هو بكل المقاييس «جحيم»، وليس أصعب من أن تفكر في ولوجه، لأنه وأنت تترجل وسطه، رفقة أحد أفراد أسرتك، قد ترى ما لم تشاهده عين، وقد تسمع ما لم تسمعه أذن. مخدرات وفوضى وتسيب ومشاجرات غالبا ما تكون دامية... الفحم يباع مع السمك واللحم، والخبز مع القهوة والسواك. والله وحده يعلم المآل الذي قد تجد نفسك فيه وانت تحاول انتقاء الطماطم... إنه سوق سانية الرمل كانت عقارب الساعة تشير إلى حوالي العاشرة صباحا، وكان اليوم سبتا، مشمسا، وكنت كمن لو كان يتأهب لخوض معركة.. لقد قررت ذات يوم، أن لا ألج هذا السوق الذي شاءت الأقدار أن أقطن على بعد بضعة خطوات منه. لم يكن أمامي، سوى أن أتقمص شخصية رجل صبور، لتفادي الوقوع فيما كنت وقعت به ذات سبت بينما كنت أتبضع رفقة أحد الأصدقاء. لقد كدت أدخل في شجار مع أحد بائعي الخضر، الذي لم أتفطن إلى كونه من بين أبرز العاملين بالسوق، المتعاطين لمخدر الهيروين. ولولا يقظة الصديق، لكان التلاسن الذي دار بيننا، قد تحول إلى شيء آخر لا قدر الله. تبضع الخوف انطلقت من البيت مترجلا، متقمصا دور المتبضع، آملا في التنقل بين مختلف أزقة ومواقع السوق، دون أن يصادفني أي مشكل. سيما وأن الأمر يتعلق بتجمع لمختلف صنوف التجار، والمعروضات، فمن سمك على قارعة الطريق، مرورا بخبز ببعض أركان السوق المعروفة، وصولا إلى الخضروات والفواكه، ثم منتوجات مهربة من أسواق سبتة، منها من ثبت علميا أنه مضر بالصحة، وأنه يتسبب للأطفال على الخصوص، في سرطان الدماغ، كما هو الحال مثلا، لمبيد الحشرات المعروف عاميا بليون روخو، أي الأسد الأحمر. ومع هذا التنوع المستفز للمعروضات، قد تفقد أعصابك، وتجد نفسك أمام مواجهة، معنوية قد تجرك إلى مواجهة دامية. سوق للقيل والقال في الطريق إلى السوق، وعبر مدخل كنت اعتدت المرور منه لولوج السوق، تتسابق النسوة وهن يجرن وراءهن عربة صغيرة لاتقاء ثقل ما يشترينه من خضروات وماشابه. في الجانب الأيمن لمدخل السوق، وتحديدا بالقرب من رشاشة « السي أحمد»، انتصبت سيدتان تتبادلان أطراف الحديث إلى بعضهما البعض. صوتهما كان يصل أذن كل داخل إلى السوق. « المنكر هذا، ماطشا ب15 درهما» . قالت السيدة الأولى للثانية. كان رجل على الجهة المقابلة لموقفهما، يحلق ببصره ويردد بصوت خافت: « نسا داخر الزمان» . شدني المنظر، وفي محاولة مني لمعرفة سر النظرات الثاقبة التي كان يسلطها الرجل للسيدتين، قررت أن أستفسر عن أثمنة بعض المنتوجات البالية التي كانت تعرض على الطريق العمومي مباشرة، وتحديدا في ممر الشاحنات التي تدخل محملة بالخضروات إلى السوق، لتوزع على التجار. أردف الرجل يردد هذه المرة بصوت مرتفع: « والله يهديك أسعيدة، أنا عييت واقف» .أجابته قائلة: « صبر أنا ماجيا» . تبين لي أن الأمر يتعلق بزوج صاحب زوجته للتبضع من السوق، وإذا بالمطاف ينتهى به، ينتظر تحت حرارة الشمس انتهاءها من الحديث إلى إحدى صديقاتها التي التقتها.