ظهر اسم الشهيد المهدي بن بركة إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد، حين قدم الإثنان مذكرة عن الحالة بالمغرب إلى الأممالمتحدة، التي كان يوجد مقرها في البداية بباريس. اعتقل المهدي في فبراير 1951، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في المنفى، ليطلق سراحه في أكتوبر 1954. لعب الرجل دوراً بارزاً في الاتصالات التي تمت مع عدد من الأوساط الفرنسية المساندة لاستقلال المغرب، لبحث إمكانية استقلال المغرب، موازاة مع حركة المقاومة التي انتشرت في عدد من المناطق بالمغرب. استطاع بن بركة أن يحافظ على عدة توازنات داخل حزب الاستقلال الذي عقد مؤتمراً في دجنبر 1955. انتخب رئيساً للمجلس الوطني الاستشاري بعد حصول المغرب على استقلاله. دخل المغرب منذ سنة 1956 منعطفاً جديداً، كان له الأثر على تشكل موازين القوى في مغرب ما بعد الاستقلال، وستعكس هذه التأثيرات على حزب الاستقلال أيضاً، الذي عرف مخاضاً استمر ثلاث سنوات، أدت إلى ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959. بين 1956 و 1959، كان المهدي بن بركة، محاضراً ومنظراً ومحدداً للخط السياسي للحزب، وإلى جانب عدد من المحاضرات التي ألقيت في مدن مغربية عدة، في صيف 1957 كان بن بركة وراء مشروع طريق الوحدة، الذي تكلف بإنجازه 12 ألف شاب، ويتعلق الأمر بشق طريق طوله 60 كلم. كان بن بركة تواقاً إلى الاستفادة من تجارب بعض الدول كالصين والاتحاد السوفياتي في توظيف طاقة الشباب من أجل تنفيذ مشاريع اقتصادية واجتماعية كبيرة. تأسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 6 شتنبر 1959، حين أعلن جزء من مكونات حزب الاستقلال، في 25 يناير 1959، عن تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، بعدما عز التعايش بين ما كان يعرف بالجناح اليساري داخل حزب الاستقلال والعناصر النقابية وجناح المقاومة، وبين أطراف أخرى داخل الحزب. وإذا كان الجناح النقابي وجناح المقاومة، قد دفعا باتجاه التصعيد، فإن المهدي بن بركة، حاول في البداية أن يجد توافقاً بين الأطراف جميعها، لكن يظهر أن الرجل اتخذ قراراً في يوليوز 1958، بتبني توجه النقابيين والمقاومين، ويبدو أن إفشال قيام حكومة استقلالية في دجنبر 1958، كانت وراء اتخاذ قرار الانفصال عن حزب الاستقلال. حضر بن بركة بالقاهرة يوم 23 مارس، المؤتمر الثالث للشعوب الافريقية، وقام بجولة في الشرق الأوسط، مركزاً على تحرير الشعوب من الهيمنة الاستعمارية كان حضور المهدي بن بركة في القاهرة مناسبة لالتقاء مع محمد بن عبد الكريم الخطابي، ولعب الزعيم الاتحادي دوراً كبيراً إلى جانب عبد الله ابراهيم في تغيير عدد من مواقفه حول الاستقلال. عاد المهدي بن بركة إلى المغرب يوم 15 ماي 1962 وأنا آنذاك في السجن، حيث حكى لي إخواني في الكفاح أنه كان في استقباله في مطار الرباطسلا، المئات من مناضلي الحزب، واستقبلوه، ليس فقط كعضو القيادة الحزبية، بل أيضاً رمزاً من رموز مقاومة الاستعمار، واستقبال رجل أصبح له صيت عالمي. لكن انشغالات المهدي بن بركة والتزاماته الخارجية والصراع النقابي السياسي داخل الحزب حتمت عليه العودة إلى الخارج، كان ذلك يوم 15 يونيو 1963. عرج على بيت عبد الرحيم بوعبيد ليودعه قبل سفره، وكان هذا آخر سفر له قبل اغتياله في سنة 1965. أما المرحوم محمد الفقيه البصري الذي عاشرته إلى أن التحق بجوار ربه، هو اسم كان على لسان جل المغاربة على امتداد عقود من الزمن، لا يمكن الحديث عن التاريخ السياسي والنضالي بالمغرب دون ذكر محمد الفقيه البصري. إنه المقاوم ورجل السياسة، كان يمتلك جملة من أسرار تاريخ مغرب الاستقلال. إنه اسم كبير في سجل الحركة الوطنية بالمغرب، تحدى كل العواطف وكل الإكراهات والضغوطات ولم يقبل أي مساومة، ولم تثنه الاعتقالات والأحكام الغيابية عن مسيرته الكفاحية، ولم ينل منه التعذيب ولا الحكم بالإعدام ولا الغربة ولا النفي القسري. ظلت مسيرته مليئة بالمواقف ذات البعد المغاربي والقومي والتحرري. قضى 30 سنة في المنفى، وكان ذاكرة من تفاصيل الكفاح، وبذلك شكل اسماً من أسماء التجربة الكفاحية المغربية. كان مقتنعاً حتى النخاع بضرورة أن تكون الدولة في خدمة المجتمع وليس العكس. ومحمد الفقيه البصري انخرط في المقاومة منذ ريعان شبابه، واجه ذنب الاستعمار الباشا التهامي الكلاوي بمراكش وصعد إلى الجبل للمقاومة بعد عزل الملك محمد الخامس ونفيه إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر. اعتقل سنة 1954 واقتيد إلى السجن المركزي بمدينة القنيطرة لإعدامه، إلا أنه تمكن من الفرار رفقة ثلة من رفاقه. عمل على إقناع جيش التحرير بالشمال بالاستمرار في المقاومة حتى جلاء آخر جندي فرنسي أو إسباني وتحرير الصحراء وموريتانيا لاستكمال الوحدة الترابية للبلاد ودعم الثورة الجزائرية المسلحة إلى أن تحقق استقلالها كشرط لتحقيق وحدة المغرب العربي. بعد الاستقلال، الذي لم يرض عنه محمد الفقيه البصري، الذي قال لرفاقه آنذاك سيرجعنا الاستقلال، كما أبرم إلى السجن. وجاءت مرحلة أوفقير وأحرضان السوداء التي سعت إلى تفكيك جيش التحرير مصحوبة بالتصفيات الجسدية وإيداع المقاومين ورموزه بالسجون والمعتقلات السرية. آنذاك اضطر محمد الفقيه البصري إلى ترك المغرب، وكان ذلك سنة 1966، حيث توجه إلى باريس، ثم انتقل إلى دمشق والجزائر وليبيا وغيرها. الفقيه البصري لا أحد يجادل في مكانته بين أقطاب جيش التحرير المكون من مجموع الحركات الوطنية الفدائية هو من صفوف المكافحين والمجاهدين والممثلين الحقيقيين لأفراد الحركات الوطنية الفدائية في داخل البلاد، بعد أن فشلت الرجعية الفاسدة فيما تدعيه وأعمت المنفعة الشخصية المستعمرين وأعوانهم من الخونة وأعمت بالأحرى عن رؤية الحق. وقد أعلن الفقيه محمد البصري للعالم أجمع عن أهدافنا الحقيقية: أولا الكفاح حتى النهاية في سبيل الاستقلال التام لأقطار المغرب العربي، مع عودة الملك الشرعي إلى عرشه بالرباط، عدم التقيد بأي اتفاقات عقدت أوتعقد مستقبلا لا تحقق الهدف الأول كاملا، اعتبار كل مواطن ينادي بخلاف ما ذكر خارجاً عن ما أجمعت عليه البلاد والحركات الوطنية الفدائية ومثل هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم وكفى البلاد ما قاسته من مفاسدهم.. هذا ما عرفته عن إخواني وأصدقائي الذين عاشرتهم. ولا يمكن للمقاوم محمد بن حمو أن يعرض على أنظار القراء مزايا كبيرة لزعماء كبار ويستثني من كتاباته عرضاً عن حياة الذي يسعى لتبييض تاريخه الأسود، سواء عندما شارك في قمع الانتفاضة التونسية، حين كان ضابطاً في الجيش الفرنسي أو سواء ضد الشعب المغربي، حين كان يتقلد عدداً من المناصب الحساسة. أحرضان بعمله هذا، وأنا أعلن من هذا المنبر، بل أصيح بأعلى صوتي وأهتف أيها الاشتراكيون أيها الاستقلاليون كفاكم صمتاً. أيها الاشتراكيون أيها الاستقلاليون إن أحرضان يعلن عليكم حرباً أيتها الفئة القليلة الباقية على قيد الحياة من المقاومين وأعضاء جيش التحرير لقد فر ضابط من ضباط الاستعمار واختفى ببلادنا طوال هذه العقود من السنين، والآن قد ظهر من أجل قلب حقائق تاريخ مقاومتكم. إن ضابط الاستعمار يصف الشهيد المهدي بنبركة ب «القاتل» و «الخائن»، بينما يصف زعيم جيش التحرير الفقيه البصري ب «الانتهازي». إنه يصف أن كل من شاركوا في لقاء «إيكس ليبان» مجرد خونة. أيها الضابط الاستعماري الانتهازي «أية انتهازية» في سلوك الفقيه البصري، أية تجليات مادية لهذه «الخيانة» في سلوك المهدي بن بركة. أي وقائع تؤكد على أن المهدي بن بركة «قاتل». ألا تتحركوا في ظل حقوق الإنسان ولحماية الإنسان، أم الإنسان إذا مات تجرد من جميع الحقوق ولو اتهم في كرامته وشرفه؟ أيها السياسيون.. أيها المؤخون.. يا نواب الأمة.. يا أعضاء الحكومة.. إن كلمة التماسيح، وإن اتهامات السيد رئيس الحكومة بتهريب الأموال إلى الخارج هي أسهل بكثير وأبسط مما نتصور من الوصف بالخيانة.. إنه وصف جُرمي يقتضي من الواصف أن يقدم وقائع الجريمة، متى تمت؟ وكيف تمت؟ وبأي وسيلة تمت؟ وإلا يحاكم مهما كان سنه. في كتابه «صديقنا الملك» ينقل جيل بيرو عن مصادره أن الحسن الثاني بعث بوسيط إلى الفقيه البصري يعرض عليه أن يكون حاكماً على المنطقة الجنوبية نظير تخليه عن السلاح، ولكن الفقيه البصري رفض المُساومة على قناعاته، قبل أن يُعتقل رفقة عمر بنجلون ومومن الديوري، حيث سيواجهون نار جهنم على يد أوفقير ب «دار المقري»، ليفرج عنهم لاحقاً الملك الحسن الثاني بعد أحداث 1965، فهل مثل الفقيه البصري يوصف ب «الانتهازي»؟ وفي سنة 1962، وبشقة بحي أكدال بالرباط، رتب مومن الديوري، ابن المقاوم محمد الديوري، لقاء سرياً، جمع المهدي بنبركة ب «شيخ العرب»، فيما ظل مومن في فناء الشقة ينتظر ما سيسفر عنه اللقاء، الذي لم يدم طويلا بين الرجلين، بعد أن أبدى «شيخ العرب» صرامة حادة في الدفاع عن فكرة ضرورة إزاحة الحسن الثاني من العرش لبناء الديمقراطية، فيما دافع بنبركة بقوة عن أهمية الملكية في المغرب، مشيراً إلى أن المطلوب فقط هو تقويم سلوك الحسن الثاني في اتجاه ترسيخ الديمقراطية ما جعل «شيخ العرب» يقول لمومن الديوري وهو يهِمُّ بمغادرة الشقة «هاذ صاحبك باغي غير السلطة ولا يُرجى منه خيراً»، فيما قال بنبركة لمومن بعد مغادرة «شيخ العرب» «هاذ صاحبك انتحاري ولا يفهم في السياسة»، وهذه رواية نقلها إلى «إنصاف» صديق حميم لمومن ظل يلازمه إلى آخر لحظة من حياته، فهل يكون بنبركة بهذا «خائن»؟ أما بيير جولي، ممثل فرنسا في مؤتمر «إكس ليبان» وكان وزيراً مكلفاً بالعلاقات المغربية التونسية، فينفي في مذكراته، أن يكون حزب «الاستقلال» قد تآمر على الملكية خلال ذلك المؤتمر. إذا كان أحرضان يريد فتح صفحات بنبركة ليصفه ب «القاتل»، فقد يدفع هذا بالبعض إلى التساؤل عما يمنعه من الكشف عن «قاتل» بنبركة، وهو الذي كان وزيراً للدفاع وعاملا على مدينة الرباط؟ فهل من تقلد مثل هذه المناصب وعاش كل هذه الأحداث تخفى عليه حقيقة «مقتل» بنبركة وحقيقة عملية محاولة «اغتيال» ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، والتي كلفت أطر وقيادات وقواعد «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» فترات من «التعذيب والتنكيل والترهيب»، وكل ذلك في سبيل أن يُفوت الحسن الثاني على الاتحاديين فرصة اكتساح الانتخابات البلدية لسنة 1960» بحسب كتاب «صديقنا الملك». إذن لماذا لم يذكر أحرضان كل هذه الحقائق؟ ولماذا قفز على انتفاضة الريف سنة 1959، وعلى حكومة عبد الله ابراهيم التي لم يقل في حقها كلمة واحدة رغم كون الانقلاب عليها يعد أخطر حادثة سير سياسية عرفها مغرب ما بعد الاستقلال؟ وحادثة انقلاب حكومة رئيس الحكومة مولاي عبد الله ابراهيم تسبب فيها أحرضان. الخائن الحقيقي هو من خان الشعب وطموحاته المشروعة في العيش بكرامة وحرية وصمت على العديد من الفظائع التي كان شاهداً عليها على الأقل، إن لم نقل طرفاً فيها؟ وهل يمكن لمن كان أداة بيد الداخلية في تزوير الانتخابات والبطش بالمواطنين ليس خائناً أليس «الخائن» هو من يتستر اليوم على ذكر اسم المشرف على اغتيال عباس المسعدي؟ أليس «الخائن» هو من اصطف إلى جانب «أوفقير» حين كان رصاصه يمطر أحياء الدارالبيضاء سنة 1965؟ * أحد مؤسسي المقاومة وجيش التحرير وعضو المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير وأحد مؤسسي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان