نعم وقعت علي هذه المظالم كلها من الذين كان يفترض فيهم أن يجبروا الضرر الذي لحقني أنا وثلاثين عاملا كانوا يشتغلون معي في «مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر» وعشرة عمال في «لينو النخلة». - فعندما ألح علي بعض الأصدقاء، الذين تتبعوا مشوار حياتي، لوضع ملف التعويض بقيت أتردد إلى آخر ساعة من يوم 31 دجنبر 1999 الذي كان محددا كآخر أجل لقبول الملفات، لأنني كنت أعرف مسبقا أن ملفي شائك ومعقد، لا شبيه له بين كل الملفات التي ستقدم، ولن تعطاه العناية اللازمة، خاصة في ما يتعلق بإغلاق المطبعة، لعدة اعتبارات، أولها أن الثقافة كانت محاربة ومهمشة، ثانيها أن من بين أعضاء لجنة التحكيم عضو من حزب، أشك في أنه هو الذي أوعز للعامل بإغلاق المطبعة، انتقاما مني. - هيأة الإنصاف والمصالحة بنت مقررها في شأني على أنها ليست محكمة للاستئناف، فالذي سبق له أن توصل بالتعويض من طرف الهيأة المستقلة لا يراجع ملفه كيفما كانت الاعتبارات. - المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي كان آخر ابتكار لتصفية ملفات حقوق الإنسان العالقة بالمغرب، راسلته عدة مرات، مطالبا بمراجعة ملفي، تشبث بالتقرير «المقدس» لهيأة الإنصاف والمصالحة، الذي لا يجوز المساس به، فرفض مراجعة ملفي. بعد أن عيل صبري لمدة ثلاثين سنة، انتظارا ليوم أعرف فيه الحقيقة، وبعد أن طرقت جميع الأبواب، قررت عرض قضيتي على الرأي العام الوطني، ليطلع عليها ويعطي رأيه في ما قدمته من خدمة لبلدي في الميدان الثقافي، وقيمة التعويض الذي توصلت به، هل فعلا يجبر هذا المبلغ الضرر الذي لحقني ولحق المثقفين الذين سدت هذه المؤسسة في وجوههم. تركت دراستي وتوظفت في بداية استقلال المغرب وعمري تسعة عشر عاما، حيث كانت البلاد في أمس الحاجة إلى الأطر لسد الفراغ الذي تركه المستعمر. وبمجرد مشاركتي في تظاهرة جماهيرية بفجيج سنة 1961 اعتقلت وقضيت مدة شهر بدون محاكمة بالسجن المركزي بوجدة، بعد إطلاق سراحي وتبرئتي من التهم المنسوبة إلي ذهبت إلى المكتب الذي كنت أشتغل فيه قبل اعتقالي، فجاء المسؤول ليخبرني أنني مرفوض. الاعتقال شمل خمسة وعشرين شخصا، منهم الأساتذة والموظفون، كلهم التحقوا بمناصبهم، كنت الوحيد الذي ضاع منه منصبه الذي قضى به أربع سنوات. انتقلت للعمل، لمدة سنة، في مفتشية التعليم بالناضور ثم لنيابة التعليم بوجدة، هناك دعت نقابة التعليم إلى شن إضراب عن العمل، تضامنا مع مندوب الوزارة الذي صدر في حقه أمر بالانتقال إلى الحسيمة، شاركت في الإضراب، الذي كان عاما، كبقية المنتسبين لهذه المهنة، فاعتقلت من باب النيابة من طرف الشرطة، قاضي التحقيق أطلق سراحي طالبا مني عدم مغادرة المدينة إلا بإذن منه، لأن السراح مؤقت. فلما جيء بالنائب الجديد للتعليم كان أول قرار اتخذه، حتى دون أن يراني، هو إبعادي من وجدة إلى جبال الريف، مانعا إياي من العمل بمدينة الناضور أو ازغنغان، رغم وجود مدارس محتاجة لمدرسين. كنت الوحيد، كذلك، الذي تعرض لهذا الانتقام، الشيء الذي دفعني إلى تقديم استقالتي. وحين كانت تعرض علي مناصب من جهات أخرى بالإقليم كان النائب يتدخل لمنعهم من توظيفي، محذرا إياهم من مغبة تأثير أفكاري على الأساتذة والطلبة. وبهذا يكون ضاع مني سنة ونصف من العمل