«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. يعتقد بعض المؤرخين و علماء السياسة الإسرائيليين، بأن بن غوريون كان يأمل اندلاع نزاع مسلح، من شأنه أن يُتيح له بلوغ كثير من أهدافه: توسيع الدولة اليهودية، التخلص من معظم سكانها المحليين، اقتسام فلسطين مع شرق الأردن. و قد كان «ناحوم غولدمان»، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية قبل أن يرأس المؤتمر اليهودي العالمي، واحدا من الذين يظنون ذلك. فقد حدثني القائد الصهيوني، الذي كانت تربطني به علاقات ودية وطيدة، بتفصيل عن الطريقة التي كان بالإمكان تفادي الحرب من خلالها. فعقب محادثات أجراها في الولاياتالمتحدة مع عدة شخصيات عربية سامية، و خاصة المصرية منها، أقنَعَتهُ بأن حكومة القاهرة - متبوعة بباقي العواصم العربية و بالفلسطينيين- ستوافق مع بعض الشروط على مخطط التقسيم. و قد أبلغ بن غوريون بذلك، داعيا إياه إلى تأجيل تاريخ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل إلى ما بعد 15 ماي 1948، كي تتوصل المفاوضات إلى اتفاق. فمن خلال الحكومة الأمريكية كانت الدول العربية تأمل في أن يتم تأجيل الإعلان عن الدولة لمدة ثلاثة شهور، و هي فترة تتيح التوصل إلى تسوية. إلا أن بن غوريون رفض فورا و عمل على أن يتم رفض هذا الاقتراح من طرف قيادة الوكالة اليهودية. لقد كان بإمكان تاريخ دولة إسرائيل أن يتغير جذريا لو أنه وافق على التسوية المقترحة عليه. قرر بن غوريون عكس ذلك، لأنه اعتبر أن مشروعه الحربي سيقود إلى النتيجة التي يريد، أي أرضا أوسع مع مقيمين فلسطينيين أقل، علاوة على أنه كان يؤمن بأن «الييشوف» (الطائفة اليهودية في فلسطين) كانت ستنتصر في حربها المحتملة ضد الدول العربية. فقبل ثلاثة شهور على إنشاء الدولة، في فبراير 1948، و في الوقت الذي كان يصرُخ فيه عاليا بأن العرب يستعدون لتنفيذ «هولوكوست جديد»، كتب سرا إلى زميله «موشي شاريت» المبعوث في مهمة بالولاياتالمتحدة: «باستطاعتنا احتلال مجموع فلسطين، فليس لدي أدنى شك في ذلك». و قد كانت «السي آي إيه» و البنتاغون و وزارة الخارجية الأمريكية - حسب الوثائق التي تم الكشف عنها في نهاية السبعينات و التي نشرتها المؤرخة الأمريكية «إيرين جندزيير»- جميعها تشاطره هذا الرأي. فالقوات اليهودية، الخاضعة لقيادة وحيدة، جيدة التدريب، المجهزة بأسلحة حديثة من الدول الشيوعية، خاصة من تشيكوسلوفاكيا، لا يُمكنها إلا أن تنتصر على جيوش عربية سيئة التسليح، عديمة التجربة، ناقصة الحماس و العاملة بشكل متفرق بسبب العلاقات الخلافية بين حكوماتها. فميزان القوى كان لصالح إسرائيل بشكل واضح، سواء على المستوى النوعي أو العددي. و لأنه كان واثقا من انتصار القوات اليهودية، فإن بن غوريون، حسب كاتب سيرته «ميشيل بارزوهار»، اقترح على القيادة الصهيونية، التي وافقت على ذلك، أن لا يتضمن إعلان الاستقلال، يوم 15 ماي ، حدودا للدولة الجديدة، معتبرا أن هذه الحدود سوف تُرسم بقوة السلاح. و هكذا مرت عدة عقود دون أن نعرف أين تقع حدود الدولة اليهودية. كان الإعلان عن أن جيوش ست دول عربية تغزو