نجاح البعض، التكافل العشيري والقبلي. ينبغي الانقياد لعدم معرفة لماذا ينطلق الأولون (يبدو أنهم من أملن) في التجارة. لقد ذاع صيت نجاحهم، ليس فقط بمقتضى التقاليد أو العدوى (ينبغي أن لا ننسى أنهما أيضا ظاهرتان اجتماعيتان، رغم عدم الاهتمام بهما من طرف علماء الاجتماع...) ، بل بفضل الاندماج القوي وهو اندماج الإنسان البربري في الحلقات المتمركزة حول العائلة البيتية، حول العشيرة ( إخص أو أفوس )، حول القرية وتاقبيلت.
إن الصيرورة نفسها تفسر الاختلافات الحرفية والجغرافية للتخصص القبلي: أهل أملن يمارسون البقالة بوجه خاص، أيت صواب يبيعون الخضر، أهل تسريرت التبغ ، أيت آمزال يشتغلون في مجال النقل؛ ونجد أيت عبد الله أساسا في سلا، مكناس وفاس، إيكونان بمراكش ، أيت تسريرت بالرباط، أملن بالدار البيضاء، طنجة والعرائش. إلا أن الدار البيضاء، بالنظر لأهميتها، تمنح الفرصة للجميع، نجد بها أناسا من مختلف المناطق. ولتقديم فكرة عن أهمية هذه الهجرة، نوضح أنه سنة 1950، كان من أهل أملن وحدهم 1290 تاجرا بالدار البيضاء و 363 بطنجة، حتى لا نذكر سوى مسرحي النشاط الرئيسيين.
نفس العدوى ونفس التكافل، يفسران تخصصات الهجرة العمالية وحضور ما أسماه روبير مونتين « فرق « قبلية في بعض المقاولات. إذا كانت شركة السكر بالدار البيضاء، قد عرفت خلال مدة طويلة وجود فرق أيت باعمران (من معقل إيفني الاسباني في السابق )، فلا يعني ذلك بالتأكيد أن لتلك القبيلة تذوق أو أهلية خاصة لصناعة السكر، ذلك يعني بكل بساطة أن بعض المنحدرين من أيت باعمران، العاملين في ذلك المصنع والذين كانوا يحظون بالتقدير، استغلوا الوضع وألحقوا بعض الأهالي وبعض المقربين.
ينبغي أن لا ننسى الدور الذي تلعبه الهجرة المؤقتة على هذا المستوى. إن المهاجر الذي يعود إلى بلده المولدي يواصل مد الجماعة العائلية بالموارد، إذ يعوض نفسه في العمل بأخ أو ابن عم. من جهة أخرى، وفي ظل اقتصاد في طريق النمو، حيث مناصب الشغل أقل عددا من المرشحين له، تكون هناك مخاطرة كبيرة في ترك الشغل الذي يزاوله الإنسان. وتندثر تلك المخاطرة إذا كان العوض شخصا موثوقا، يحفظ للمسافر منصبه على نحو طبيعي ويتركه له يوم يسافر هو بدوره. هذا النوع من تناوب اليد العاملة بشكل خاص، هو في الحقيقة عكس عدم الاستقرار. ذلك ما فهمه رجال الصناعة الأوروبيون بالمغرب في وقت وجيز، وبما أن العمال الشلوح كانوا يتمتعون بسمعة طيبة ( « كادحون، طيعون وغير مسيسين «، هذه الصفة الأخيرة على الأقل استمرت لفترة محددة )، فقد كانوا يشغلون أمثالهم في إطار تناوب اليد العاملة.
مؤسسة الكابران
هناك مؤسسة خاصة بالصناعة المغربية تفضل تشغيل فرق من نفس القبيلة، وهي مؤسسة « الكابران «.
إنه نوع من رئيس مجموعة كان يشتغل، في فترة الحماية، كمساعد لرئيس العمال. فالأخير كان دائما أوروبيا و « الكابران « كان دائما مغربيا، وبما أن الأول لم يكن يعرف العربية دائما، فقد كان يتخلى للثاني عن العلاقات غير التقنية مع العمال. كان « الكابران « يلعب دورا مهما في التشغيل بوجه خاص. وبما أن الشغل كان شيئا نفيسا ونادرا، فإننا نتصور دون صعوبة تذكر التجاوزات التي يمكن أن تحدث: « بعض « الكابرانات « لم يكونوا يقتطعون فقط « حق « التشغيل، بل ضريبة عن كل راتب شهري، وإلا طُرد العامل بعد أول حادث. أما عند الشلوح، فالتجاوز - إذا كان هناك تجاوز - تكون له طبيعة أخرى. كل « كابران « كان يشغل أولا رجال عائلته، ثم عشيرته، ثم قبيلته. ولم يكن لرئيس العمال ما يشتكي منه: كان الفريق يكسب فيما يخص التآلف ومشاكل القيادة تحل بكل بساطة. بعض المقاولات الكبيرة، كالمعادن، حين كانت تواجه، بعد الحرب العالمية، مشكل التوسع السريع للإنتاج، كانت توجه على نحو مبسط حملة التشغيل نحو قبائل سوس التي سبق أن قدمت لها « فرق « عمل «.
لقد فسرنا أحيانا هذا التشغيل التفضيلي للبرابرة (علما بأنه كان بعيدا كل البعد على أن يكون عاما )، بحب الفرنسيين لهم، بفعل أسطورة « البربري الطيب « مقابل « العربي الشرير «، ومن هنا مصدر الصعوبات التي ستواجهها الحماية. بالتأكيد أن البرابرة، وبعد تجاوز مرحلة التهدئة العسكرية، لم يخلقوا مشاكل سياسية خطيرة للفرنسيين، على الأقل في فترة معينة. إلا أن ذلك ينطبق على المواطنين القرويين عموما، وليس على البربر فقط: كانت النزعة الوطنية في البداية، ظاهرة حضرية ولم تشمل القرى بشكل جدي إلا عند اقتراب نهاية الاستعمار. فالدار البيضاء، المدينة الحضرية الجديدة، لم تصبح عاصمة للوطنية إلا في وقت متأخر: حتى حدود 1952، كانت فاس هي التي تقوم بذلك الدور. ف « السياسة البربرية « شيء، وسياسة التشغيل في الصناعة شيء آخر. فأرباب العمل و، أكثر منهم، رؤساء العمال، كانوا أناسا عمليين (علاوة على أنهم لم يكونوا معصومين، كغيرهم من الفرنسيين، من الأحكام المسبقة ) إذا كانوا يفضلون البرابرة كعمال، فذلك يرجع لدوافع مادية أكثر. فعلاوة على التسييس (الذي لم يطرح، في الحقيقة، مشاكل للمقاولات إلا خلال السنوات الأخيرة للاستعمار)، فالعمال الناطقون بالعربية، غالبيتهم على الأقل، كانوا معروفين بعيب خطير: عدم الاستقرار. كانوا يشتغلون بضعة أيام، ثم يختفون. لماذا؟ الأسباب الواضحة كثيرة: استحالة تحمل العمل المنتظم لوقت طويل، في أوقات محددة، العمل الذي يتطلب انتباها متصلا؛ حب التغيير، وهم أن الأمور ستكون أفضل في مكان آخر؛ الضعف الفيزيقي، بسبب سوء التغذية، ما كان يجعل مجهود الانتباه المتصل بوجه خاص شاقا؛ وبصفة خاصة، عدم توفير الحاجيات التي تجعل الشخص، بعد اكتساب شيء من المال، يفضل اللهو والاستراحة على مواصلة العمل. صحيح أن عدم الاستقرار هذا كان مطروحا بالنسبة لبعض أرباب العمل الصغار الذين يعوزهم بُعد النظر: كان يجنبهم تأدية بعض الامتيازات، كمنح الأقدمية، وأحيانا الراتب القانوني. أما المقاولات الجادة، المنشغلة بالمردودية، فكانت تفضل يدا عاملة قارة والشلوح، الذين لم يكونوا يطلبون سوى قضاء سنتي الهجرة في نفس العمل، كان لديهم امتياز مؤكد مقارنة مع غيرهم. علاوة على ذلك، وبما أن عليهم ضمان بقاء مجموعة عائلية متسعة، هم منتدبوها في الهجرة، بما أن محور وجودهم وهدفه كان يوجد في مكان آخر، في بلد الولادة، فقد كانوا يعتبرون نشاطهم العمالي نوعا من المنجم النفيس، الذي ينبغي استغلاله إلى أقصى حد خلال إقامتهم. لذلك كانوا يبحثون على الأشغال القاسية أكثر إلا أنها تدر أكثر، وكانوا يسعون إلى تضخيم أجورهم بكل المنح التي يوفرها المشغل لرفع المردودية والإنتاج. هكذا، نقف، في نهاية هذا التحليل، على خاصيات الهجرة المؤقتة، بالخلفية الاجتماعية التي اكتشفناه لها. لنوضح أيضا بأن الهجرة المؤقتة لا تفسر كل شيء وأن البربر ليسوا وحدهم من أفلت من عدم الاستقرار الذي عانت منه اليد المغربية مدة طويلة. يوجد لدى الناطقين بالعربية أو بالأخرى - لأنه لا دخل للغة في هذه المسألة - لدى أولئك الذين هاجروا بصفة نهائية إلى المدينة، عناصر تتكيف أكثر من الشلوح مع متطلبات العمل الصناعي. وهم ينتمون عموما إلى قبائل تتشكل من مقيمين قدماء، برابرة تعربوا أو عرب استقروا منذ مدة طويلة. ويبدو أن الرحل أو الرحل القدماء، الذين استقروا مؤخرا وبشكل سيء، يجدون صعوبات أكثر في هذا التحول العنيف المتمثل في ولوج الحضارة الصناعية. من المؤكد أنه من العسير خلق عامل في مصنع حديث من قروي قادم من فلاحة عتيقة: حين نفكر في الاضطرابات التي تترتب عن ذلك بخصوص معطيات متأصلة في ذهن الإنسان كالفضاء والزمن. على الأقل، وحتى لو كان الفلاح لا يعرف سوى المحراث العتيق والبسيط، فهل هو مؤهل قبليا لهذا التحول: إنه يطوع بعمله مادة، التراب، لإجباره على منحه ما لا يمكن أن يمنحه إياه بشكل عفوي. أما المترحل، الراعي، فلا يمارس سوى التربية الخفيفة للماشية، لا يعرف سوى أن يأخذ ما تقدمه له الأرض. إذا نضب المرتع، فهو يكتفي بنقل قطيعه إلى مكان أبعد. ولا يأخذ منه الاعتناء بالقطيع سوى القليل من الوقت، لذلك تكون ساعات اللهو طويلة، تساعد على أحلام اليقظة التي ينبع منها الشعر أحيانا؛ لذلك، فليس وليد الصدفة أن يكون هناك شعر الرعاة، القصيدة الأريفية، وأن لا يكون هناك نوع شعري خاص بالفلاح: لا يملك الأخير الوقت الكافي للحلم. ونحن نعرف المشكلة التي يمكن أن يعاني منها شخص تعود على نمط العيش هذا والذي يصوغه هو نفسه، في الخضوع للتوقيت الجامد، المجهود المسترسل، الانتباه المتواصل، أي كل ما يميز العمل الصناعي.
روح الإدخار
إذا كان الاستقرار يتطلب من المترحل أكثر مما يتطلبه من المقيم، فروح الادخار كذلك غريبة عنه. بخلاف المزارع، لا يمكن للراعي أن يدخر: فالأول يعرف، منذ آلاف السنين، كيف يحافظ على الحبوب في أهراء؛ كان لا بد من الانتظار طويلا قبل اختراع المبرد الصناعي لحفظ اللحم. كان الراعي التقليدي يحتفل كلما كان الموسم جيدا، إلا أنه لم يكن بإمكانه « شد الحزام « كلما هلك الجفاف القطيع. من هنا مصدر إحدى السمات المعروفة أكثر في أخلاقيات البدوي، السخاء الكمالي، الذي ليس ثمرة للأنفة وحدها: ماذا يفعل بالهبات الربانية إذا زادت عن المطلوب، إن لم يكن تبديرها في الأبهة، ما دام يتعذر عليه ادخارها؟
من المؤكد أن روح الادخار، الطبيعية أكثر بالنسبة للمقيم، تفسر ميول ونجاح أولئك، الرأسماليين الصغار، أي أصحاب الدكاكين السوسيين. ونعتقد كذلك أنها تفسر، على الأقل في حالة الهجرة المؤقتة، اتساع الحاجيات الذي يوحي للعامل الشلح برغبة اكتساب أكثر ما يمكن، في حين أن المترحل السابق، المتعود على استهلاك كل ما توفر لديه قل أو كثر، يجد صعوبة في إدراك العقلانية الاقتصادية التي تتطلب الحساب من جهة، ومن جهة أخرى تطوير الحاجيات باعتبارها أكثر أهمية من اللهو. إن الراعي يعيش الحاضر، ويعفي نفسه من التوقع ما دام التوفير ممنوعا. والفلاح يفكر في المستقبل، ما دام بإمكانه إعداده وحماية نفسه من تقلباته: « المقاولة الرأسمالية « كانت وراء هذا الموقف، وكذلك تداعي التطور الاقتصادي، الذي يزيد في الإنتاج بالحاجة وفي الحاجة بالإنتاج.
لقد أصبحت مرحلة الهجرة المؤقتة متجاوزة اليوم، أو أنها في الطريق إلى ذلك على نطاق واسع. لكن، قبل التطرق إلى المرحلة الثانية، فإننا نود إثارة حياة البرابرة المهاجرين وبعض المشاكل التي تصادفهم. بما أنهم يعملون بلا توان خلال وقت محدد لتغذية أو لتعزيز اقتصاد العائلة، فإن الشلوح يعيشون حياة تتسم ببساطة لا تصدق.إنهم يحصرون استهلاكهم الشخصي في حده الأدنى، لأنه ينبغي ادخار النصيب الأكبر من المكسب وإرساله إلى الأسرة. طوال مدة طويلة، لم يكن لأصحاب الدكاكين المنحدرين من سوس أي مسكن: كانوا يعيشون داخل الدكان، ينامون ليلا على حصير من قصب، يخفونه صباحا تحت مبسط السلع. كانوا يتغذون مما تبقى على الزبناء، من خضر ذوت، أو معلبات فسدت تقريبا ولم يعد بالإمكان بيعها. وتتهكم الروح الساخرة للمدينيين مما يسمونه شح السوسيين، وكدليل على ذلك حكاية الإخوان الثلاثة الذين كانوا يسيرون دكانا واحدا يعيشون به ليل نهار:كان
للثلاثة بابوج واحد، لأن واحدا منهم هو الذي يخرج كل مرة. أما العمال، فيتكوم أكبر عدد منهم في مراقد جماعية، لحصر تكلفة السكن في حدها الأدنى. هم أيضا لا يتغذون بشكل جيد.
بعد الحرب العالمية، حين كان تقنين الطعام لا يزال معمولا به في المغرب، صرح لي أحد المشغلين بالدار البيضاء بكونه، رغم رضاه على عماله الشلوح، يؤاخذهم لأنهم يوفرون كثيرا على حساب تغذيتهم، ما كان يؤثر على مردوديتهم. فكر في أن يُقدم لهم وجبة ويقتطع واجبها الرمزي من راتبهم. رفضوا الطعام وطالبوا بأجرهم بالكامل ونقدا، محتجين لأنهم أحرار في صرف أموالهم كما يحلو لهم وأنه لا دخل لرب المعمل في ذلك.
لا شك أن حياة العزاب (الرواصا )، أو الرجال الشبان الذين يعيشون حياة العزاب، كانت تطرح مشاكل جنسية، لا تجد لها العفة حلا إلا بصفة استثنائية. ومن المؤكد أن العاهرات، المحترفات والمناسباتيات، المتواجدات بكثرة في المدن الكبرى، كن يقدمن أسهل الحلول. إلا أن من مساوئ الظاهرة تكلفتها المرتفعة. أما بالبنسبة لبعض التجار الميسورين، فالشريعة الإسلامية كانت تمنحهم حلا ثانيا، يتلاءم أكثر مع الأخلاق ومع العقلانية الاقتصادية في نفس الوقت. فإلى جانب الزوجة التي ظلت ببلد الولادة والوحيدة عموما، لأن البربر أحاديو الزواج، كانت هناك إمكانية الزوجة الثانية، التي يمكنهم التخلي عنها عند العودة إلى القرية أو التي تنتظرهم بالمدينة في حالات العودة المتواترة و الوجيزة. والزوجة الثانية هي التي كانت تعلم أحيانا بوجود الأولى، أما العكس فلم يكن صحيحا أبدا، حيث كان بالإمكان الاعتماد على تضامن الرجال حتى لا تعلم الزوجة البربرية بالأمر. وكان للزوجة الشرعية، بالنظر للعاهرة، امتياز مضاعف، كونها لا تخالف الشريعة الإلهية وحفظها لأسرة المغترب. كما كانت لها مساوئها أحيانا، و نستخلص ذلك من حكاية السوسي الذي تهور وتزوج فاسية، وأتلفه الجمال ففكر في التباهي أمام باقي الرجال بشرف الزواج من مدينية.
إن تواضع الموارد، مقرونا بروح التوفير الواضحة جدا، قد أوحيا لبعض العمال الشلوح بمؤسسة أصلية، مؤسسة (الكارسونة ) ؛امرأة أرملة أو مطلقة في الغالب، تتكلف بتدبير سكن عدد من « الرواسة «، ولا تنحصر مهمتها في تلبية متطلباتهم الغذائية. فتقاسم المصاريف والوظيفة المزدوجة ل « الكارسونة «، يجعلان هذه المؤسسة « مفيدة « جدا ، إلا إذا لم تكن الأخلاق التقليدية تجد فيها منفعة لنفسها. ويمكن الاعتقاد أن ذلك يكون مصدرا للغيرة، لبعض الخلافات، للفوضى وللفضيحة بإيجاز. يبدو أنه لا شيء من ذلك يحدث، بما أن إدارة الفوسفاط بخريبة، حيث كانت المؤسسة مزدهرة، كانت الإدارة تتسامح معها في القرى المخصصة لسكن عمال المكتب الشريف، على اعتبار أنها تقدم الحل الأقل ضررا لمشكل يتعذر إيجاد حل له تقريبا. ولا نعلم في حالة إلغاء عامل طُهري لمؤسسة « الرواسية «، إذا ما كان الهدوء العمومي والأخلاق في نفس الوقت سيكونان مضمونين.
تضامن الشلوح..
سجلات الإفلاس خالية من أسمائهم
رغم عدم انحدارهم دائما من القبيلة نفسها، فإن التجار والعمال الشلوح، بعيدا عن تجاهل بعضهم البعض، يكونون متضامنين فيما بينهم. أولا، لأن التاجر يُقرض: يشتري العامل مساء كل ما يحتاجه، ولا يدفع ما عليه من ديون إلى مساء السبت، بعد حصوله على الراتب الأسبوعي. هذا الحانوتي مثلا، يعرف كتابة الأرقام لا غير: تجد في درجه حزمة من الأوراق تتضمن كل واحدة منها عمودا من الأرقام، إلا أن بإمكانه أن يضع على ورقة ما رسم وجه، بما أنه لا يعرف كتابة الاسم. ويقوم التاجر كذلك بدور صندوق البريد، دور البنك ودور مكتب التشغيل. إذا كان غير جاهل، فهو يكتب أو يقرأ رسائل العامل، التي تُوجه إليه بما أنه الوحيد الذي لديه عنوان قار. وغالبا ما يُودع لديه العامل ما وفره من مال، لكي يوصله إلى العائلة كلما زار البلد. إن مكاتب البريد في سوس وفي القبائل الأخرى كذلك، تتوصل بالتأكيد بمبالغ مالية مهمة على شكل حوالات، إلا أن كل ذلك لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدا من الأموال التي تصل إلى المنطقة. إن الشلوح، بالخصوص، وثقوا لفترة طويلة في الوسطاء الذين يعرفونهم عوض الإدارة اللا شخصية. وقد رأينا، في سوس، مسافرين يصلون محشوين كلية بالأوراق البنكية: صباح الغد، يصطف الناس أمام بابهم لتوزيع الأموال. كما يتم الاعتماد على البقال، ابن البلد، للحصول على عمل، لا سيما إذا تعلق الأمر بأشغال منزلية، في الأحياء الأوروبية، لأن سيدات البيوت، اللواتي يسدي لهن البقال كل أنواع الخدمات، تطلبن منه بحسن نية أن يجد لهن طباخا أو بستانيا. أخيرا، عند البقال تُعقد الاجتماعات، مساء، بعد انتهاء أوقات العمل، لمناقشة أحوال البلد أو للتعرف على أخباره، فعند البقال يمكن التقاء العائد من البلد وتكليف الذاهبين إليه بمهام، وهي مهام شفهية تكون أكثر دقة وأكثر تفصيلا من تلك التي تسجل على الورق، في أغلب الأوقات بلغة أجنبية، العربية أو الفرنسية، وبأسلوب متكلف، أسلوب البسطاء حين يمسكون قلما.
إن التضامن الذي يطبع هذه العلاقات، نجده كذلك، وبشكل أقوى، في تنظيم التجارة نفسها. فالدكان، صغيرا أو كبيرا كان، ليس ملكية شخص واحد، وليس ملكية شركة مجهولة، بل هو في ملكية عائلة، كل أفرادها الذكور يشاركون فيه شريطة العمل به. هكذا، فالمقاولة التجارية توسع التراث الأرضي. رغم أنها لا تشبهه على الإطلاق، لأننا غالبا ما نلتقي في الأولى، ليس كشركاء في الملكية، بل كوكلاء أو كمستخدمين، أفراد قرابة أمومية تم حرمانهم من التراث.
بعض التجار الشلوح، كانوا يكسبون القليل في البداية، وقد تمكنوا من امتلاك دكان ثان، ثم ثالث، إلخ، وبعضهم يمتلك ما يزيد عن المائة دكان. ومن يمتلك دكاكين كثيرة يشغل هو نفسه واحدا منها، أما بالنسبة للباقي فبإمكانه اللجوء إلى مسطرتين: إما الكراء بسومة شهرية لشخص أهل، يتكفل بالمصاريف كلها ويحتفظ بالمكسب لنفسه؛ أو - وهذا هو النوع المعمول به أكثر - يعهد به إلى مدير أو وكيل، يقتسم معه الأرباح بالتساوي؛ إنه نوع من المؤاكرة المنقولة من الأرض إلى الدكان. كما يلعب التضامن دورا في اختيار المدراء - الوكلاء، الذين يكون من الأفضل اختيارهم من « يافوس «، أو من القرية أو تاقبيلت. وبما أنه تم تحقيق الإشباع بسرعة، فقد كان لا بد من دعوة جماعات أخرى، وبذلك ذاع صيت ممارسة التجارة بين القبائل الكبرى المؤسسة، أميلن، ادا أو كندين لينتشر تدريجيا بين القبائل المجاورة.
فيما يتعلق بالتضامن، الذي لا تشوبه شائبة، بين التجار الشلوح، احتفظنا بالعلامة المثيرة أكثر إلى النهاية. بإمكاننا الاطلاع، في محكمة الدار البيضاء، على سجلات الإفلاس: لن نجد بها دكانيا واحدا سوسيا. لقد واجه بعضهم صعوبات: تتدخل الجماعة في الوقت المناسب لإنقاذ المتهور - والحقيقة أن التهور نادر بينهم -، ولو استلزم الأمر أن يفرضوا عليه وصاية من هو أكثر قدرة.
بعدما أزاحوا الفاسيين ملوك البقالة
منذ الاستقلال ولا سيما خلال الستينات، طرأت تغييرات كثيرة على هجرة البرابرة إلى الدار البيضاء. ليس لكون أهميتها تقلصت، بل لأن كيفياتها تطورت. فالهجرة الذكورية والمؤقتة لن تختف، لكنها تترك مساحة تزداد اتساعا للهجرة النهائية، التي أصبحت عائلية بالضرورة. وليست الأسباب واحدة بالنسبة للتجار وللعمال.
لا زلنا نلتقي نمط البقال الصغير، الذي يتغذى من بقايا البقالة وينام في دكانه، إلا أنه بصدد التحول إلى نوع من المخلفات. لقد أتى استبسال السوسي في العمل وفي الادخار أُكله. كما أن المقاولات المتوسطة والكبيرة أصبحت اليوم متداولة كما هي الصغيرة. ولا يتوقف الأمر عند امتلاك البعض لعدد كبير من الدكاكين، نوعية « المتجر المتعدد الفروع « على الطريقة السوسية، بل إلى آخرين أدركوا مرتبة الباعة الجملة. إننا نجد بالدار البيضاء، حول ساحة الحلفاء، أنواعا من الحوانيت الصغيرة، التي لا يوحي ظاهرها بالثقة: إنها مداخل مستودعات فسيحة يتمون منها آلاف البقالين من المدينة ومن الإقليم ككل.
إن برابرتنا لم يكتفوا بكونهم « ملوك البقالة «. لقد تصدوا لاحتكار الفاسيين، الذين ظلوا حتى ذلك الوقت ملوك تجارة الثوب بلا منازع. كان التجار المنحدرون من أملين، قد فتحوا، في طنجة، الطريق قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. ففي الدار البيضاء، التي ظلت لمدة طويلة، منطقة نفوذ كبار تجار فاس وبمثابة فرع للقيسارية، انخرط عدد كبير من السوسيين في تجارة الثوب، بالتقسيط في البداية، ثم بالجملة وقد حققوا النجاح في ذلك: سنة 1964 كانوا يمسكون معظم متاجر قيسارية المنجرة و 25 % من قيسارية الحفاري، المركزين الأكثر أهمية لتجارة النسيج بالمدينة الجديدة في الدار البيضاء.
بعد الحصول على الاستقلال - ولا سيما منذ الستينيات - غادر العديد من التجار الأروبيين المغرب، لأن زبناءهم، الأوروبيين بوجه الخصوص، قلوا بشكل كبير. وغالبا ما نجد أن سوسيين هم الذين عوضوهم. لأن الطابع الجماعي لمقاولاتهم، التضامن العشيري وحتى القبلي الذي يشد بعضهم إلى بعض، جعلوهم في وضع جيد لتحقيق هذا الاسترجاع. هل نحن في حاجة إلى أن نضيف بأن العملية كانت مفيدة على العموم، بما أن أناسا أجبروا على البيع، وكانوا في وضعية تحول دون تمكنهم من البيع بأسعار مرتفعة - ما بين فاتح يناير 1963 و 31 مارس 1964، بلغ عدد عمليات التقيد في السجل التجاري بالدار البيضاء 878 مغربي من بينهم 765 مسلما: 42 % من الأخيرين هم من الشلوح، بناء على مكان ازديادهم. لأن الفترة كانت من الفترات التي أصبح رحيل الأوروبيين يتم خلالها بوتيرة متسارعة.
الصعود المضطر
واليوم، نجد سوسيين ضمن أكبر رجال الأعمال في الدار البيضاء. بل إن البعض منهم قد حظي بتقدير النجاح التجاري: رئاسة غرفة التجارة. ماذا تمثل، إذن، بالنسبة لهؤلاء الرأسماليين الحقيقيين قطعة الأرض العائلية المرتبطة بمنحدر صخري في الأطلس الصغير؟ ابتداء من الأربعينيات، تحولت أرباح السوق السوداء إلى نخل في واحات باني أو إلى حقول في ما يسمى « المعدر « (الأراضي المعرضة للفيضان ) بدرعة؛ ومنذ خمس عشرة سنة، أصبحنا نلاحظ أن الاستثمارات التي لا تبتلعها المقاولة، تتحول إلى العقار في الدار البيضاء أو إلى المزرعات في الشاوية. وهما معا أكثر فائدة من الأراضي المقفرة في أقصى الجنوب.
في سياق كهذا، لم يعد الأمر يتعلق بهجرة مؤقتة، و إذا كان هناك تفكير في العودة إلى بلد الولادة، فللاستراحة، ل « قضاء عطلة « إذا صح القول، أو لحضور أعراس العائلة، مثلما هو الأمر بالنسبة لرجل أعمال باريسي يقضي أعياد نهاية السنة أو جزءا من شهر غشت في بيت العائلة بأوفرن أو نورماندي. لقد تحولت منازل « قرى البقالين « بالأطلس الصغير إلى « فيلات للعطل « بها كل مسالزمات الرفاهية.. ومع ذلك، فقد صرح لي، من قبل، تاجر بالجملة في ساحة الحلفاء، ينحدر من تافراوت، بأنه لم يعد إلى البلد منذ ثماني سنوات: معاملاته لا تترك له الوقت الكافي. لذلك، فهو يبعث زوجته وأبناءه إلى البلد بمناسبة الأعياد الدينية. وفي تلك الفترات، يتضاعف عدد الحافلات المنطلقة من الدار البيضاء والطرق الصغيرة الملتوية بالأطلس الصغير تمخرها سيارات تتكوم فيها الأسر والهدايا المخصصة للأقارب.
لم يعد البقال السوسي يقيم بدكانه: أكثرهم تواضعا اكتروا شققا صغيرة بجوار الدكان، وأكثرهم ثروة اشتروا فيلات في أجمل الأحياء. يعيشون بها رفقة زوجاتهم وأبنائهم. وليس هذا بالجديد: يشير روبير مونتين إلى أنه سنة 1951 كانت نسبة الذين يرحلون رفقة الزوجة تصل 20 % من مجموع المهاجرين، وتبلغ أحيانا 40 % بالقبائل القريبة من تافراوت. أما النسب اليوم فهي أعلى من ذلك بالتأكيد. وقد لعب تعليم الأبناء دورا حاسما في هذا التطور.
في السابق، كانوا يلحقون الأبناء وهم لا يزالون صغارا بدكان الوالد لتعلم الحرفة وتحمل مسؤولية أنفسهم. بعضهم يلحقون أبنائهم لقضاء سنوات بمدرسة الحي، ثلاث سنوات وليس أكثر، لكي يتعلموا الكتابة والقراءة، والحساب بوجه الخصوص. أما اليوم، فالذين ارتقوا إلى عالم المعاملات التجارية الكبرى، وعوا أن التكوين البسيط لا يفيد في الاقتصاد الحديث. لقد كان هؤلاء العصاميون أذكياء، ما جعلهم يعون نقصهم، ودفعهم طموحهم الكبير إلى جعل أبنائهم يتجاوزون ذلك. إن الفاسيين هم أكبر منافس للسوسيين، في التجارة بالدار البيضاء. ولا تقف قوة هؤلاء في الاقتصاد وحده: إنهم يحتلون، بحكم التحالف أو القرابة، مناصب سامية في الإدارة وفي الحكومة كذلك. ذلك لأن البورجوازية الفاسية كانت هي الأولى التي بعثت أبناءها، ثم بناتها بعد ذلك، إلى المدارس و الثانويات التي بناها ليوطي. وقد تأخر الشلوح على هذا المستوى. وأكثرهم نباهة يعرفون أنهم لن يتمكنوا من تدارك التأخر إلا بالتعليم، لذلك نجد أن أبناءهم يتواجدون اليوم بكثرة في ثانويات الدار البيضاء.
أما بالنسبة للعمال، فدوافع التطور ليست هي نفسها بالضرورة، حتى لا نقول بأن طبيعتها مختلفة بشكل جذري.
لقد انخفضت نسبة تناوب اليد العاملة، بشكل ملحوظ منذ حوالي خمس عشرة سنة، في المعامل بالمغرب. ويرجع ذلك لأسباب مختلفة، من بينها وبالتأكيد استفحال البطالة، خلق فرص الشغل الذي لا يساير، بل لا يغطي نسبة نمو سريعة. حين يكون الإنسان محظوظا ويحصل على عمل، مهما كان متواضعا، فإن تخليه عنه سيكون ضربا من الحمق. لذلك أصبح العمال مستقرين إلى حد كبير أكثر من السابق. إلا أن هذا التفسير يبدو غير كاف. في النهاية، لم يكن من التهور أن يترك الإنسان عمله، قبل عشرين سنة، وإذا حدث فإنه يتم بمرح بشكل يومي من طرف آلاف الأشخاص. وإذا كان ذلك قد تراجع اليوم، فلأن الحاجيات تكاثرت. لم يعد يكفي الإنسان، ولا أقاربه، أن يعيش اليوم بيومه: إنه يتطلع إلى السكن اللائق، إلا أن لا يعاني الجوع، إلى تعليم أبنائه، إلخ. ووحده الاستقرار في العمل يمكنه إرضاء هذا الطموح. أما الذين لا عمل لهم، لخطئهم أو لسوء الحظ، فإنه يلقى بهم في أحضان البروليتاريا بأحياء الصفيح أو الأكواخ القذرة، الذين لا يستمرون في الحياة إلا بفضل مهن طفيلية، وبوجه خاص بفضل المعونات التي توزعها السلطات العمومية. بعد خضوعها لوقت طويل، فإن هذه الطبقة البئيسة أصبحت اليوم أقل خضوعا، كما يثبت ذلك انفجار مارس 1965، الذي تمخض عن ارتفاع مباغت في نسبة البطالة. على نحو مفارق، وبعدما كانوا أبطال الاستقرار في التناوب المرضي لليد العاملة خلال الخمسينيات، فإن رجال الهجرة المؤقتة لم
يعودوا يجرؤون على التخلي عن عمل لم تعد ضراوة المنافسة تترك لهم فرصة استرجاعه بعد عودتهم.. فكون « الكابورال « من قبيلة العامل، لم يعد يمثل ضمانة كافية: هناك أعداد متزايدة من المغاربة بين رؤساء العمال، وهم نادرا ما يكونون من الشلوح، بسبب تأخر هؤلاء في التعليم؛ وإذا كانت الروابط الدموية لا تزال تلعب دورا في التشغيل، فنادرا ما يكون ذلك لمصلحة الإثنية البربرية، و « فرق « العمال المعروفة من قبل، المتداولة بشكل كبير خلال الخمسينيات، يمكن القول بأنها انقرضت تدريجيا.
إذا كانت الأهمية النسبية لأرباح الهجرة قد تضخمت في الاقتصاد العائلي بالنسبة للتجار، إلى حد أنها جعلت منتوج الأرض غير معتد به، فإن العلاقة ليست مختلفة كثيرا بالنسبة للعامل. ونقف هنا عند ظاهرة ثنائية الاقتصاد، التي تطبع اقتصاد البلدان السائرة في طريق النمو، في تعايش اقتصاد عريق، لتحقيق البقاء، وترتبط به الفلاحة التقليدية، واقتصاد حديث، مستويات العيش فيه، مهما قلت عما هو معروف في الدول المتقدمة، لا يمكن مقارنته في كل الأحوال بمستويات عيش النوع الأول. فعامل منجمي في المغرب الشرقي، قبل خمس عشرة سنة، كان يتقاضى شهريا ما يوفره له عام من العمل في إطار عقد « الخماس « في الأراضي القاحلة بالمنطقة نفسها: أراضي الأطلس الصغير لا تحقق مردودا أفضل. وبما أن حياة العائلة، الحياة اللائقة حسب المعايير التي تفرضها الحاجيات الجديدة، تتوقف على العمل في الهجرة وعلى عمل ينبغي أن يكون متواصلا مخافة أن لا يكون، وهنا أيضا، كيف يمكن للهجرة الذكورية والمؤقتة أن تتحول إلى هجرة نهائية، عائلية إذن؟
إذا كان الدكاني السوسي يحلم، اليوم، لأبنائه بولوج « المدرسة العليا للتجارة «، فإن العامل الشلح يحلم لابنه بولوج « المدرسة الصناعية « أو الثانوية التقنية، ولن نجد مثل هذه المؤسسات في الأطلس الصغير. إنه يعرف خير المعرفة بأن راتبه، مهما ارتفع، نسبيا، مقارنة مع عامل يدوي أو عامل متخصص، سيبلغ ارتفاعا أقصى دائما مقارنة أجر العامل المؤهل أو، أكثر من ذلك، أجر التقني وأن الأخيرين، اللذين لا يزالان قلة في سوق الشغل، أجرهما يزيد دائما كما أنهما في مأمن من البطالة. إن الحساب الاقتصادي يتضح مع تطور مستوى العيش وتوطيد الاستقرار: فالعمال الشلوح، الذين ظلوا لفترة طويلة الأقل استقرارا والأكثر استبسالا في العمل وفي والتجارة في معظم الأحيان، ليسوا بالطبع آخر من يلج هذا المجال.
الاستقرار، المتابرة، الانقياد
إن التطور الذي عرفته كيفيات الهجرة يقود إلى طرح صنفين من المشاكل. الصنف الأول يتعلق بتكيف البرابرة مع المجتمع الحديث الذي هو بصدد التكون في المدن، والصنف الثاني يتعلق باندماجهم في المجتمع الشمولي الذي يبدو أنهم يشكلون ضمنه، عند النظرة الأولى، عنصرا هامشيا.
ولم يكن المشغلون الأوروبيون، أرباب عمل أو رؤساء عمال، يخفون، كما رأينا ذلك، تفضيلهم للعمال الشلوح. والحقيقة أن هذا التقدير كان يهم ميزات أخلاقية بالدرجة الأولى: الاستقرار، الانضباط، المثابرة، الانقياد. لم يكن ذلك يعني أن الشلوح أفضل من غيرهم: لقد تخلصوا، بفضل الهجرة المؤقتة، من تهدم بنيات كان يعرفه أتباع الهجرة النهائية. فبينما كان هؤلاء ينفصلون، فجأة، عن بنيات اجتماعية تقليدية، يجدون أنفسهم عرضة لكل إغراءات الفردانية دون أن يكونوا مشروطين بأخلاقيات ملائمة، فالأولون، الذين كان وسطهم الأصلي لا يقوم سوى ب « إعارتهم « للمدينة الكبيرة لفترة محدودة، ظلوا مندمجين في هذا الوسط ومخلصين للقيم التي رسختها فيهم التربية والعادات. لذلك، فإن أضرار الاجتثاث عليهم لم يكن بنفس خطورتها على الآخرين.
إلا أن هذه الميزة تسطر في الوقت نفسه حدود تكيفهم مع المدينة الحديثة. ومما لا شك فيه أن هذا التكيف لا يمكنه التحقق كلية إلا على حساب تهدم حقيقي للبنيات، بكل العواقب التي يتضمنها ذلك. فلكي يولد الرجل الجديد، ينبغي أن يموت الرجل القديم. ورغم كل مميزاتهم، فإن العمال الشلوح لم يكونوا ضمن أرستقراطية العمل التي يشكلها « العمال المؤهلون « أو « العمال المحترفون «. كان ذلك يتطلب تكوينا وتجربة يمنعهم منها نمط هجرتهم: لم يكن بالإمكان تشغيل هذه النخبة من المدينيين المتناوبين.
كان نجاح التجار، بدوره، في ميدان تقليدي، ميدان التجارة، حيث كانت برعت بورجوازية مكة في عهد الرسول، والتي لا تزال تحكمها بورجوازية فاس من خلال سلالات ترجع إلى القرن الثالث عشر. والمشكل الذي يُطرح على كل البلدان السائرة في طريق النمو، على الأقل في حالة عدم تبنيها « الخيار الاشتراكي «، هو معرفة إذا ما كانت ستنبثق من أحضانهم طبقة مقاولين رأسماليين كانوا يتكونون من الصناع التقليديين، الأنانيين إلا أنهم يتميزون بالفعالية، منذ الانطلاقة الصناعية للغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لقد كان كبار التجار الفاسيين معينين بتوسع رساميلهم وتأثيرهم في المجتمع للقيام بهذا الدور. إنه واقع لم يكونوا يرغبون فيه أو يعرفونه. وباستثناءات نادرة، فقد ترددوا أمام الاستثمار على المدى البعيد الذي تتطلبه الصناعة، مفضلين عليه الاستثمار على المدى القصير، وهو الاستثمار في التجارة، من حيث كانوا يكونون ثرواتهم.
هل سيغطي السوسيون قصور منافسيهم؟ يمكن أن نعتقد ذلك للحظة حين يفكر، خلال السنوات التي تلت الحصول على الاستقلال، شخص فذ، بربري من الأطلس الكبير، الحسين الدمناتي، الذي كان يوجد على رأس العديد من المعاملات الضخمة، في خلق بنك للاستثمارات الصناعية. لجأت الحكومة، التي كان يهيمن عليها آنذاك حزب الاستقلال، إلى الفيتو، إلا أن الاكتتابات التي تم تجميعها، وهي كثيرة، كانت تأتي كلها من البرابرة، التجار والفلاحين. وكانت الأسباب المعبر عنها رسميا تهم الماضي السياسي للدمناتي، المتهم بكونه اقترح، أيام الأزمة الوطنية، خلق جنسية مزدوجة، فرنسية وعربية، لرعايا البلدين. ولن نغامر أذا افترضنا أن البورجوازيين الفاسيين الكبار، المؤثرين جدا في حزب الاستقلال، لم يكونوا يرغبون في تشكل قوة مالية تنافس قوتهم، وكان بإمكانها، تحت إدارة قائد معروف بديناميكيته، تهديد هيمنتهم في الاقتصاد وفي الدولة.
عدم المغامرة بالرأسمال
من المستحيل أن نعرف إذا ما كان النجاح سيحالف ذلك المشروع. الشيء الوحيد المؤكد هو أن طرحه لم يتجدد. لأن التجار السوسيين، والفاسيين أيضا، لم يشرعوا في المغامرة برساميلهم خارج المجلات التجارية التقليدية، الأراضي، العقار، الذهب، الحلي، المجالات التي كانت تحظى بثقتهم، إلا حين عملت الدولة، الليبيرالية رسميا مع ذلك، وأمام هذا النقص، على خلق بنك للتنمية الاقتصادية، كان مصدر رساميله أساسا دولاتيا أو أجنبيا، وخصصت منه نسبة 10 % لأسهم السوق المحلية، على أمل اجتذاب اكتتابات خصوصية مغربية: كان الفشل كبيرا إلى درجة أن مجموعات الممولين الأجنبية أخذت لحسابها نسبة 10 % نفسها. ولا يمكن أن نؤاخذ السوسييين على امتناعهم: بما أنهم جدد في عالم المعاملات الكبيرة، أقل تعليما، غرباء عن كواليس السياسية والمناصب الإدارية السامية، فإنه يمكن تفهمهم أكثر من الفاسيين. لكن، الآن وقد تخلصوا من عائق الهجرة المؤقتة، الآن وقد تعودوا على تدبير الرساميل الكبيرة، الآن وقد أصبح أبناؤهم يترددون على الثانويات والجامعات، هل سيتمكنون من ولوج الأرض المجهولة، أي الصناعة الحديثة؟ وحده المستقبل سيخبرنا بذلك، إلا أنه تأخر والتاريخ لا يدق مرتين، بخلاف ساعي البريد. إن مشكل الاندماج في المجتمع الشمولي لا يُطرح على المستوى السياسي، على الأقل إذا ما لمحنا من هذا إلى فرضية انفصال بربري. فهذا غير مطروح في الوقت الراهن، ولم يسبق له أن كان مطروحا. ربما توجد كردستان ولن توجد أبدا « بربرستان «، سواء في المغرب أو في الجزائر - كانت هناك ثورات في البلاد البربرية في المغرب، بعد الاستقلال ( الريف والأطلس المتوسط). إلا أن إرنست غيلنر أوضح بطريقة ملائمة أن تلك الثورات لم تكن تعبر عن تطلعات انفصالية، بل كانت تعبر عن عكس ذلك، عن الرغبة في الاندماج الكلي في الدولة الموحِدة وأن يصبحوا فيها مواطنين يتمتعون بكامل المواطنة. إن ما يميز الشلوح عن غيرهم من المغاربة، هو اللغة لا غير، وهي لغة لا يتكلمها الآخرون، في حين نجد أن الشلوح المهاجرين يتكلمون العربية بالضرورة. أما الأصلية القانونية، فقد امحت عمليا، منذ أن تم توحيد التشريع المغربي وتم إبطال العرف البربري. وهذا التدبير نفسه، الذي أثار هيجانات بين ألأمازيغيين، هل حظي بالقبول بسهولة من قبل الشلوح، الذين لم يربك عاداتهم وتقاليدهم بشكل كبير، كان مطبوعا بالشرع منذ القديم.
إلا أن هذه الشخصية اللسانية طورت لديهم التضامن إلى أبعد حدوده، مع العلم أنها ليست هي الوحيدة التي تفسره: ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار كذلك الصلابة المحفوظة لديهم بفعل البنيات القبلية، التي عانت، لمدة طويلة عند الناطقين بالعربية، من الهجرات والاختلاطات والهجمات التي كان يشنها المخزن. لقد رأينا الطابع العشيري والقبلي، أحيانا، للمؤسسات التجارية: لا نعرف في الدار البيضاء أي مثال لأية جمعية بين الشلوح وغير الشلوح. وكان تشغيل « فرق « العمال يخضع للقوى نفسها. ومع ذلك فهو تضامن يتجاوز الإطار القبلي ليشمل كل الذين يتكلمون تاشلحيت. و يتعلق الأمر هنا، بالطبع، بسلوك أقلية، عليها أن تقاوم لكي تفرض نفسها وهي تعي أن التضامن هو شرط النجاح. والانفعال الذي أثاره، قبل خمسين سنة « الظهير البربري « ( ونحن نعلم أنه شكل نقطة انطلاق الحركة الوطنية في المغرب ) لا ينبغي أن يقنع الاحتقار المحجوب، إلا أنه مؤكد، الذي تعرض له البرابرة منذ القدم من طرف المدنيين ولا سيما البورجوازيين: احتقار على المستوى الديني، أولا، للمسلمين الذين لا يتبعون الشريعة ولا يمكنهم بالتالي أن يكونوا مسلمين صالحين؛ احتقار (مختلط بالخوف ) لأناس أهانوا، طوال مدة، سلطة السلطان، أمير المؤمنين ورمز الوحدة الوطنية؛ احتقار أتباع لغة الضاد، وهي أيضا اللغة التي اصطفاها الله لكشف الحقيقة للبشر، تجاه لسان قوم يعتبر» بربريا « ( بمعنى همجي هنا / م ) وعاجزا عن حمل ثقافة. هذا المناخ غير الحقود، بالتأكيد، إلا أنه غير مفيد، لم يكن له سوى أن يقوي وحدة أولئك الذين عانوا منه جميعهم. إن خلافات الجماعات أو المناطق، التي تقسم في الغالب البرابرة عن بلد الولادة، قد امحت أو اختفت في الهجرة، بمقتضى قاعدة تريد أن يكون الخصم المشترك هو خير موحد. نضيف إلى ذلك بأن النجاح التجاري للسوسيين، النجاح الذي كان يهدد الإمبراطورية المركنتيلية لبورجوازية فاس، ما كان له سوى أن يشحذ العداوة ضد هذه الأخيرة ويقوي وحدة الأوليين.
وقد عبرت هذه الوحدة أو هذه الإقليمية عن نفسها، خلال مدة، على المستوى الديني. ليس بالتأكيد لأن إيمان الشلوح يبتعد في شيء معين عن الأورثودوكسية السنية المالكية: اختفى عندهم أي أثر لمذهب الخارجي منذ قرون، بخلاف ما حدث عند المرابطين في الجزائر أو سكان جربة في تونس. إلا أن الطوائف الدينية التي كانت تحظى بمحاباتهم لم تكن هي نفسها بالنسبة للناطقين بالعربية؛ أولياء سوس كانوا يمارسون عليهم دائما، في الهجرة، نوعا من السلطة الأخلاقية والدينية وتحصيل العشر التقليدي.
إن الطوائف ونزعة الأولياء تعرف انحطاطا واضحا في مجموع البلاد، حتى تتمكن هذه الإقليمية من أن يحصل النظر إليها على أنها دالة. ويبدو لنا أكثر أهمية سلوك البرابرة في الجنوب تجاه تلك الطوائف الحديثة التي هي الأحزاب السياسية. دون العودة إلى فترة الحماية (التي كانت للشلوح مكانتهم في النضال الوطني ضدها، إلا أن دورهم كان أقل بروزا من دور الريفيين أو الأمازيغيين)، وتساعدنا الانتخابات التي نُظمت منذ عشر سنوات في تكوين فكرة حول السلوك السياسي لمهاجرينا.
تصويت السوسيين
لنسجل أولا الطابع السلبي. يوجد في المغرب، حزب، « الحركة الشعبية «، يتمتع باهتمام خاص في بلاد البربر. إلا أن هذا الاهتمام ينحصر حيث توجد لغتا تامزيغت والريفية ويبدو أنه غير مهم عند الشلوح. ما يؤكد مرة أخرى، إذا كانت هناك حاجة إلى هذا التأكيد، أن الإحساس ب « الوطنية البربرية « غير موجود على الإطلاق في المغرب، وأن مظاهر التضامن التي تؤسس إقليمية لا تتجاوز الإطار الديني أو الإطار اللهجي في كل الأحوال.
