{ أستاذ سعيد بنكراد أنت باحث سميائي، وبحكم مجال تخصصك تقيم وزنا كبيرا للرموز والإشارات والمعاني الخفية في الأشكال، الدين مجال رمزي وإشاري أيضا، كيف يتعامل السيميائي مع الرموز الدينية؟ سؤالك هذا هو في الأصل صيغة لسؤال سابق عليه يمكن صياغته في الشكل التالي: هل هناك فواصل قطعية بين ما يصنف ضمن الطقوس الدينية وبين تجليات التجربة الفنية؟ تتعدد الأجوبة عن هذا السؤال وتتناقض فيما بينها في الكثير من الأحيان، لكن الثابت في التاريخ الإنساني أن «أشكال التدين» الأولى عبرت عن نفسها من خلال ممارسات رمزية متنوعة لم تكن في بداياتها الأولى سوى أشكال فنية من طبيعة «تصويرية». وهذا ما أثبته المتخصصون في عصور ما قبل التاريخ عامة، وفي الفن البليوليتيكي على وجه الخصوص، فقد «اسشعر» الإنسان القديم( أي «أحس» في داخله متعة مندفعة إلى الخارج فيما يشبه القصدية التي تستهدف موضوعا غير محدد المعالم) الحاجة إلى صنع تماثيل لعشتار وإنانا وارتميس وغيرها من الآلهة، وصنع الجرار الفخارية وضمنها الكثير من أحاسيسه وتصوراته للخصوبة والأمومة والعطاء؛ وربما يكون فعل ذلك رغبة منه في استعادة الرمزية الخاصة بجسد المرأة بكل نتوءاته. والشيء ذاته قام به عبدة الأوثان بعد ذلك، فقد كانوا في حاجة إلى «نحاتين» قادرين على «خلق» آلهة جديرة بالعبادة ( إن الذي صنع تماثيل قريش كان فنانا قبل أن يكون وثنيا). هذا أيضا ما أكدته التأملات الفلسفية اللاحقة، التي لم تر في النصوص الدينية كلها سوى «استعارة شاملة» حاول من خلالها الإنسان، منذ لحظات إدراكه الأولى لشرطه ككائن فان، تبرير الموت والقتل والتضحية، وحاول من خلالها أيضا تفسير الكثير من الظواهر السلوكية (روني جيرار). فكل الأشياء والكائنات التي التقطها الإنسان وفصلها عن محيطها ووجهها نحو استعمالات أخرى، وبث فيها المتعة واللذة والرهبة والتقديس، بما في ذلك الخطية الزمنية والإعداد الفضائي، هي كلها من طبيعة دينية في جانب منها، فقد نُظر إليها باعتبارها واسطة نحو عوالم موجودة في ما هو أبعد من الحس، البصري والسمعي، ولكنها فنية في جانب آخر، لأن هذه العوالم لا يمكن أن تدرك إلا من خلال تأمل «الماثل» أمام العين، و»الماثل» هنا بالمعنى الذي يعزل ويفصل الشيء عن بعده الوظيفي، ويخلق «الموضوع الفني» ( «حذاء» فان غوغ عند هاديغر)، فالجرة جرة، ولكنها تعد موضوعا فنيا في سياق التناظرات التي يمكن أن يستثيرها الإيحاء الرمزي في العين التي تتأملها. قد يكون هذا هو أصل التقابلات بين الدين والفن من جهة، وبين العلم من جهة ثانية. فالأشياء في العلم موجودة من خلال ماديتها ( مكوناتها وإمكاناتها في التفاعل مع غيرها من الأشياء)، أما وجودها في الفن والدين فيتحدد من خلال رمزيتها، أي معناها داخل التجربة الإنسانية. ويمكن القول، على غرار ما قاله «ميرلو بونتي»، إن العلم يتحكم في كل أشياء حياتنا، ولكنه يظل خارجها، أما الفن فلا يرغب سوى في استيطانها. وهذا