هو نفسه المشهد، يتكرر مع رواد سوق سانية الرمل، باستمرار، سيما السيدات اللائي يفضلن المجيء إلى السوق، للتبضع في المقام الأول. لكن؛ لإدراك مآرب أخرى، في المقام الثاني، لا بأس من أن تكون من قبيل استيقاء الأخبار، والترويج للقيل والقال والإشاعات. لسعة الطماطم مشهد ثان بينما أنا أتحرك بضع خطوات بنفس الموقع،سيدة تمد يدها لانتقاء الطماطم، وإذا بالتاجر يمسك بيدها ويزيحها مرددا في وجهها: «شري إذا غتشري» . لم يكد يكمل كلامه حتى فوجئ بزوج السيدة يرتمي عليه كما لو كان ثعبانا يوجه لسعة خاطفة إلى متحرش. رجل في حوالي ال45 من عمره، ينهار على بائع الطماطم بوابل من الشتائم والكلام الساقط. إنها زوجته التي كانت تصاحبه إلى السوق. لحسن الحظ لم تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، والفضل كل الفضل، يعود لرجلي أمن حضرا توا من مركز شرطة القرب، وفضا النزاع، فيما تمكنت الزوجة من الإختفاء عن الأنظار، ربما هربا من أن تفاجأ برد فعل من زوجها أمام العام من الناس. «فانكا طريا» « ها فانكا طريا» يتعالى صوت من بعيد مروجا لمعروضه الذي هو عبارة عن سمك، مكسو بكمية من الثلج. شاب في حوالي ال30 من عمره، يمسك بيده اليمنى سيجارة، فيما يمسك بيده الثانية سمكة تلو أخرى ويرصها في صف، ثم ينادي على مسامع المارة من عامة الناس» فا نكا طريا أعباد الله، اللخري يبقا بلاشي» . في سوق سانية الرمل يختلط الذباب بالبعوض والعنكبوت، وتغدو الفواكه والخضروات وعموم المنتوجات المعروضة للبيع، عبارة عن مرتع لعموم صنوف الباكتريا والميكروبات، حتى الفحم يباع أمام بائع السمك والدجاج واللحم. الكل في سوق سانية الرمل يجمع على رداءة الظروف التي تعرض فيها هذه المواد للبيع، السلطات العمومية نفسها تؤكد خطورة الوضع، جمعيات المستهلك لا تتردد في إصدار بيانات وبلاغات، ومراسلات توجهها إلى عموم المتدخلين من حيث المسؤولية في العشوائية التي يتميز بها هذا السوق. التسيب والفوضى والإرتزاق التجار أنفسهم ومن خلال جمعيتهم تعبوا من المطالبة بضرورة إرغام الباعة الجائلين على التخلي عن احتلال الملك العام، واحترام التجار المتواجدين بداخل مبنى السوق نظير أنهم يؤدون لفائدة البلدية الرسوم الضريبية.. لكن؛ على الرغم من ذلك كله، فالسوق يوميا يفرخ تجارا جددا يحتلون الملك العام، وقد انتقلوا إلى احتلال أبواب منازل السكان وحتى باب مسجد الأمة ومحيطه. صراع خفي يدور بين رغبة حثيثة في التنظيم يمثلها سكان الحي إلى جانب جمعية التجار، وبين قوة تشجع على استمرار الفوضى والتسيب. « صراحة، خبزنا مع هؤلاء الباعة المحتلين للملك، العام»، يقول أحد أعوان السلطة في لقاء مباشر معي،» في غياب إرادة حقيقية لتنظيم السوق لا يمكن وقف هذا الزحف، لقد وصل تعداد التجار المحتلين للملك العام خمس مرات، عدد نظرائهم المتمركزين داخل السوق البلدي»، يشير المصدر الذي