من الصعب أن نعرف لمن صوت السوسيون في انتخابات غرفة الممثلين خلال شهر ماي 1963 : إن نجاح مرشحي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( ستة منتخبين من بين عشرة ) يغطي دوائر متنافرة ومتعددة، حيث لم يكن الشلوح أقلية فقط، بل كانوا مشتتين. إلا أن خارطة الانتخابات تبين لنا بأن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حصل على أحسن نتائجه، ليس فقط في المدن الصناعية المحاذية للمحيط الأطلسي، بل في إقليم أكادير، الذي يمتد حتى وديان الأطلس الصغير، وهي بالتحديد منطقة أقوى هجرة للعمال والتجار السوسيين. ونشك كثيرا في أن يكون السوسيون المتواجدون بالدار البيضاء، صوتوا بشكل مختلف عن السوسيين المتواجدين ببلد الولادة.
إن هذا غير مدهش من ناحية العمال. أما تصويت التجار فهو مفاجأة كبيرة. فهؤلاء الرجال الذين يتحركون في الرأسمالية كما يتحرك السمك في الماء، كان المفروض أن يكون لديهم ميول نحو البرنامج السياسي الذي يعلن انفتاحه الواضح على الاشتراكية. ومع ذلك فقد كان تصويتهم شبيه بتصويت مواطنيهم العمال، وكدليل على ذلك انتخابات 1960 في غرفة التجارة والصناعة، حيث ضمنوا نجاح مرشحي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين تم اختيارهم في الغالب من بينهم، ضد مرشحي الاتحاد المغربي للتجار، الصناع والصناع التقليديين، المعروفين بطاعتهم لحزب الاستقلال. إلا أن سلوكهم في الانتخابات نفسها، بعد ثلاث سنوات، غشت 1963، يوضح لنا حدود انخراطهم السياسي والدوافع الحقيقية التي جعلتهم يدعمون الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: قرر الأخير الامتناع وعدم تقديم مرشحين، باستثناء الأخيرة (شتنبر 1970) المتعاقبة لإصلاح دستور 1962، التي لم يتم تحليل نتائجها بعد بشكل دقيق حتى تتيح إمكانية إنجاز قراءة في إطار السوسيولوجيا السياسية.
لقد صوت التجار السوسيون بكثافة على مرشحي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (جبهة حكومية) لإفشال حزب الاستقلال. بل إننا رأينا من بين مرشحي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية منحدرين من الشلوح سبق أن ترشحوا سنة 1960 باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. إنها معارضة فريدة تفضل الاصطفاف إلى جانب الأغلبية على نجاح جناح معارض آخر ! ولا يتطلب الأمر أن نكون كتابا بارعين في العلوم السياسية لكي نفهم بأن الهدف الأساسي والدائم للتجار السوسيين هو أن يحاربوا، مهما كلف الثمن وبأية وسيلة كانت، منافسيهم الكبار، تجار فاس، الذين كن حزبهم هو حزب الاستقلال: إذا كانت أحسن طريقة للتغلب على حزب الاستقلال هي التصويت على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فلنصوت على الاتحاد، وإذا توارى الاتحاد... فلنصوت لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ! إذا كانت محفزات العمال سياسية أكثر، فإنه يمكننا أن نفترض بأن الروابط بين حزب الاستقلال وبورجوازية فاس الكبيرة، المؤثرة جدا في الطبقة الحاكمة، لا تعمل سوى على تقوية معارضتهم. بذلك، فتضامن وقومية الشلوح يبدو أنهما، فيما هو أساسي، ينتبهان إلى موقفهم السياسي.
إن الاستقبالية علم صعب ولم يتحول بعد إلى علم دقيق. لذلك لن نغامر بالتنبؤ بتطور مستقبلي للشلوح في الدار البيضاء وفي باقي المغرب. إلا أنه ليس ممنوعا، إذا قسنا الطريق الذي تم قطعه، أن نشير إلى الاتجاهات التي ترتسم.
بعدما ظلت لوقت طويل تمثل قاعدة بالنسبة لبرابرة الجنوب الغربي، فإن الهجرة الذكورية والمؤقتة تحفظ إلى أقصى حد العوامل التي تُبقي على أصالتهم: اللغة، القانون، العادات، البنيات العائلية والقبلية. إلا أن هذا النوع من الهجرة يفقد من مدى اتساعه يوما عن يوم، للأسباب الاقتصادية أساسا، التي سبق أن أشرنا إليها. إن الهجرة العائلية والنهائية، إذا تعممت، لا يمكنها سوى المحو التدريجي، ولو تم ببطء، لسمات ألأصالة وقوة الإقليمية. مؤكد أن الجيل الأول من المهاجرين سيحافظ عليهما سليمين، لكن، ماذا عن الجيل الثاني، والجيل الثالث؟
الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة وإلى الثانوية، الذين يتعلمون العربية الكلاسيكية، الذين يتكلمون العربية « الدارجة « في ساحة المدرسة، هل سيتكلمون البربرية فيما بعد؟ نعم، طالما تعلموها من أمهاتهم؟ لكن، هل ستكون الأمهات دائما بربريات؟ حاليا، كل سوسي مهاجر يفكر في الزواج، يبحث عن زوجة من بلد الولادة. وماذا سيفعل الذين سيولدون في الدار البيضاء؟
بالنسبة للشلوح المقيمين في الدار البيضاء، سيتراجع كون محور الوجود عن كونه قطعة الأرض القاحلة في الأطلس الصغير وبيت السلف الريفي، بل سيكون على نحو متزايد هو المتجر أو المستودع، الشغل المنتظم حيثما حظي بالتقدير، الشقة الثرية أو المتواضعة حيث يعيش حياته اليومية. إن الأقليات التي تقاوم لاكتساب مكانها تحت الشمس، تظل متضامنة بقوة. حيث يُكتسب المكان ويُتوج المجهود، كيف لا تفتر الروابط؟ إن الشلوح يقاومون بطريقة مسالمة، كما قاوم برابرة ثورات 1975 بعنف، ليس للانفصال، بل للاندماج الكلي في المجتمع الشمولي. إن المبادرات، التي لا تواجه هنا عراقيل رهيبة كعراقيل العرق والدين، هي المبادرات التي يُفرغها النجاح من علة وجودها ويفكك، في الوقت نفسه، القوى الخاصة التي تم الحصول عليها بفضلها. إن الحضارة الصناعية والحضرية التي تميز الأزمنة الحديثة، التي يمضي المغرب باتجاهها، ممهِدة ومستوعبة بشكل مرعب. إنها تسحق حتى أولئك الذين تلفظهم. ولن تلفظ البرابرة، الذين لديهم الكثير من المؤهلات للنجاح فيها. إلى أية عشريات أخرى، إذن، سنواصل الحديث عن شلوح الدار البيضاء، إذا لم يكن مثلما نتحدث اليوم عن « أفيرنيو « باريس أو عن اسكتلنديي لندن؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.