الفصل هو الذي يجعلنا اليوم نستمتع بما يروق العين من جمال الأشكال وتناسقها، ولا نلتفت إلى مادة النحت في ذاتها. لذلك لا نستطيع في الغالب من حالات التأمل، التي رافقت الكائن البشري على الأرض، الفصل بين ما ينتمي عنده إلى الدين «الخالص» وبين ما ينتمي إلى الفن بمفهومه الحصري. إن الحدود بينهما هشة ومطاطية. ذلك أن الفن يصبح مصدرا لمتعة حقيقية لحظة امتلاكه القدرة على استثارة «حالة ثانية» تشد الكائن إلى عوالم تتجاوز المعطى المباشر، وهذه العوالم شبيهة بغموض والتباس الملكوت الذي يقترحه الدين ويبشر به. فهل كان هذا التمييز حاضرا في ذهن ذاك الذي كان ينبش في الأرض أو يرسم على جدران الكهوف حيوانات وخطوطا منذ مئات الآلاف من السنين؟ لا أستطيع، اعتمادا على معرفتي المحدودة، أن أجيب عن هذا السؤل، ولكن المؤكد أن مصدر «المتعة» هنا وهناك لم يكن سوى هذه الممارسات ذاتها. لقد كانت في الفن مجسدة في الموضوع الفني ذاته، وكان مصدرها في الدين تلك الرغبة في الخلود والعيش خارج زمنية تورث الأمراض والأحزان والمآسي. ويصدق على الحالتين معا ما يصدق على قارئ الشعر عند كولريديج، فعلى هذا القارئ في تصوره أن يندفع دائما إلى الأمام، لا رغبة في الوصول إلى غاية هي النهاية في كل شيء، بل لكي ينطلق في سفر هو مصدر المتعة ذاتها. استنادا إلى هذه الملاحظات الأولية يمكن قراءة التجربة الدينية باعتبارها «بقايا» ممارسة فنية موغلة في القدم فقدت «فرادتها» وطاقات الإبداع فيها منذ أن تحولت إلى تجربة مشتركة تتكرر من خلال قواعد ثابتة هي ما يتحكم في الشعائر التي يمارسها كل المنتمين إلى هذا الدين أو ذاك . { الفن مجال شاسع للإشارات و الألوغوريات، هل يحتوي على مناطق يمكن أن تتعارض مع الإسلام؟ من زاوية نظر باحث، أنا لست معنيا في واقع الأمر بالتعارض أو التطابق بينهما، فمهمتي هي وصف الظواهر والكشف عن العلاقات التي تخفيها البداهة والتداول الوظيفي للأشياء. وفي جميع الحالات، فإن هذا التعارض مسألة خلقها الفقهاء، ولم تكن قانونا صاغه مشرع معني بضبط العلاقات بين الأفراد والجماعات وحماية مصالحهم. فالنصوص الدينية لا تحرم ولا تحلل من تلقاء نفسها. وهذا ما تؤكده بعض حالات التحريم والتحليل المعروفة. فالنصوص التي حرمت على نساء السعودية سياقة السيارات، هي ذاتها النصوص التي أحلتها في كل الدول الإسلامية، أو في أغلبها على الأقل. هل العيب في النصوص، أم أن هناك مسألةً تعود إلى تقديرات تتحكم فيها ثقافة الفقيه وتاريخه ومزاجه وطبعه؟ يبدو لي أن تاريخانية النصوص هي وحدها من يملك القدرة على الحسم في أمر هذه القضايا. لذلك، عوض الحديث عن التحريم والتحليل، نحن نفضل الحديث عن قضايا تُصنف ضمن ما يعود إلى «الضمير الفردي»، فهو وحده يملك الحق في أن يحرم على نفسه ما شاء، ويحلل لها ما شاء، ولكنه يفعل ذلك في انسجام مع ضوابط القانون الوضعي الذي ينظم الفضاء العمومي، بما فيها ما يسمى «الأخلاق الاجتماعية» التي تقوم في الأساس بصون إنسانية الإنسان نفسه. فمن حق الذين لا تعجبهم حفلات موازين أو غيرها من المهرجانات ألا يحضروها، ومن حقهم أن ينتقدوها ويكشفوا عن الرداءة فيها، بل من حقهم أن يطالبوا بإلغائها، كما طالب اليساريون في سنوات الرصاص بإلغاء سهرات السبت الأسبوعية الشهيرة التي كانت تقيمها جمعيات «السهول والوديان» بتعبير اليساريين دائما. ولكن اليساريين لم يحرموا الغناء أبدا، أولا لأن الغناء شيء ومهرجانات الغناء شيء آخر، وثانيا لأن التحريم قد يدعو إلى النهي عن المنكر ويحرض على الانتقام، وبل قد يدعو إلى القتل أيضا. ومن جهة ثانية، فإن هذا التعارض قد يوحي بأن الفن من ابتكارات عقل إنساني واع كان يمتلك قدرة على الفصل بين ما يلبي حاجاته الغريزية، وبين ما يستجيب لحاجات المتعة الروحية عنده. وهذا أمر لا يمكن أن يستسيغه الحس السليم، أحرى أن يقبله العقل؛ ذلك أن هذه الأنشطة كانت متداخلة في ما بينها، ولم يكن من الممكن تصنيف ما يصدر عن الإنساني ضمن خانات تتميز عن بعضها البعض، فكل شيء كان روحيا عنده وكل شيء كان جسديا في سلوكه ( هل كان الإنسان البدائي يدرك أن ممارسة الجنس هي المسؤولة عن حمل النساء وعن المخاض والطلق والولادة؟ ). وهنا أيضا يجب أن نؤكد أن الفن ليس طارئا على الوجود الإنساني، فالصرخة سابقة على اللغة المتمفصلة، والرقص أقرب إلى الجسد من حالات المشي المعتادة. بل يمكن القول إن «التفكير بالصور» سابق على الشفاهي، أداة التحليل المنطقي الخطي، فالصورة كانت دائما أداتنا في التحكم في الانفعالات، كما أن «الأداة» نفسها هي في جزء منها من طبيعة فنية، فهي ليست موضوعا خاما، بل حاصل تدخل يقتضي لمسة «فنية». ولقد اكتشف الباحثون المعاصرون حقائق حول الوجود الإنساني استنادا إلى هذه التعبيرات الغامضة ذاتها. لذلك لا يمكن أن نحرم ما ساهم في التعرف على مناطق لم يكن العقل في مرحلة من مراحله قادرا على مجرد التفكير فيها. لذلك ، فإن تحريم الفن معناه تجريد الكائن البشري من جزء كبير من تاريخه، وتحويل مناطق داخله إلى فضاءات موحشة. بالتأكيد قد يسهم الدين في تهذيب الذوق، وقد يسمو بالإنسان إلى فضاءات جديدة، الفرد وحده يمكن أن يقدر درجة المتعة فيها، تماما كما ساهمت اللغة في تهذيب الأشياء وخلصتها من السوقي والخشن وضمنتها دلالات توسع من ذاكرتها، ولكنه لا يمكن أن يضع نفسه بديلا مطلقا عن كل شيء. ولو كان الأمر كذلك لانتفت كل أشكال الفن، واختفت الشهوات وساد الخير وأقيمت جنة الله على الأرض قبل الميعاد عندنا وعند شعوب أخرى لا تقل محرماتها عن محرماتنا عددا وحجما وامتدادا. { لننظر اليوم إلى الإخوان المسلمين في مصر، لقد شنوا هجمة قوية على فنون الرقص، خصوصا البالي. ما يقوم به الإخوان في مصر أخطر من التحريم في واقع الأمر، إنهم يدعون إلى تبرير التحرش والاغتصاب والاعتداء. فأن «يقنعوا» نساءهم بالحجاب، فهذا أمر يدخل ضمن توجهاتهم القبْلية التي تعتمد نصوصا يقاس عليها كل شيء، وقد يدخل ضمن حرية الفرد في اختيار لباسه. لكن أن يصرح شيخ عبر فضائية يشاهدها الملايين من الناس، صغارا وكبارا، بأن المغتصب لا ذنب له ما دام «اللحم» ملقى أمامه في الشوارع، فإن هذا الكلام يقع، في الدول المتحضرة، تحت طائلة القانون، فهو يشكل اعتداءً مباشرا على حرية فرد أعزل اختار أن يلبس بطريقة تلائم مزاجه وطريقته في الحياة، وهي طريقة قد لا ترضي ذوق الكثير من العلمانيين، دون أن يدفعهم ذلك إلى التحريم. يبدو أن هذه «النظرة»( بالمفهوم البصري للكلمة) هي مصدر تحريم الرقص والغناء ومشتقاتهما. فالعين السلفية خليعة لأنها تلتقط الحسي في الجسد، ولا تنتبه إلى إيقاعات الجمال فيه. إنها ترى «اللحم»، ولا تتذكر الوضع الاجتماعي والدور والوظيفة والمشاعر والأحاسيس: كل شيء لحم. لذلك لا يمكن للرقص أن يكون فنا، كما لا يمكن لطفلة في الخامسة عشر من عمرها أن تمارس الجمباز، لأنها ستكشف عن عورة يجب أن تظل في منأى عن العين التي لا تَحْرِم نفسها من النظر أولا، وتدين بعد ذلك. والتحجج ب»الفتنة» هنا له دلالة خاصة. فالجسد قادر على الفتنة إذا كان هناك جسد مستعد لأن يُفتن، والقابل للافتتان شخص لم يأخذ حظه الكافي من الاستئناس، كما يقول المتصوفة، أي أن لائحة النواهي والأوامر لم تستطع التغلب على رغبته في الرؤية. وفي هذه الحالة، فإن الفاتن والمفتون كلاهما في مرتبة واحدة. إذن علينا أن نربي العين على التمييز بين الجميل والقبيح والخليع في كل شيء لا أن نحرمها من الرؤية. الرقص ذكرى من ذكريات الجسد، وهو جزء من تاريخه البعيد، ووعي الإنسان لنفسه كان وعيا لجسده قبل أن يكون وعيا لروح لم يعرف بعضا من أسرارها إلا بعد عشرات الآلاف من السنين في شكل أساطير تتحدث عن «حلول» و»مسخ» و»تناسخ للأرواح». لقد كان هو أداته الأولى في التفاعل مع محيطه والاستجابة له أو النفور منه. لذلك قد يكون الإنسان مارس الرقص ( بمفهومه البدائي) قبل أن يدرك سر التنقل في الفضاء من خلال المشي. قد يكون حاكى في ذلك كائنات أخرى ليست من فصيلته، ولكنه في هذه الحالة أيضا انتبه إلى هذه الطاقة في التواصل مع آخر كان الجسد هو الفاصل بينهما، وليس الأخلاق والثقافة. وهذه الذاكرة لم تمت، لقد ظلت حية فينا جميعا، فنحن لا نمنع أنفسنا في الكثير من الحالات عن استعمال جسدنا في التعبير عن فرحنا أو إعجابنا أو ازدرائنا لموقف. يتعلق الأمر بإرث خاص بالوجدان الإنساني أو «ببقايا مهجورة» بتعبير فرويد، أو هي «صور نمطية» بتعبير يونغ قد يكون عقلنا نسيها، ولكنها ظلت حية في دهاليز لاوعينا. لذلك خلقنا «الاحتفال» لكي نعيد للجسد بعضا من طاقاته التي استوعبها النفعي من وظائفه، ومن خلال الحفل نمنحه فرصة قول ما لا تستطيع الكلمات قول أي شيء عنه. وهنا أيضا يحق للسلفي وللعلماني، أن ينفرا من حركات الراقصة روبي ومثيلاتها، وأن ينظرا إل ما تقوم به باعتباره مجرد استثارة منحطة بلا أدنى قيمة فنية، ولكن هذا لا يمنعهما من الاستمتاع