مضافة إلى الأربع سنوات التي ضاعت بفجيج. بطلب من الشهيد عمر بنجلون ذهبت إلى الدارالبيضاء لأشتغل في كتابة الضبط لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم أكمل شهري الرابع بهذا العمل الجديد حتى حلت يوم 16 يوليوز 1963 سيارات الشرطة لتقتاد كل من كان في المقر، (75 شخصا، باستثناء بنتين)، إلى مخفر الشرطة المركزي بالمعاريف بمن فيهم الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ التبر، اللذان أخلي سبيلهما عند مدخل المخفر. قضيت شهرا كاملا في المخفر، بعد استنطاقي في درب مولاي الشريف تم إطلاق سراحي يوم 16 غشت 1963 رفقة زميل كان يشتغل معي في الكتابة العامة للحزب، الذي اتفق معي على أن نتقابل في اليوم الموالي بالمطبعة التي كان الحزب في طور تجهيزها بزنقة الجندي روش بحي المجازر. كانت المطبعة في بداياتها تحتوي على آلة «روطاتيف» لطبع الجرائد وأربع آلات «لينوتيب» للتصفيف، بدون عمال. زميلي أسندت له مهمة مدير تجاري وأنا مسؤول عن المعمل والعمال ومسؤولية رمزية كمدير عام للسيد محمد منصور، الذي لم يكن يأتي للمطبعة إلا نادرا. شرعنا أول الأمر في طباعة جريدة المحرر بإدارة الأستاذ ابراهيم الباعمراني، مستعينين ببعض العمال المختصين. جاءت بعدها جريدة ليبراسيون Libération بإدارة الدكتور محمد لحبابي وعبد الغني الصبيحي رئيسا للتحرير، ثم جريدة الأهداف بإدارة الأستاذ أحمد الخراص والأستاذ مصطفى القرشاوي رئيسا للتحرير. وهذه الجرائد كانت كلها أسبوعية، في البداية. مضايقات الشرطة كانت حاضرة من البداية. فكثيرا ما تعرضت هذه الجرائد للمنع من التداول، هناك رجال شرطة طول الوقت عند باب المطبعة يفتشون العمال عند الخروج لمنعهم من أخذ نسخة من الجريدة، التي بتنا الليل كله نشتغل من أجل طبعها. أذكر هنا أن يوما حضر الدكتور عبد اللطيف بنجلون لأخذ نسخة من جريدة المحرر، وكان ساعتها رئيس الفريق الاتحادي بمجلس النواب، فسحبها منه الشرطي. آلمني جدا هذا الموقف، فتبادرت إلى ذهني حيلة. كنت أملك، أنا وشخص آخر معي في الشغل، دراجتين ناريتين بمقاعد طويلة، صرنا نفرغها من محتواها ونملأها بالجرائد لنخرج بها أمام الشرطة، التي تفتشنا نحن دون أن تنتبه لما في الدراجات، فنوصلها إلى متجر مناضل اتحادي ليقوم هو بتسليمها، لعدد من الأشخاص المعينين. وهكذا توالى عملنا في إخراج الجرائد دون أن يكتشف أمرنا. عندما تزوجت سنة 1966 ارتقت إلى 700 درهم، لتعويض النقص المادي كنت أعمل ساعات إضافية بمطبعة «أمبرجيما» التابعة للاتحاد المغربي للشغل من الثانية ليلا إلى الثامنة صباحا، لأكون في دار النشر في الوقت المحدد. لما ذهبت للعمل رسميا بأمبرجيما كنت أشتغل من السابعة صباحا إلى الواحدة زوالا بجريدة La Dépèche بأجرة 2200 درهم للشهر، ليسند إلي بعد ذلك عمل بجريدة Maroc Maritime خاصة بحركة الموانئ، من السادسة مساء إلى الساعة التاسعة، لتنضاف لأجرتي 1500 درهم. للطرافة، أذكر هنا، أن مدير مطبعة أمبرجيما جاءني مرة وأنا منهمك في تصفيف الصفحتين المخصصتين لي في جريدة La Dépèche فطلب مني تعمد ارتكاب أخطاء في كتابتي، فلما سألته عن القصد من هذا الطلب الغريب، قال أن الصحافيين اشتكوا مني عدم ارتكاب ولو خطأ واحدا في ما أصففه، فيعيدوا قراءته مرة أخرى، وبدون جدوى، فيضيع منهم الكثير من الوقت، أجبته بما أن هذا الأمر يتكرر يوميا فلا داعي لمراجعة عملي. وكذلك كان، فصارت الصفحتان تمران بدون تصحيح. في سنة 1972 غادرت أمبرجيما وأسست شركتي الخاصة بالتصفيف المطبعي «لينو النخلة»، بداية سنة 1980 اقتنيت أول آلة للتصفيف الإلكتروني Compugraphic الأمريكية عرضتها شركة فرنسية بالفندق الملكي بالدارالبيضاء. هذه الآلة ذاع صيتها على الصعيد العالمي، زارني مرتان الأستاذ أحمد الأخضر غزال، مدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب في العالم العربي (رحمه الله)، فلما عاين الآلة وطريقة عملها وجودة خطوطها، لم يتمالك عن إبداء إعجابه بها ويقول لي «إن هذه الآلة ستقلب وجه الطباعة»، وحتى لما تقدمت بطلب السماح لي من طرف وزارة الصناعة باستغلال هذه الآلة، واستشاروا مع الأستاذ أحمد غزال، قال لهم «أعطوه الترخيص، فإنه سيقدم لبلده خدمة لم يقدمها أحد قبله»، بعده زارني مدير جريدة الصباح التونسية ومدير مؤسسة نشر فرنسية، لنفس الغرض. بدأت تبرز ملامح هذه الآلة عند شروعنا في طباعة بعض المجلات الثقافية، في مقدمتهم «مجلة الثقافة الجديدة» التي كان يديرها الأستاذ محمد بنيس بمعية الأساتذة: مصطفى المسناوي، عبد الكريم برشيد، محمد البوكري وعبد الله راجع. لتليها بعد ذلك مجلة «الزمان المغربي» للأستاذ سعيد علوش والأستاذة أمينة البلغيثي. ولمواكبة هذه النهضة الثقافية عمدت إلى إنشاء «مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر». ونظرا للمعاملة والتسهيلات التي كانت تقدمها المِؤسسة الفتية للمثقفين صارت قبلة للجميع، وصلنا إلى 22 دورية، منها، بالإضافة إلى مجلة الثقافة الجديدة والزمان المغربي، مجلة «أبحاث» للأستاذ عبد الله ساعف (وزير تعليم سابق)، مجلة «البديل» للأستاذ حميش (وزير ثقافة سابق)، مجلة «الفرقان» التي كان يرأس تحريرها د.سعد الدين العثماني (وزير الخارجية الحالي)، مجلة «الكتاب المغربي» لجمعية التأليف والترجمة والنشر التي كان يديرها الأستاذ محمد حجي (رحمه الله) بمعية نخبة من أبرز المثقفين، منهم الأستاذ أحمد التوفيق (وزير الأوقاف الحالي)، مجلة «المقدمة» للأستاذ البوعزاوي، مجلة «الهدى» للأستاذ بريش. ويلاحظ من خلال هذه العناوين تباين في الاتجاهات، فهناك مجلات دينية وأخرى علمية وأخرى ثقافية. كنا نقوم بعملنا المطبعي المحض دون تدخل أو إبداء رأي في ما كنا نطبعه. من خلال عملنا برزت كذلك جرائد حزبية ومستقلة، كجريدة «المسار» للأستاذ أحمد بنجلون، عن حزب الطليعة، جريدة «النهج» عن حزب النهج الديمقراطي، جريدة «الهدهد» لأحمد السنوسي (باز). كان أهم إنجاز قامت به المؤسسة سنة 1982 هو طباعة Le Guide de l›Agent d›Autorité في مجلدين من 900 صفحة لكل واحد في زمن قياسي وبجودة عالية، نالت إعجاب وتنويه وزير الداخلية آنذاك. تنوع الإنتاج، فشرعنا في طباعة سلسلة قانونية للأستاذ محمد فركت والأستاذ ابراهيم زعيم المستشاران بمحكمة النقض. تعاملنا مع أبرز المثقفين أمثال محمد حجي وعزيز لحبابي، محمد عابد الجابري، محمد المنوني، عبد الله ابراهيم، فاطمة المرنيسي، عبد اللطيف اللعبي، عبد الله راجع، زفزاف، عبد الله ازريقة، بوزفور، عبد الصمد بلكبير ومحمد ألحيان، وديوان شعر للأستاذ صلاح الوديع وديوان شعر للأستاذة آسية الهاشمي البلغيثي. طبعنا ديوان شعر للأستاذ علي القيطوني (قضى من أجله عشر سنوات في السجن مع الغرامة)، ديوان شعر لعبد الرحمن رحو (منع من التداول)، عدة كتب للمرحوم محمد شكري (حجز منها كتاب الخيمة)، وغير هؤلاء كثير لم أعد أتذكرهم. ليأتي فيما بعد قرار منع تداول مجلة الثقافة الجديدة والمقدمة والبديل، لمجرد أن جريدة لوموند الفرنسية نشرت مقالا يفيد أن السياسة في المغرب صارت تمارس بواسطة المجلات الثقافية، في غياب جرائد المعارضة التي كانت تحتجز بدورها أو تمنع. كل هذه الإنجازات ما كانت لتتم لولا هذه الآلة التي بقيت وحيدة بالمغرب لمدة سنتين، قبل أن تتشجع دور النشر ومطابع الجرائد لشراء مثيلاتها. اقتناها معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بتوصية من اليونسكو، مطبعة الرسالة بالرباط (العلم والرأي)، المطابع المتحدة (لوماتان وماروك سوار)، المطبعة الملكية بالرباط، مدرسة الليمون بالرباط، مطبعة المعارف بالرباط، مطبعة النجاح الجديدةبالدارالبيضاء، إلخ. من هنا يمكن أن نقول أن سنة 1980 أرخت لتطور حقيقي للطباعة بالمغرب، يرجع فيها الفضل لمؤسسة لينو النخلة، وبعدها لمؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، حيث عملت هاتان المؤسستان على فك ارتباط مثقفينا بدور النشر المشرقية، وخلق ديناميكية ثقافية غير مسبوقة ببلادنا. سنة 1985 لم تكن قد أُنشأت المحاكم الإدارية التي يمكنني الالتجاء إليها، ولا مؤسسة الوسيط. توجهت إلى وزارة الداخلية، حيث كان اسمي متداولا بكثرة لدى الجميع، لما كنت أطبع «دليل رجل السلطة». فطُلب مني وضع شكاية مكتوبة. لما استشرت أحد معارفي في الديوان الملكي قال لي أن لا داعي للشكاية. لم تمض إلا أيام قلائل ليستدعى العامل للرباط، فلم نسمع عنه بعد ذلك، ولم يظهر له أثر. لما جاء خلفه في العمالة، بتوصية من بعض معارفه استقبلني وطلب مني إعطاءه مهلة شهرين للنظر في قضيتي لأن هناك قضايا كثيرة وشائكة تركها سلفه تستدعي الاستعجال في حلها. مر شهران، وبدأ التسويف وأنا تتراكم علي صوائر الكراء وأجور بعض العمال الذين احتفظت بهم، طرقت باب مدير الشؤون العامة بالعمالة، فاشترط علي لاستئناف العمل، إحضار نسخة من أي كتاب أو مجلة طبعتها، قبل خروجها من المطبعة. عرضت عليه إحضار المخطوط أو التجربة الأخيرة، قبل السحب، للاطلاع عليها، لأن الرقابة كانت من اختصاص وكيل الملك وتشمل جميع المطابع التي تتعامل مع الكتاب، وبعد ذلك ألغيت هذه الرقابة، وصار مطلوبا أن يكون مذكورا اسم المؤلف وعنوان الكتاب بالإضافة إلى المؤسسة التي قامت بعملية الطبع، وذلك ما كنت أطبقه. فقال لي مدير الشؤون العامة «إن كثرة إصدارات المؤسسة تجعلنا عاجزين عن متابعتها في المكتبات، وكثيرا ما نتلقى توبيخات من الوزارة التي عملت على حجز البعض منها». وبما أنني لم أقبل الشرط التعجيزي الذي عرض علي لم يبق أمامي إلا خيار واحد، هو إعطاء العمال مستحقاتهم وبيع الآلات بأبخس الأثمان لتسديد بعض الديون وتسليم المفاتيح لمالكها. رغم قساوة ما عانيته طيلة مشوار عملي لم أبخل على بلدي بأي شيء يرفع من شأنها في الميدان الذي أحببته وأخلصت له أكثر من أي مهني آخر. من جملة ما قمت به أنشأت مجلة خاصة بالمهنة «مجلة الطباعة والنشر»، كنت أبعث منها نسخا بالمجان لدور النشر العربية حتى أبين لها أين وصل المغرب في الميدان الذي كان متخلفا فيه ويعتمد مثقفوه على الشرق العربي لنشر كتبهم. أسست «جمعية المطابع الصغيرة والمتوسطة بالمغرب» لأول مرة في تاريخ المهنة، ساهمت في إنشاء «اتحاد ناشري المغرب العربي»، لبيت الدعوات التي كانت توجه إلي من طرف وزارة الثقافة لحضور وإغناء الندوات التي نظمتها في كل من العيون بالصحراء المغربية أو بفاس أو بالدارالبيضاء. حبي المفرط لهذه المهنة ألب علي ناشري الكتاب المدرسي، ذلك أنه خلال أحد معارض الكتاب بالدارالبيضاء وأثناء إلقاء وزير الثقافة لكلمته في افتتاح المعرض، طالبا من الناشرين الاستثمار في ميدان الكتاب، بدل الاعتماد على الخارج في طباعة الكتاب المدرسي، الذي يكلف ميزانية ضخمة، قاطعت الوزير، بدون شعور، لأقول له كيف تريد منهم أن يستثمروا في الكتاب ويتركوا العقار. في الغد جاء من يقول لي بأني تعديت الحدود بكلامي وأن الناشرين ينذرونني أن أعود إلى مثل هذا الكلام غير المسؤول. وعندما ذهبت لحضور ندوة فاس للثقافة المغربية، وجدتهم مجتمعين في مدخل القاعة، فما إن اقتربت منهم حتى نادوا علي وأخبروني أنهم في انتظاري ليطلبوا مني أن أترك الندوة تمر بسلام، خاصة أنه كان من بين الحضور، بالإضافة إلى وزير الثقافة، مستشارا جلالة الملك الأستاذ أحمد بنسودة وأحمد العلوي. مع ذلك استفزازي للناشرين لم يذهب هباء، فمنهم من استدعاني، بعد فترة، لمعاينة الآلات التي اشتروها، وكأنهم يقولون لي «ها نحن نستثمر»، حتى لا أعود إلى الكلام في الموضوع. في لقاء بين الناشرين وأساتذة وطلبة كلية عين الشق واجه بعض الأساتذة الناشرين ونعتوهم بأنهم يغتنون على حساب الكتاب، الذين لا يرون منهم مقابلا ماديا لأعمالهم التي ينشرونها لهم، بخلاف مؤسسة «بنشرة» التي يتوصل المتعاملون معها بمستحقاتهم خلال مدة لا تتعدى ستة أشهر. محمد شكري صرح لي أنه لم ينعم بمقابل لأعماله إلا بعد أن تعامل مع مؤسسة «بنشرة». في كلمة ألقاها الأستاذ عبد الله شقرون في أحد معارض الكتاب بالدارالبيضاء أمام جمهور من المثقفين والناشرين، وكان إذاك مديرا لديوان وزير الثقافة، قال: «إذا الثقافة ازدهرت في المغرب فالفضل يرجع للحاج بنشرة». أساتذة من المشرق كانوا يدرسون بجامعاتنا كاتبوني منوهين بالعمل الجيد الذي بدأ يبرز لأول مرة بالمغرب من خلال مطبوعات مؤسسة «بنشرة». بعد إغلاق «مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر» صار عملي محصورا في «لينو النخلة» للتصفيف حيث أنجزت لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أربعة أجزاء من النوازل الصغرى واثني عشر جزءا من النوازل الكبرى و9 أجزاء من سنن ابن ماجة وعشرات الكتب غيرها، التي كان يشرف على مراجعتها وتصحيحها الفقيه والعلامة عمر بنعباد، من المجلس العلمي بالرباط مع محمد الغلبزوري. اضطريت في النهاية إلى إغلاقها بدورها، بعد أن تكاثرت علي الديون والضرائب التي لم أكن أعرف من أين تأتي وعرضتني عدة مرات للإكراه البدني. هنا أتساءل، هل إغلاق المطبعة كان بقرار شخصي من العامل أم بإيعاز من جهة أخرى. العامل كان يكره مجلة الفرقان ويمنع مديرها الشيخ زوحل من بيعها