يقال أن تحديد المفاهيم شرط للوضوح، وتعيين المقدمات أساس لاتفاق على النتائج. مناسبة هذا الكلام هي الاتهامات الموجه لموظف بوزارة المالية بتهمة «إفشاء السر المهني» واستدعاء موظف سابق بنفس الوزارة بتهمة «المشاركة في ذلك». فهل الوقائع الماثلة أمامنا تتوفر فيها شروط إفشاء السر المهني؟ وما موقع الدستور من هذه الفضية؟ وما مصير القوانين الموجبة للتبليغ عن جرائم الفساد؟. بغض النظر عن براءة المتهمين من المنسوب إليهما، فإننا نفترض حدوث واقعة مماثلة لموظفي وزارية المالية أو غيرها من القطاعات الحكومية، قام فيها شخص بالتبليغ عن ما رأى أنه جريمة فساد وساعده شخص آخر، غير موظف، من أجل إيصال بلاغه إلى المنابر الإعلامية ونواب البرلمان. مما يستدعي منا بداية تحديد موضوع الاتهام وهو ما سمي ب«إفشاء السر المهني»، لكي نتساءل عن مضون هذه «الجريمة»؟. ومن المسلم به النصوص القانونية لم تستطع تعريف السر المهني وإنما حصرته في بعض النماذج والوقائع، وبدورها، اختلفت المراجع القانونية حول تعريف السر المهني والشروط الواجب توفرها من أجل اعتبار واقعة ما ضمن أسرار المهنة. وهو ما جعل السر المهني في تحديده أكثر مرونة، حيث تتسع دائرته وتضيق حسب اتساع أو ضيق مساحة الحرية والديمقراطية في بلد ما. فما يمكن عده سرا مهنيا في بلد استبدادي ليعدو أن يكون، في بلد ديمقراطي، مصدر فخر يستحق عليه مقترفه وسام الاستتحقاق والتقدير. فمن فقهاء القانون من عرف السر المهني بأنه ما «أمر القانون بكتمانه وعاقب على إفشائه أو هو كل أمر سري في عرف الناس أو في اعتبار قائله» وهناك من جعل مضمون السر المهني يختلف حسب اختلاف المهن فالسر «الذي يطلع عليه المحامي غير السر الذي يلتزم به الطبيب، فهو (السر المهني) الواقعة التي يفضي بها صاحبها إلى مهني محدد قانوناً أو التي يطلع عليها هذا المهني أثناء ممارسته مهنته مما يدخل في إطار المهنة ويريد صاحبها أن تبقى مكتومة عن الناس أو يجب أن تبقى بطبيعتها مكتومة» يمكن القول إجمالا - مع الفقيه القانوني السويسري «لوغوز» - أن السر المهني هو «حيازة حصرية لمعرفة بعض الوقائع مضافة إلى إرادة صاحب السر بأن يظل وحده الحائز عليه». ومن هنا تلوح عناصر وأركان السر المهني، والتي يمكن تكثيفها في الآتي؛ أولا: لابد أن يكون المفشي للسر المهني قد تحصل عليه من خلال مزاولته لمهنته، أي أن غير المهني لا يمكن أن يتهم بإفشاء السر المهني؛ ثانيا: ان يكون موضوع الافشاء من اسرار المهنة غير المتاحة إلا، وبشكل حصري، للمهني وللمتضرر من إفشاء السر؛ ثالثا: أن يتوفر الضرر بالنسبة للذي أفشي سره أو للمصلحة العامة؛ رابعا: ألا يكون ما تم إفشاؤه من الجرائم التي أوجب القانون على الموظف التبليغ عنها ومتعه بالحماية لذات القصد، بحيث لا يتم التعارض بين السر المهني وعدم التبليغ عن جريمة. فإذا كان هذا هو حال جريمة إفشاء السر المهني لدى المراجع القانونية، فما هو موقع القانون المغربي من هذا الأمر؟ وكيف هو المركز القانوني لموظفي وزارة المالية؟. تطبيقا للمبدأ المقدس في الأنظمة الديمقراطية ألا وهو «مبدأ سمو الدستور»، وقبل النظر في أي من نصوص القانون، لابد من مراجعة القول الدستوري فيما يمس القضية المثارة أعلاه. إذ جاء في دستور 2011 «للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام. لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية وأمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة» (الفصل 27). ويظهر التنصيص واضح هنا، على حق المواطن المغربي في الوصول إلى المعلومة بجميع الأوجه التي يحددها القانون الذي لم يصدر بعد. يضاف إلى ذلك أن مبدأ سمو الدستور لا يسمح-إطلاقا- بأن تعمل المحاكم المغربية بأي نص قانوني يتعارض والدستور الجديد، كما هو شان المادة 18 من قانون الوظيفة العمومية، الغامضة والمفتوحة على جميع الاحتمالات، والتي طالبت الهيئة الدستورية للواقية من الرشوة تعديلها بما يلائم حقوق الإنسان. أما بخصوص النصوص القانونية، والتي تخضع لمبدأ سمو الدستور، فإن أغلبها، ماعدا النص الموروث عن عقلية التحكم المشابه لقانون كل ما من شأنه (نقصد المادة 18 من قانون الوظيفة العمومية)، لاتنطبق على واقعة موظف وزارة المالية، بل منها ما يوجب العقوبة في حالة كتمان المعلومة. فباستطلاعنا لمقتضيات القانون الجنائي وخاصة الفصل 446 الذي جاء فيه أن «الأطباء والجراحون وملاحظو الصحة، وكذلك الصيادلة والمولدات وكل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار بحكم وظيفته الدائمة والمؤقتة إذا أفشى سرا أودع لديه، وذلك في غير الأحوال التي يجيز له القانون أو يوجب عليه فيها التبليغ عنه، فيعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة...»، ونص أيضا الفصل 447 من نفس القانون على «أن كل مدير أو مساعد أوعامل في مصنع، إذا أفشى أو حاول إفشاء أسرار المصنع الذي يعمل به سواء كان ذلك الإفشاء إلى أجنبي أومغربي مقيم في بلد أجنبي، يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وغرامة ..». المستفاد من هذه النصوص أن المشرع في الفصل الأول قصد حماية الأمور الشخصية للمواطنين إزاء ما يمكن ان تتعرض له من إتلاف يقوم به أحد ممن ائتمنوا أسرارهم لديه، ولا يدخل في ذلك إفشاء سر مهني مؤداه حماية المصلحة العامة من جريمة اقتصادية مكتملة الأوصاف. وأما الفصل الثاني فإن المشرع قصد من خلاله حماية أرباب العمل من المنافسة غير المشروعة وكذا حماية براءة الاختراع من أي تلاعب. هذا فيما يتعلق بالنصوص التي تمنع إفشاء السر المهني، وأما النصوص الموجبة للتبليغ عن ما يمكن أن يصادفه المواطن من خروقات سواء أكان موظفا أو غير ذلك، فهي متعددة ومن أهمها المادة 42 من قانون المسطرة الجنائية التي تلزم الموظف بالإبلاغ عن الجرائم التي يطلع عليها بمناسبة قيامه بواجبه. الأمر الذي استجاب له قانون حماية فاضحي الفساد المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 20 أكتوبر 2011، والذي نص على وجوب توفير الحماية القانونية لفاضحي الفساد سواء كانوا ضحاياه أو شهود أو خبراء أو مبلغين عن جرائم الرشوة واختلاس الأموال العمومية و استغلال النفوذ، علاوة على حماية أسرهم وممتلكاتهم. وفي ملف موظفي المالية، المتعلق بإبلاغ الرأي العام عن جريمة مشوبة بالفساد الاقتصادي والتي اقترفها المتهمين الوزير السابق للمالية والخازن العام، لايوجد أي مبرر لمتابعة الموظفين بسبب تهمة لم تكتمل عناصرها، فالموظف(بصرف النظر عمن هو) أصلا لم يسرب سرا مهنيا تتوفرت فيه شروط «الحصرية« بل هو مجرد قرار إداري تعلمه مجموعة من الأطراف الادارية يتعلق بعلاوات تحصل عليها الوزير والخازن بشكل اعتبره المجتمع المدني مخالف للنزاهة، بينما اعتبره المعنيان حقا طبيعيا لا يمس القانون. وهذا دليل على أن المعنيين بالأمر(المستفيدين من العلاوة) لم يحثا أي من مرؤوسيهم على عدم إفشاء السر المهني، فهما لم يفضيا إليهم بأمورهم الشخصية مثل أسرارهم الزوجية أو غيرها من الأمور التي لو أفشيت لاعتبرت إفشاء للسر المهني. ثم كيف يوفق موظف اكتشف، من خلال مزاولته لعمله، أن جريمة اقتصادية اقترفت من قبل رؤسائه، بين الحفاظ على السر المهني ووجوب التبليغ عن تلك الجريمة بناء على قانون المسطرة الجنائية؟ وأين هو شرط الضرر اللازم في جريمة إفشاء السر المهني في ظل تأكيد وزير المالية السابق على أن الأمر قانوني (ونضيف من عندنا انه لم يكن ينقصه إلا التصريح به لدى الجهات المختصة ومنها الاعلام)؟. لقد سمعنا رئيس الحكومة نفسه في مهرجان خطابي، يجاهر أمام انصار حزبه بسؤاله لوزير المالية السابق عن كيفية تحصله على تلك العلاوة. فهل كان لابن كيران أن يتوفر على تلك المعلومة لولا وجود مواطن شهم(بصرف النظر عن هويته) استطاع المجاهرة بالحق، ولولا إعلام مستقل امتلك جرأة نشر الخبر؟ ماذا لو كان الخبر المسرب يمس أحد الأشخاص غير المرغوب فيهم؟. إننا ندرك جيدا أن القضية مسيسة حتى أخمص قدميها، لكن من أسمى ما نرجوه ألا يسيس القضاء. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة