عن المركز الثقافي بالدار البيضاء، صدر مؤخراً للباحث السميائي المغربي الدكتور سعيد بَنْكْرَاد كتاب بِأَلَقٍ جديد اختار له عنوان: وهَجُ المَعَانِي، سميائيات الأنساق الثقافية، (2013). ويُشكِّلُ هذا الكتاب الذي يقع في مائتين وأربعين صفحةً (240) من الحجم المتوسط حدثاً علمياً بامتياز، خاصة وأنّ صاحِبَهُ قد قام ب»سَمْيَأَةِ» مختلف الوقائع الإنسانية ( اللغة والمعتقد واللباس والجسد والإيماء والصورة...) التي تنتمي إلى المعيش اليومي، وفَكَّكَهَا وأَوَّلَهَا ونَسَّبها، ومن موقع وظيفة المثقف الملتزم بالمبدأ الإنساني، والمُدافع عن «فضاء عمومي أبيض» «فائضٍ» بِقِيم العدل والحق والحرية والخير والمساواة، والمُنْتمي حصراً إلى «الإنسان باعتباره قيمة في ذاته» (ص219). كل هذه الوقائع التي ترتكز على اللغة، وعلى باقي الأنساق الأخرى في مقدمتها النسق البصري، والتي تندرج ضمن الثقافة وممكناتها، وبالتالي في أفق كل سيرورة تنتج المعنى وتتلقاه وتتداوله، هي موضوع هذا الكتاب ومداره، وقد وضعها الباحث تحت مجهر سميائي «مُناضل» يُحِبُّ الحياة في امتلائها، دون تردد، وينتصر للإنسان في بُعده الكوني، دون مُوَاربَة. وللبرهنة على النزوع «الإنساني» لهذا الكتاب، وتقديم الحُجج على الطبيعة «النضالية» الذي يمارسها الباحث السميائي وهو يدافع عن الحداثة بما هي «اختيار حضاري وانتماء إلى إنسانية واحدة» (ص231-237) تكفي الإطلالة على مقدمته، والصبر على قراءة أبوابه الثلاثة، مُرصَّعةً بستة عشر مقالةٍ متضامنة ومتفاعلة، نَعْرِضُها على القارئ، على الشكل الآتي: * الباب الأول: حقائق الدين ونسبية الثقافة ( من ص 15 إلى ص81). ويحتوي هذا الباب على خمس مقالات: 1- الحجاب: حاجة دينية أم إكراه ذكوري؟ 2- «اليقين» و»اللباس الطائفي» 3- الخلاف والاختلاف، 4- يقينيات الذات والحوار مع الآخر5- «الحقيقة» المطلقة والفرقة الناجية. * الباب الثاني: واقعية الافتراض ووهم الحقيقة (من ص 97 إلى ص 163). وتتوزع هذا الباب ست مقالات: 1- الرقمية: سند محايد أم نمط ثقافي؟ 2- الأدب الرقمي: جماليات مستحيلة 3- أبطال للقمامة 4- الإشهار والقرصنة الفنية 5- «الحسي: الهوى والنشوة»: «وصفة في حب الوطن» 6- الصورة: الخبر والإحالات الرمزية. * الباب الثالث: اللغة والأحكام الثقافية ( من ص 181 إلى ص 230). ويضم هذا الباب خمس مقالات هي: 1- اللغة: بين الجوهر التجريدي وحسية الدارج 2- اللغة سجن النساء 3- «فصاحة المدرسة» و»عامية» المحيط 4- المثقف والسلطة: اختيارات المبدأ وإكراهات السياسة 5- الحداثة الكسيحة. وقد تضافرت هذه الأبواب جميعها لتحقيق غرض مركزي يتمثل في المساهمة، ومن مدخل البحث الأكاديمي، في بناء إنسان عربي جديد، وهو ينتج ثقافته ويصرفها في أنساق يشهد عليها معيشه اليومي، في جزئياته وتفاصيله، وحيث حقيقته وجوهر وجوده. وعليه، لم يدخر الباحث جُهداً، وعلى امتداد الكتاب، على نزع البداهة على مختلف الوقائع الإنسانية التي اشتغل عليها، وكَشْفِ الوجه النفعي المباشر لاستعمالاتها، سواء في اللغة أو المعتقد أو اللباس أو الجسد، أو الألوان، أو الأشكال، أو الألعاب، أو غيرها من الوقائع الإنسانية التي تبدو على هامش الحياة «الجادة»، وفي منأى عن اهتمامات الباحث الأكاديمي بأدواته الصارمة، ورؤيته «المتجهمة». ولنا في زمن طغيان الرقمية الحديثة المرعبة ودورها في مسخ وجداننا ووجودنا الإنساني أحسن الأدلة وأمضاها. «فنجوم كرة القدم لا ينتقلون من فريق إلى آخر بل يشترون ويباعون» في سوق النخاسة الجديدة، بلغة الباحث (ص138). إن القوة الضاربة لكتاب: وهج المعاني للأستاذ سعيد بنكراد وفرادته بالنظر إلى ما راكمه من كُتُب مُؤَسِّسَة في مجالها، تتمثل أولا، في كونه «صرخةُ» مثقفٍ نَقّادٍ يُعبِّرُ من خلاله عن مواقفه الفكرية، واختياراته الفلسفية اتجاه ما تلتقطه عينه السميائية من معيش الإنسان اليومي، وفي الفضاء العمومي، ويُنبِّهُ إلى أن بداهات هذا المعيش لا يمكن بحال أن يُنسينا «أن في المظهر النفعي للظواهر تَخْتَفِي الإيديولوجيا والأحكام المسبقة والتصنيفات الدينية والعرفية والطائفية» (ص10)، وثانياً، في كونه كتاب يسعى إلى بناء إنسان عربي ومغربي جديد، يُقْبِلُ على الحياة، ويتجدد معها في حرية وتلقائية، وضمن المتاح البشري. بعبارات أخرى، فإن الأستاذ بنكراد لا يكتب على بياض، ولكن يكتب من أجل قضية الإنسان وكرامته، رجلاً كان أم امرأة، من منطلق أن السميائيات عنده وسيلة «نضالية» لغاية إنسانية صرف، لا تقدم للناس حقائق جاهزة، بل تساعد فحسب على «تلمس الطريق الذي يمكن أن يقودنا إلى فهم أفضل لمحيطنا خارج المُسْبَقَات من جميع الأنواع، وخارج التصنيفات المسكوكة التي تشوش على الذات وتُحرمُها من اكتشاف المعاني في العلامات لا في ماديات المحيط (ص11). إنها فعالية نضالية لمحاصرة الجاهز، واستنطاق الظاهر، والتحرر من البداهات، وإكراهات اللغة والمجتمع وهُجنَة «التحديث القسري»، من أجل فهم أفضل للإنسان وهو يحيا حياته في محيطه، دون مسبقات، وخارج أي تصنيفات كيفما كانت، أو بعيداً عن يقينيات واهمة. لقد اختار الأستاذ بنكراد أن يبني المعاني في حرارتها وألقها «من خلال تفكيك ما يحضر في العين بشكل كلي» (ص10). وتلك مغامرة اختار الباحث أن يخوض فيها، وفي يده مصباح ديوجين Diogèneيستنطق تفاصيل حياة الإنسان العربي في واضحة النهار، بعيداً عن إكراهات «الحقيقة» الدينية، وفتاوى الفقهاء، وقريباً من نسبية الثقافة ومقتضياتها، وعينه في المبتدإ والمنتهى على «الإسهام في بناء إنسان جديد يعرف كيف يقرأ وكيف يعمل وكيف يستمع وكيف يرى في العلامات مدخلاً إلى عوالم أخرى غير ما يشير إليها ظاهرها» (ص11)، ذلك رهان من رهانات هذا الكتاب المتميز الذي يَصُبُّ في رَحَى المشروع السيميائي العام لسعيد بنكراد ويعضُدُه .