في المكتبة التي كانت عنده في بين المدن، التابعة لنفوذه. كما كنت أتلقى مكالمات مجهولة تطلب مني عدم طبعها، فلم أستجب، وهنا قلت أن ربما أراد استئصال هذه المجلة من جذورها والتخلص منها بإغلاق المطبعة. والذي يجعلني، في بعض المرات، أبعد فرضية كون العملية من تدبير العامل، هو أنني ذهبت مرة لاستفساره عن سبب الإغلاق، فتقابلت في بهو العمالة مع رئيس جماعة الحي الحسني، والذي كانت تدخل مطبعتي في مجاله الترابي، فسألني عن قصدي من الزيارة، فلما أخبرته طلب مني الانصراف، حيث سيتكفل هو بحل المشكل مع العامل. اطمأنيت إليه، خاصة أنه، بالإضافة إلى كونه رئيس جماعة فهو نائب رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء، ومن نفس الحزب، يمكنه فعلا أن يجد لي حلا، وبما أنني كنت أعرف هذا الشخص جيدا ويعرفني حق المعرفة فكنت أذهب لبيته لاستفساره عما جد في الأمر، فكانت تُقال لي العبارة التي نستخدمها للتخلص من شخص مزعج، «إنه في الحمام»، وفي الجماعة يقال لي «إنه في اجتماع». فاكتشفت بعد وقت يسير أنه أنشأ في عمارة فخمة يملكها بأحد أهم شوارع الدارالبيضاء دار نشر لابنه وشرع في الاتصال بكبار الكتاب أمثال محمد الأشعري ومحمد برادة وحسن نجمي. هنا رجعت بي الذاكرة إلى سنة 1983 حيث كان المغرب يستعد لإجراء انتخابات جماعية، حضر ذات صباح باكر إلى مكتبي الكاتب العام (الرجل القوي) للحزب الذي كان في السلطة، وينتمي إليه رئيس هذه الجماعة، مرفوقا بأمين المال، فأثنى علي وعلى السمعة الطيبة التي أتمتع بها في أوساط المثقفين، وبين لي أن الحزب يبحث عن أمثالي ليزكي بهم صفوفه، فعرض علي أن أتكفل بمطبوعات الحزب التي تقدر بثلاثة ملايين درهم، نصيبي فيها نصف المبلغ، إن قبلت الانضمام للحزب. كان مبلغا مهما جدا يصعب على أي شخص رفضه، ما هو لا رشوة ولا سرقة، ولكني أجبته أنني لا أملك إلا تلك السمعة، وقد طلقت السياسة وندرت حياتي لخدمة الثقافة التي لا أبغي غيرها بديلا. الرجل لم يستسغ جوابي وصار يلح علي في التفكير مليا في العرض الذي لا يمكن تقديمه لأحد غيري، وأمام ثباتي في موقفي انصرف وهو غير واثق مما سمعه. هل كان هذا الرجل القوي في حزب كانت مقدرات البلاد في يده سيتقبل هذه اللطمة بسهولة، لا أظن. وعلى هذا فعندما رأيت دار نشر تنشأ على أنقاض مؤسستي بدأت الشكوك تخامرني في أن مخططا دبر من هذا الحزب لتدميري، وما كان رئيس الجماعة إلا آلة لتنفيذ حكم الإعدام في حقي. إن من حقوق الإنسان الثابتة عدم حرمان الشخص من التكسب من أجل العيش، قال سيدنا عمر (رضي الله عنه): «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق». فماذا نقول في هذا الذي قطع رزق أربعين شخصا، ألا يدخل هذا ضمن اختصاص الهيئات الحقوقية، دلونا على الجهة المختصة، أم يبقى الظلم ظلما إلى يوم القيامة. لذا أقول هل أنصفتنا الهيأة المستقلة؟ هيأة الإنصاف والمصالحة؟ المجلس الوطني لحقوق الإنسان؟ لا، ثم لا، فلا. فداك وطني... كل ما قدمته هو خالصا لك... لا أبغي عنه مقابلا. أنا الآن في الخامسة والسبعين من العمر، لا أنتظر إلا نداء المنادي لأذهب مرتاح الضمير، قدمت كل شيء ولم آخذ أي شيء، أما أولادي الأربعة الذين أكبرهم عمره ثلاث عشرة سنة وأصغرهم سنة ونصف فرزقهم عند الذي خلقهم.