استحلفني بالله على أن لا أذكر هويته في هذا الروبورطاج،» الكل يقتات على انتشار هؤلاء الباعة غير المنظمين... الغربة في الوطن كنت أعلم بكون السكان كانوا قد انتظموا في إطار لمواجهة الظاهرة، ولذلك كان علي أن أطرق باب « خاي علي» وهو أحد أقدم تجار الخضروات والفواكه بالسوق، وعضو مكتب جمعية تجار السوق البلدي، لأنصت إليه أولا بخصوص وضعية السوق، وليطلب لي، أحد أعضاء جمعية السكان ويدعى اسماعيل، كنت التقيته ذات مرة، وتناقشنا بخصوص هذه المعضلة. لم تمض سوى بضع دقائق حتى كان الأخير أمامي يتأبط ملفا، أحمر اللون، كان يحوي مجموعة من الوثائق، والشكايات والمراسلات بخصوص الفوضى بالسوق التي تضر براحة السكان وصحتهم. بعد أن صافحني حاولت أن أسخر منه بالقول: « هل غيرت وظيفة التعليم وأصبحت عدلا؟» .. ابتسم في وجهي ضاحكا وقال: « بدأت أحس بالغربة في وطني، لم نترك مصلحة او مسؤولا إلا وطرحنا عليه مشكل السوق، والأزبال وإقلاق راحة السكان، وحتى الموتى لم نعد نجرؤ على حملهم جراء انفجار ظاهرة احتلال الأبواب والأزقة، واكتساح الأزبال، وتعالي الأصوات...إلخ. ومع كل شكاية، يولد العشرات من المحتلين للأرصفة، ومعهم تتكاثر الأصوات وتتعالى، ويمكنك أن تسمع ما لم يخطر ببالك، أمام أفراد من أسرتك» . جحيم سانية الرمل قاطعه علي وقال: إن هؤلاء الباعة أصبحوا يشكلون طوقا بشريا خانقا أمام أبواب المنازل والمحلات التجارية، قاطعين بذلك جميع المنافذ والطرق، بشكل نهائي، وضاربين حصارا حقيقيا على السكان داخل المنازل، بحيث لا يستطيعون الخروج أو الدخول إلا بشق الأنفس. و منذ زمن غير بعيد كان السكان يتعايشون مع هؤلاء الباعة لاعتبارات إنسانية نظرا لقلة عددهم، وكانت السلطات آنداك تقوم بين الفينة والأخرى بحملات لإعادة فرض النظام وفتح الطرق، إلا أن سياسة غض الطرف التي أصبحت تنتهجها السلطات المحلية جعلت هؤلاء الباعة يتكاثر عددهم بشكل سريع ومهول، وأدى تموقعهم وسط الطرق إلى حالة من الفوضى، متجاهلين بذلك المعاناة اليومية لسكان الحي بأكمله، وبالتالي ممارسة حقهم الطبيعي في استخدام طرقه وأرصفته للتنقل فيه بحرية وبدون عراقيل، وبذلك فهم يعيشون جحيما يوميا، أفضل أن أسميه، جحيم سانية الرمل» . عزلة السكان « عليك خاي علي، أن لا تنسى أنه على امتداد شارع محمد المرير ابتداء من طريق مرتيل ووصولا إلى شارع الجيش الملكي مقطوعة طوال اليوم»، يقول اسماعيل،» كما أن شارع علي بن ريسون والمنفلوطي والأزقة المتفرقة منهما مقطوعة أيضا وهو الأمر الذي جعل السكان يعيشون في عزلة تامة عن الخدمات الضرورية التي يحتاجها أي مواطن يعيش داخل المدار الحضري. والتي يمكن تلخيصها في تعذر تقديم خدمات الإسعاف: ففي حالة وجود حالة مرض مستعجلة غالبا ما يتعذر وصول سيارة الإنجاد والطوارئ. ثم إن خدمات الإطفاء والوقاية المدنية»، يشير اسماعيل،» في حالة نشوب حرائق أو وقوع كوارث لا قدر