بروائع الرقص العالمي ويستمتعا بأشكال رقصية يزخر بها فلكلورنا المحلي ( أحيدوس وأحواش والعلاوي وغيرها من الرقصات )، ولكن لا يحق للسلفي وللعلماني أن يدعوا إلى تحريم الرقص لأن روبي ترقص بشكل سيء. إن الرصيد الثقافي والحضاري الراقي للمتلقي هو وحده الذي يسمح للعين محاربة الخلاعة فيها، فهو الذي يحدد درجة الجودة والرداءة في العمل الفني. لذلك، هناك الكثير من العلمانيين والمتدينين الذين يستمتعون برقصات روبي وهيفاء وغيرهما، ممن يصنفون ضمن موجة الفن المعلب في كليبات تغطي على رداءة الموسيقي والكلمات بتضخيم الحركة في الجسد. يجب أن نعلم أبناءنا كيف يميزون بين حالات الخلاعة في الجسد وبين طاقات الجمال فيه، إن التحريم لا يؤدي إلا إلى التلصص. { هل فعلا هناك تحريم مباشر ونصي من طرف الإسلام للفنون، أم أن « فقهاء الظلام» هم الذي أساؤوا فهم دينهم ومجتمعاتهم وثقافتهم، و هم من يشرعون اليوم في هذا المجال؟ أشرت إلى هذه القضية في السياق السابق. وقد قلت إن النصوص لا تحرم من تلقاء نفسها، وإلا لما كانت هناك مذاهب وتيارات وجماعات وفرق بعضها يحرم وبعضها يُحل، بل لما اقتتل المسلمون كما فعلوا ذلك قديما، وكما يفعلون اليوم في أفغانستان وسوريا وغيرها من البلدان التي تعتنق الدين الإسلامي كليا أو جزئيا. إن التحريم ليس قصدا مودعا في النص، بل هو موقف المؤول من الظاهرة في المقام الأول. وهذا ما يدخل ضمن حالات الاستعمال في النشاط التأويلي. فعندما يخرج الدين من سياقه الأصلي، أي باعتباره جوابا عن قضية ضمن زمان ومكان، ما يطلق عليه مقامات التلقي المحددة بشروط سياقية لا يمكن للمعنى ( قاعدة الفعل) أن يستقيم دونها، فإن تقدير دلالاته ستختلف بالضرورة من مؤول إلى آخر. يصدق هذا الأمر على كل القضايا الحياتية ،كما يصدق على أشكال التعبير الفني. فالكثير من الفقهاء كانوا يطربون للغناء ولا يجدون غضاضة في الاستمتاع بما تضيفه الموسيقى إلى الكلام الإنساني، أو «الكلام السامي « بتعبير محمد الولي. فإذا كان تحريم الغناء في عرف الفقهاء لا ينصب على الكلمات، (لا يمكن تحريم أغاني تتغني بالربيع والصيف والحياة)، بل على ما يصاحبها من إيقاعات هي في الأصل فرصة صوتية تستعيد من خلالها الكلمات ما ضيعته في رحلتها القسرية من الشفاهي إلى المكتوب، فلماذا لا يحرم الفقهاء «الذكر» و»الأمداح» و»حلقات السماع» التي لا تستقيم إلا من خلال تصرف فني في نص يحتاج إلى إيقاع وتوزيع للأدوار، أي ما يحتاجه كل جوق موسيقي عصري. إنهم يدركون قبل غيرهم، أن هناك شيئا آخر غير الكلمات، وأن الجسد جزء من النص الذي يحمله وأن الكلمات ستظل جوفاء إذا لم تجد في الجسد سندا يرفعها إلى أعلى ويعود بها إلى أسفل ضمن إيقاعات يمتزج فيه كل أشكال الوجود الإنساني. وقد وعوا ذلك من خلال لغتهم ذاتها، فهي خزان لهذه الطاقات وهي أداة التعبير عنها. ف « اهتز طربا» عبارة شائعة في تراث أمة أودعت جزءا كبيرا من وجدانها في شعر ما زال الملايين يطربون له لحد الآن، وليست من اختراع الكفار والعلمانيين والملحدين. والاهتزاز هنا دلالة على استمتاع روحي لا يمكن أن يحس به سوى الجسد الحاس. وقد يكون ذلك سرا من أسرار الجسد، فالوصول إلى أقصى حالات السكينة في الروح، لا يمكن أن يتم إلا من خلال استنفار كلي لطاقات الجسد. إن الدعاء إلى الله نفسه لا يمكن أن يكون له التأثير المرجو دون إضافات مصدرُها المؤذن، وليست مودعة في كلمات نرددها كل يوم. لم يكن بلال بن رباح مؤذنا لأنه كان يحفظ نص الآذان، إنه اختير للقيام بذلك لأنه كان يملك صوتا جميلا . و»الجميل» هنا، وفي كل الحالات أيضا، هو ما «تطرب» له النفس، وعندما تطرب النفس يهتز الجسد. هناك جانب آخر في المؤمن مدعو لأن يستجيب هو جانب المتعة في جسده. فلو كان الناس ودون سماع القرآن بدون وسائط الجسد، لما فضلوا الذهاب إلى حيث يكون القزابري. { ألا ترى أن الدين حاضر في جميع مظاهر حياتنا، خصوصا في مجال الأشكال الفنية: العمارة، فنون الرقص، الخط العربي، الغناء...... لا يمكن اختصار الدين في مجموعة من الشعائر والطقوس. نحن الآن ندرس في جامعاتنا الفلسفة الإسلامية وندرس الشعر في مرحلة ظهور الإسلام ونتحدث عن التصوف الإسلامي، إنه تراث كامل يعج بملايين الكتب والمصنفات في كل العلوم عُد الدين الإسلامي جزءا هاما فيها. يتعلق الأمر بمجموعة من التجارب التي تشكل في كليتها صرحا ثقافيا كبيرا لا يمكن أبدا تجاهل ما يترتب عنه من مظاهر تخص اللباس والعمارة والوجبات الغذائية، والتوزيع الزمني والتعاطي مع الفضاء. لذلك لا أحد يدعو إلى خروج الدين من حياة الناس، والذي قد يفعل ذلك لم يعرف طبيعة الكائن البشري. الإنسان كائن متدين، والدين جزء هام في حياة الناس. فما هو أساسي هو أن يكون الدين، كما بدأ، اختيارا أو قناعة فردية وليس إكراها اجتماعيا. لأن الإكراه لا يبني مواطنا أولا، ولأنه نقيض «لحرية الضمير» التي هي الأساس الذي يقوم عليه سلوك كائن سوي ليس مضطرا للكذب من أجل اتقاء شر السلطة ممثلة في جاره أو في المخبرين العلنيين والسريين ثانيا. ومن هذه الزاوية، فإن الانسجام مع المحيط ليس مودعا في عين ترى دون وسائط، بل هو حاصل ثقافة. وجزء كبير من ثقافتنا مستمد من نصوص ممتدة عميقا في جذور تاريخ طويل، فيها القرآن وفيها الأحاديث وفيها الأخبار وأيام العرب وفيها أساطير كل الشعوب التي تعلمنا منها فن الحياة. فالكسكس والجمعة والمساجد والأشكال الهندسية التي ارتبطت بالثقافة الإسلامية، كلها جزء من نظرة خاصة بتصورنا للفضاء وللزمان ولطبيعة لعلاقات الاجتماعية. فالمسلم هو كذلك بالثقافة في المقام الأول، لا بالممارسة العقدية. يكفي أن نشير إلى أن أغلب المدن التي تصنف ضمن الفضاء الثقافي العربي موزعة بين مدينتين : مدينة قديمة هي الامتداد التراثي في حياتنا بكل أبعاده السلوكية والثقافية، ومدينة حديثة، هي إحدى نوافذنا على التحديث والحداثة. وليس هناك من تناقض بين الفضاءين إلا في الظاهر.