حصل ذلك قبل شهر رمضان. دعوتُ المناضل الفذ والكاتب الجميل الأستاذ واصف منصور إلى مشارف. كنت قد قرأت كتابه الأخير (بعضٌ مني) باستمتاع. مرة هتف لي فوجدني بالصدفة في تلك اللحظة بالذات مستغرقا في قراءة كتابه الشيق. قلت له: الأستاذ واصف، آلمني وفتنني في نفس الوقت ما كتبته عن المخيم: سبعة أفراد متكدسين داخل خيمة، ومئات الخيام منصوبة على رقعة ضيقة جدا من الأرض وحشد من المُهجَّرين يعيشون على البقول البرية من خبيزة ورجلة وهندباء. فاسترسل الرجل في تفاصيل أخرى من حياة المخيم لم يتضمنها الكتاب. قلت له: لعل حياتكم في المخيم الذي وجدت نفسك فيه مباشرة بعد النكبة يحتاج عملا أدبيا لوحده. وفعلا كانت ذاكرة الرجل متقدة ووجدانه حيا. يكفي أن تقرؤوا كتابه الأخير (بعضٌ مني: رحلة لجوء من حيفا إلى الرباط) لتتأكدوا بأنفسكم. اتفقنا إذن على تصوير حلقة من مشارف. وفعلا سجلناها مباشرة قبيل رمضان ثم عدنا إلى الرباط. في اليوم الموالي التقينا أمام المكتبة الوطنية. كنت في معرض الكتاب الأخير قد تحدثت مع الأستاذ واصف منصور عن أخيه وصديقه وأستاذه محمد جسوس، وكان واصف منصور يلح بإصراره المعروف على أن أسجل حلقة من مشارف مع محمد جسوس. أكدت للأستاذ واصف أن رغبتي في استضافة أستاذ الأجيال قائمة منذ مدة. «علينا متابعة الأمر إذن، وخير البر عاجله»، هكذا حسم أبو سفيان الأمر. في الرباط التقينا أمام المكتبة الوطنية ثم انطلقنا إلى بيت محمد جسوس. كان واصف منصور قد تكفل بتحديد الموعد معه. لكن ونحن هناك أمام بيت جسوس، ظل واصف منصور يضغط على الجرس لأكثر من عشر دقائق، لكن لا أحد يرد. أخبرنا حارس في الجوار بأن الأستاذ جسوس خرج مع السيدة زوجته. أحس الراحل بالحرج وبدأ يعتذر. قلت له ممازحا: الأستاذ واصف، أخوك وحبيبك محمود درويش كان يقول: لا تعتذر عما فعلت، فما بالك تعتذر يا سيدي عمَّ لم تفعل؟» عاد الانبساط إلى وجهه وأطلق قهقهته العالية وقال لي: «اسمع يا ياسين، أنا حريص جدا على أن تسجل حلقة من مشارف مع جسوس. الرجل مريض والأعمار بيد الله، لذا أنصحك بأن تعجل بتسجيل حلقة مع السي محمد قبل أن يغادرنا ذات صباح فتندم.» ووعدني بأن يجدد ربط الاتصال بيني وبين محمد جسوس مباشرة بعد رمضان. ها هو رمضان قد انصرم وجاء شوال. أنا خارج البلد الآن في هذه الإقامة الأدبية الأمريكية التي ستستمر حتى نهاية شهر غشت. بعد غد الأربعاء ستبث حلقة مشارف مع واصف منصور على شاشة الأولى. لكن الفارس الفلسطيني النبيل أبو سفيان واصف منصور هو الذي ترجل في غفلة عنا جميعا وانسحب في هدوء تماما كما يفعل الكبار. ومع ذلك فالكبار حينما يرحلون يتركون دائما بعضا منهم فينا وبيننا. (بعضٌ مني) المذكرات الرائعة التي أنصح كل الأصدقاء بقراءتها.. وبعض من واصف منصور في مشارف هذا الأربعاء.. آخر حوار أجري مع هذا الفارس الفلسطيني المغربي النبيل قبل رحيله.. لن أقول لكم فرجة ممتعة. ستكون فرجة يخالطها الكثير من الأسى. رحم الله الفقيد. (حلقة مشارف مع السياسي والأديب الفلسطيني الراحل الدكتور واصف منصور على شاشة القناة المغربية الأولى مساء الأربعاء 14 غشت على الساعة الحادية عشرة و35 دقيقة ليلا بالتوقيت المحلي المغربي)