الله فإن سيارتها يتعذر وصولها إلى مكان الحادث. أضف إلى ذلك حاجة التلاميذ اليومية إلى الطريق للالتحاق بإعدادية مولاي الحسن ومدرسة أبي الحسن الشاذلي وثانوية الإمام الغزالي ومدرسة لسان الدين ابن الخطيب. ومؤسسات تعليمية خاصة، وسط الطريق التي ينتشر بها الباعة المتجولون وما يشكله ذلك من مضايقات بالنسبة للتلميذات لكي يصلن إلى مدارسهن، بالإضافة إلى أن منهن من يتعرضن دائما لشتى أنواع المعاكسات والمضايقات من قبل الباعة المنتشرين في الطرق، بتلفظ كلام ساقط على مسمع من المتبضعين» . ضجيج السيارات الوضعية، تستدعي الإنتباه إلى تعداد المتبضعين الذين يصلون السوق، بواسطة سياراتهم الخاصة، لتصور حجم الكارثة التي يخلفها وراءهم الباعة المحتلون للشارع العام. فشارع التهامي الوزاني الرابط بين طريق مارتيل وشارع الجيش الملكي، وهو شارع رئيسي، يعتبر موقفا غير مباشر للسيارات الوافدة على السوق رغم وجود إشارات كثيرة على جانب الطريق لمنع وقوفها . الشيء الذي تترتب عنه عرقلة يومية تتسبب في استعمال منبهات السيارات بشكل جنوني محدثة إزعاجا كبيرا للسكان في غياب من يسهر على النظام والأمن الطرقي، الشيء الذي كان ولايزال سببا في وقوع حوادث كثيرة. جهات نافذة وراء الفوضى السكان يحملون المسؤولية فيما يقع إلى من يسمونهم ب»لوبي تجار الخضر والفواكه والسمك داخل السوق» ويشيرون إلى أن هناك «جهات نافذة تواطأت مع هؤلاء التجار وأعطتهم الضوء الأخضر للاستيلاء على الأملاك العمومية حيث تمكنوا من إنشاء أسطول من العربات المصفحة يتم توزيعها وسط الطرق وعلى الأرصفة» . بالإضافة إلى بروز ظاهرة جديدة تتمثل في المخابز المتنقلة وعربات التوابل وعربات أخرى لأنشطة تجارية متعددة. وبالموازاة مع كل هذا تنشط وتروج تجارة المخدرات بجميع أشكالها. الشيء الذي يجتذب معه كم هائل من المنحرفين والمدمنين واللصوص الذين أصبحوا يشكلون مصدر خطر حقيقي على أمن السكان وسلامتهم. أضف إلى ذلك المصادمات والمشاجرات اليومية التي تحصل للباعة فيما بينهم والتي تستدعي تدخل قوى الأمن عندما تكون دامية تستخدم فيها الأسلحة البيضاء كالسيوف والسكاكين وكيل الموزاين وتارة أخرى تفض بطرق سلمية. خلاصات الجولة؟! عدت من هذه الخرجة، وانا مقتنع تماما أن هذا السوق، هو فعلا كما وصفه لي عضو جمعية تجار السوق البلدي، جحيم. ولكنه إلى جانب ذلك، يمكن اعتباره بمثابة «مؤتمر» يومي تجتمع فيه كل صنوف الظواهر الخطرة، بل والنتنة أحيانا، والتي لا تزال تمسك بقبضتها على رقبة بعض أفراد المجتمع. فالنميمة هاهنا مكانها بسوق سانية الرمل/ جحيم سانية الرمل، والمخدرات بعموم صنوفها، والفوضى والتسيب والتحرش الجنسي، والميكروبات والباكتريا المضرة، والمهربات المسمومة، واحتلال الملك العام، وتبادل الشتائم والكلام الساقط، واللصوص، وعزلة السكان، ومحاصرة نقل المرضى والموتى.. أي مشهد هذا الذي يحويه هذا الجحيم؟؟