موضوع مداخلة المرصد: «الجرائم التي يجب أو يجوز التبليغ عنها من قبل الأمناء على الأسرار بدون أن يتابعوا بتهمة إفشاء ما أودع لديهم من أسرار». تطرح نازلة التبليغ عن الجرائم وحدة المتناقضات المركبة، ضمن معادلة الحق والواجب: 1- واجب التبليغ عن أفعال مخالفة للقانون الجنائي يصطدم بواجب التقيد قانونا بضوابط السر المهني. 2- واجب مناهضة الفساد في إطار تخليق الحياة العامة والحكامة يتعارض مع واجب التزام النظامية المهنية والوظيفية ضمانا لاستقرار المعاملات والهرمية. 3- حق الحصول على المعلومات وبلوغها للقيام بواجبات نضالية ووطنية يتناقض وحق حماية مصادر المعلومات لاسيما من طرف السلطة ولو على سبيل الحصر. 4- الحق في اطلاع الرأي العام عما يجري ضد مصالحه يقابله حق التستر عن جرائم قد تضر بمصلحة من المصالح. II هي أوصاف لوقائع يتم تكييفها في قواعد قانونية عامة ومجردة قابلة للتطبيق ومن تم التنفيذ وفق خيارات السلطة خاصة غير العادلة واللاديموقراطية. فالقوانين غير العادلة، منطقيا لا يمكن أن تنتج إنصافا في الردع أو في الجزاء الإيجابي نظرا للهيمنة الطبقية والرعب السلطوي، فتكون النتيجة تصريف الأزمة وتعميقها وتكريس جرح الضحايا وتجريم التضحيات زمن جبر الضرر دون بتر الفساد والاستبداد. III وللتبليغ في القانون درجات وأبعاد بالسالب والموجب: فالتبليغ السالب بمعنى عدم التبليغ عن فعل يوصف إجراميا هو معاقب عليه، كحالة البلاغ الكاذب أي التبليغ عن فعل لم يحدث، والذي قد يقرن بإقلاق السلطة وإهانتها، فضلا عن التبليغ بسوء نية فيعد شهادة زور. والمشارك أو المساهم المبلغ عن فعل وقت الإعداد له يخضع للعقاب مع الاستفادة من العذر المعفي أو المخفف للعقاب ومنه. مع التوسع أكثر في محددات التبليغ من عدمه، يكون فعل عدم تقديم مساعدة لشخص في خطر بمثابة سكوت عن جرم أو خطر يمس بالحياة البشرية والسكوت عنه يقوم مقام عدم التبليغ، مثل الوصف القانوني والشرعي المسند لكتمان الشهادة الحاسمة في تحقيق العدالة والإنصاف. IV ولإنصاف الألفية الثالثة هاته يجب الإقرار بما بلغته من تفرد علني في الشفافية والتواصل وبلوغ المعلومة وتداولها بتذويب أسرار الدولة حتى الأمنية منها بواسطة التنصت والتقاط المكالمات عن بعد أو بواسطة صور الأقمار الاصطناعية. فلم يعد السر العمومي للدولة سرا إلا تجاه مواطنيها في اعتقاد وهمي لضمان هيبتها فقط نحوهم، بينما هم الأولى في الاطلاع للاضطلاع بالمراقبة والمحاسبة بدل أن يتحقق لهم ذلك عن طريق الأغيار من الأجانب أصدقاء أو أعداء (نموذج ويكيليكس وغيره). ولا يخرج عن القاعدة هاته الأسرار الخصوصية شخصية، مهنية أو وظيفية. لذلك مع إعمال الغاية لم يعد القانون المغربي بما يعكسه، يساير واقع سريع في تطوره كما ونوعا وبعدا، والكل بما يكرس الحق المشترك في التقرير بناء على علم ومعرفة وعدل. V لقد ألزم القانون بالمطلق كل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار وذكر بالتخصيص من له علاقة بالصحة والتطبيب والتوليد كقاعدة عامة بعدم إفشاء سر أودع لديه تحت طائلة العقاب بالحبس والغرامة دون تبيان نوعية وطبيعة هذه الأسرار ولا حدد مدة الاحتفاظ بهذا السر أو الأسرار وعن من يمارس. غير أنه أعفى من العقاب حالة التبليغ عن عملية الإجهاض ولو كانوا غير ملزمين بهذا التبليغ. كما متعهم بحرية الإدلاء بالشهادة أمام القضاء في نفس حالة الإجهاض أو عدم الإدلاء بها. وفي نفس الوقت استثناهم من العقاب عندما أوجب أو أجاز القانون التبليغ أي إفشاء السر. فما الغاية إذن من هذه التناقضات التي تكفلها مقتضيات الفصل 446 جنائي ؟ الجواب قد يكمن في ضمان حمائية الأسرار أفقيا فيما بين الأشخاص وإباحية التبليغ عموديا للسلطة وأجهزتها التي تعمل على تملك المعلومة والتحكم بها وفيها تجاه أفراد المجتمع. فالتبليغ عن الإجهاض لا يعاقب عليه لأنه تبليغ عن فعل يعاقب عليه القانون الجنائي وهو مرفوض في الشرع الإسلامي وفي بعض الديانات الأخرى. أما التنصيص على عدم إلزامية التبليغ عن الإجهاض فلأن هذا الأخير قد يكون ضروري لإنقاذ حياة الأم الحامل بالأولوية على حياة الجنين أو إذا تحقق بناء على إرادة الأب والأم معا وفق الشائع المرغوب فيه والمعمول به. وقس على ذلك بالنسبة لحرية الإدلاء بالشهادة أمام القضاء بشأنه، وهنا انقلبت القاعدة استثناء والاستثناء أصبح قاعدة بفعل معادلة وجوب التبليغ وجوازه الاختياري أو العقاب عليه، في خضم هذه المعادلة تتدخل السلطة بالملاءمة التي تناسبها كفاعل دون مراعاة مشروعية الملاءمة بين المبلغ والمبلغ عنه. VI أقوى وأخطر مخالفات القانون خاصة الجنائي تتم في سرية مطلقة أو نسبية وميزتها فجائية، وقلما تدرك الأدلة فوريا، لذلك تعتمد الدولة البوليسية استباقيا آليات وجنود خفاء مغلوب على إرادتهم في تبليغها المعلومة المرغوب فيها حول ذلك الفعل الجرمي، هذا المعطى ليس في عناية مداخلتنا هاته. فالمبلغ بالوصف القانوني ورد في المادة 82 فقرة 9 مسطرة جنائية التي تحيل على المادة 82 فقرة 7 م ج بشأن نوع الجرائم التي يحظى فيها فاضح مقترفيها بالأهمية التي يستحق لاسيما من حيث الرعاية والحماية المنصوص عليها كتدابير واردة تحت بنود 6-7 و8 في المادة 82-7 المحال عليها من المادة 82-6 بشأن حماية الشهود والخبراء. غير إن حماية المبلغ لا يستفيد منها هذا الأخير إلا عندما تتعلق بالتبليغ عن جرائم محددة على سبيل الحصر في المادة 108 والمادة 82 في فقرتها 7 م ج وهي الجرائم التي يمكن تصنيفها وفق التالي: 1 / جرائم ذات طابع مالي واقتصادي تمس المالية العمومية: كتزييف وتزوير النقود وسندات القرض العام والرشوة والاختلاس والتبديد للمال العام واستغلال النفوذ والغدر الذي يعني تحصيل ما ليس مستحقا أو يتجاوز المستحق. وهي الأفعال الإجرامية التي يفترض ارتكابها من طرف قضاة أو موظفين عموميين وأشباههم. 2 / جرائم تمس بالكيان السياسي للدولة: مثل المس بأمن الدولة، الجريمة الإرهابية، جرائم متعلقة بالأسلحة والذخيرة والمتفجرات. 3 / جرائم تمس بالمواطنين والمجتمع بواسطة عصابة إجرامية مثل الاختطاف وأخذ الرهائن، المخدرات والمؤثرات العقلية والمس بحماية الصحة، والقتل والتسميم. لعل تحديد هذه الجرائم بالدقة بمقتضى تشريعات تعديلية صدرت بعد الاستفتاء على دستور 2011 وفي جزء منها بارتباط بتشريع محاربة الإرهاب، فمن الناحية العضوية هي تشريعات تتميمية أو تعديلية تمشيا مع إصباغ صفة ضباط الشرطة القضائية على مسؤولي المديرية العامة لإدارة مراقبة التراب الوطني DST وإسنادهم صلاحية ممارسة مهامهم بجميع أنحاء البلاد نقلا عن نموذج F.B.I، ثم لضرورة التعامل مع الأنتربول في إطار عولمة أمنية تشخيصا جهازيا للعولمة الشمولية. VII التبليغ ونظام الحماية للمبلغين أورده التعديل المدخل على المسطرة الجنائية بإضافة بنود في المادة 82 فقرة 7 حاصرا إياها في الإجراءات التالية: * إخضاع الهواتف التي يستخدمها المبلغ لرقابة السلطات المختصة ضمانا لحمايته، لكن يشترط الموافقة المسبقة للمعني بالأمر وأن تكون هذه الموافقة كتابة. * توفير حماية جسدية للمبلغ من طرف القوة العمومية للحؤول دون تعرضه أو أسرته أو أقاربه للخطر. ويلاحظ أنها ثلاث إجراءات خصصت حمائيا للمبلغ إلى جانب كل من الشاهد والخبير، هذين لهما الاستفادة فضلا عن ذلك من خمس (5) إجراءات حمائية أخرى جلها تتمحور حول إخفاء هويتهما، ليبقى سؤالا مشروعا بشأن الاحتفاظ بإعلان الهوية الحقيقية للمبلغ وكأن الهدف هو إحراجه لعدم التجرؤ بالتبليغ, خاصة وأن الفرق بين المبلغ وبين الشاهد والخبير يكمن في كون الأول هو المبادر بفتح المسطرة إن فتحت فعلا أما الآخرين, فهما مدخلين لاحقا في المسطرة قصد الإثبات عند الاقتضاء، كما أن إخفاء هويتهما هو تشجيع لهما وفي نفس الوقت تأثير على إفادتهما كشهادة أو خبرة. يذكر من جهة أخرى أن المشرع وحال النازلة موضوع المداخلة أغفل الإشارة إلى الوضع الذي يكون فيه المبلغ هو المشتكي الضحية جزئيا أي أن الضرر لحق به كما لحق بالمصلحة العامة خاصة في حالة الغدر أو استغلال النفوذ أو الاختطاف وأخذ الرهائن عندما يتعلق الأمر بمن له ولاية أسرية عليه. وأخيرا يؤخذ على نظام الحماية عدم تبيان مدته ولا متطلباته المادية والمعنوية. ثم إن الفقرة الثالثة من المادة 82-8 تعتبر إفادة المبلغ مجرد معلومات لا تقوم بها حجة بمفردها مما يحطم عملية التبليغ من الأساس. VIII صحيح أن الفقرة الأولى من الفصل 27 من دستور 2011 المغربي خولت للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة والهيآت المكلفة بمهام المرفق العام، وهو مجال جد محدود لبلوغ المعلومة بصريح النص. ولقد حصرت الفقرة الثانية من نفس الفصل خمسة استثناءات تقيد حق المواطنات والمواطنين المذكور وبمقتضى قانون، هذه الاستثناءات تهم : 1) الدفاع الوطني. 2) امن الدولة الداخلي والخارجي. 3) ثم الحياة الخاصة للأفراد. 4) وقاية المس بالحريات والحقوق الأساسية. 5) حماية مصادر المعلومات والمجالات. يترتب عن ما سرد قبله أن الفقرة الثانية هاته تحرم بلوغ المعلومة، فبالأحرى التبليغ عن ما يدور في كواليس تلك المجالات مما قد يرتكب داخلها من الجرائم المتعين التبليغ عنها من داخل الجهاز أو من خارجه (حالة الضابط أديب وأمثاله، مثل تعويضات مزوار , بنسودة وفضيحة التلاعب بمالية وزارة المالية). كما أنه تقييد محصور على المواطنات والمواطنين دون غيرهم ممن يستقر بالمغرب أو من خارج الوطن. وعموما سكت المشرع عن إقران بلوغ المعلومة بالتبليغ، إلا إذا كان السكون إحالة ضمنية على مقولة: «عرفت فالزم». إن غموض الرؤيا لدى المشرع المغربي بين المعلومة والتبليغ والسر المهني كامن بخلفية حضور واستحضار الهاجس الأمني كمن يختلط عليه في العمل الصحفي النقد المباح مع السب والقذف. IV أي موقع للأمناء على الأسرار وما أولياتهم التفاضلية بين التبليغ عن الجرائم ومناهضة الفساد وبين الحفاظ على السر المهني ؟ إن القيمة التفاضلية هاته ليست في حد ذاتها، إنما تتحكم فيها عوامل قوية انطلاقا من طبيعة الدولة ومدى خضوعها لسيادة الحق والقانون ومبادئ المراقبة والمحاسبة وسمو حقوق المواطنة بما فيها ضمان حقوق التنمية والشراكة في حماية الثروة المشتركة وشراكة المساهمة في التقرير والاختيار لذلك يرجح العام على الخاص، وتقديم درء الضرر الذي يلحق العموم على الضرر الذي يلاحق الخاص والخصوصي. والسر لابد أن يتم إفشاؤه يوما ما أما التستر على الجريمة فهي جريمة حماية الجريمة من شأنها تعميق الفساد الذي إنما يقترن بالاستبداد فتصبح الجريمة مركبة اقتصادية وسياسية تنخر حتى المهنة ذات العلاقة بالسر الذي يستظل بظله التخريب الاقتصادي والرعب السياسي والضحية ممارسة حق وواجب المواطنة في فساد يمول الاستبداد والاستبداد يحمي الفساد. * المكتب الوطني لمرصد العدالة بالمغرب