فلسطين أمر مُقلق بدون شك. بيد أن الواقع، المخفي بعناية من طرفي النزاع معا لمبررات مختلفة، سوف يطفو، مع ذلك، على السطح. فحسب المؤرخ «هنري لورنس»، عضو «الكوليج دو فرانس»، فإن عديد القوات اليهودية كان في البداية 38 ألف رجل، بينما كان عديد الجيوش العربية يصل إلى 20 ألف رجل (بمن فيهم المتطوعون)، بدون أي تكوين جدي، مبعوثين من طرف الإخوان المسلمين المصريين. و حسب تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) بتاريخ 27 يوليوز 1948، ذكرته المؤرخة «إيرين جندزير»، فإن عدد القوات اليهودية كان يصل إلى 79800 رجل في مقابل 46800 عربي داخل و خارج فلسطين. هذا الخلل يعود إلى تواضع التجريدات العربية، التي لم تُرسل ثلاثُ دول منها - سوريا و لبنان و السعودية ? سوى وحدة لا تتجاوز الواحدة منها ألف رجل. كان هناك جيشان فقط يمكن أخذهما بعين الاعتبار: جيش مصر و جيش شرق الأردن. و كانت فرقة الملك عبد الله متواطئة مع الجيش الإسرائيلي، فباستثناء مرتين أو ثلاث فقد تفادى الجيش الأردني المواجهة مع القوات الصهيونية، حتى حينما كانت هذه الأخيرة تقوم بطرد كثيف للفلسطينيين. و حارب استثناء لمنع إسرائيل من احتلال القدس الشرقية، حيث تقع الأماكن المقدسة للمسلمين، لأن الملك عبد الله، حفيد الرسول (عليه السلام.م)، كان حريصا على أن يظل حاميا لها. أما بالنسبة للجيش المصري،المجهز بأسلحة مهترئة، بقيادة ضباط غير أكفاء، و المحروم من أية تعليمات محددة، فإن هزيمته كانت مؤكدة، كما فسر ذلك في مذكراته، جمال عبد الناصر الزعيم المقبل للثورة المصرية. هذه الوضعية لم تحصل صدفة: فطيلة شهور، تفادت الدول العربية، و في مقدمتها مصر، الدخول في الحرب، خشية تفتيت جيوشها، التي كانت تقتصر مهمتها على حماية أنظمة لاشعبية. و قبل شهر واحد من الحرب، صرح الوزير الأول المصري، محمود النقراشي باشا، أمام البرلمان أنه يعارض أي عمل عسكري ضد الدولة اليهودية المقبلة. و فقط قبل ثمان و أربعين ساعة من اندلاع الحرب، رضخ لأوامر الملك فاروق، و هو مع الملك السعودي الخصم اللدود للمملكة الهاشمية، كانا مُصممين على منع الملك عبد الله من توسيع مملكته. كما رضخت حكومة القاهرة لضغوط الرأي العام المتأثر لعمليات التهجير المكثفة للفلسطينيين. ويقول محمد حسنين هيكل، و هو صحفي كبير في يومية مصرية، أن الوزير الأول لامه لكونه يُلهب مشاعر قرائه بشكل خطير، بنشره مقالات حول هذا الموضوع. إذن فإن أغلب الجيوش العربية خاضت مُكرهة هذه المغامرة، ليس من أجل «طرد اليهود إلى البحر» - فقد كانت تعرف بكل تأكيد أنها غير قادرة على ذلك-، بل لمنع إسرائيل و مملكة شرق الأردن من اقتسام الأرض المقدسة، طبقا لاتفاق الملك عبد الله و «غولدا مايير» الذي علموا بوجوده. لا شك أن «غَلوب باشا»، الضابط البريطاني قائد الفيلق العربي، قد أهان الإسرائيليين حين وصف النزاع بأنه «حرب تمثيلية»، في حين أنه كبد إسرائيل خسائر بشرية كبيرة، تُعتبر الأعلى في تاريخها. فقد أدت الدولة اليهودية ،فعلا، الثمن غاليا في احتلالها للأراضي التي لم تمنحها الأممالمتحدة لها، مما أتاح لها احتلال 78 بالمائة من فلسطين مع تخليها عن الباقي لمملكة شرق الأردن. و هكذا ربح «بن غوريون» رهانه: فقد منع وقوع «هولوكوست» جديد و انتصر على «ستة جيوش عربية متحالفة»، مما أثار إعجاب مواطنيه و تقدير الرأي العام العالمي الغربي، وزاد مساحة الدولة الجديدة ب24 بالمائة، و حال دون إنشاء دولة فلسطينية. بل أكثر من هذا كله سمحت له عمليات التطهير العرقي بتقليص الساكنة العربية في إسرائيل بشكل كبير. ما أصبح يُسمى «حرب الاستقلال» في إسرائيل و «النكبة» في العالم العربي، لم تستفد منه إسرائيل سوى ظاهريا. فالواقع أن النصر المزدوج الذي أحرزته إسرائيل في 1947-1948 ما فتيء يُسمم العلاقات بين الدولة اليهودية و جيرانها، مُتسببا في توترات دائمة و حروب متكررة. فمنذ السنوات الأولى، طفقت الدول العربية في مطالبة إسرائيل بإعادة الأراضي المحتلة وراء حدود التقسيم الأممي، و بتطبيق قرار الأممالمتحدة المتعلق باللاجئين الفلسطينيين الذين لم يكُف عددهم عن التزايد. لم يتمكن هؤلاء اللاجئون من الاندماج في أي بلد غير بلدهم. و قد لاحظت، بمناسبة تحقيق أجريتُه ثلاثين عاما بعد ذلك في دول عربية مختلفة، أنهم لا يقبلون الاندماج حتى و لو حصلوا على جنسية البلد المضيف، مثلما وقع في الأردن، و حتى و لو بلغوا - كما في المملكة الهاشمية أو إمارات الخليج- أعلى المراتب و أسمى المناصب. و بعد إخفاق القومية الناصرية عكس كل التوقعات، لم يبق سوى إسرائيل التي تعتقد أو تدعي الاعتقاد بوجود أمة عربية متجانسة يمكن للفلسطينيين أن يذوبوا فيها. فمحاوريي الفلسطينيون المنتمون للنخبة - محامون و قضاة و رجال أعمال و موظفون سامون، أثرياء- يعتبرون أنفسهم غرباء في بلدان الاستقبال، و كانوا يُعاملون كذلك بالفعل، حيث يخضعون لتدابير تمييزية و يُطردون في بعض المرات لأسباب سياسية. في حين أن التضامن الذي يعبر عنه الرأي العام العربي تجاههم، عكس الحكومات، كان يجد مصدره في التعاطف الأصيل مع شعب شقيق مطرود من وطنه. لاحظت أيضا أن هؤلاء المنفيين يحرصون على خصوصيتهم الوطنية، و على لهجتهم و تاريخهم العريق في الأرض المقدسة، و على تقاليدهم الثقافية، بل حتى على وصفاتهم المطبخية، كما كانوا يتحاشون الزواج «المختلط» مع عرب آخرين. خصوصا و أنهم لم يتمكنوا من التخلي عن وَهم «حق العودة» الذي قد تقبله إسرائيل في يوم من الأيام، أو أن هذه الأخيرة ستختفي في النهاية. و قد وصف لي اللاجئون، الذين يعيشون بائسين في مخيمات الأممالمتحدة، التي زُرتُها، خاصة في الأردن و لبنان و سوريا، قُراهم الأصلية كما لو أنهم غادروها البارحة، في حين أن هذه القرى قد اختفت منذ عقود. و قد احتفظ كثير منهم بمفاتيح سكنهم، و هم لا يعرفون أو يزعمون أنهم لا يعرفون بأنها قد تحولت إلى رماد. و الغريب، هو أن الشباب، من الجيل الثاني أو الثالث، الذين ولدوا في الغربة، لا زالوا يتشاطرون نفس أوهام و عواطف آبائهم و جدودهم، مع حماس أكبر لمكافحة «الغاصبين الصهاينة». لقد أخطأ بن غوريون كثيرا حينما صرح غداة الهجرة الفلسطينية الكبرى: «سيموت الكبار و سينسى الصغار». فالجيل الجديد لم ينس، بل شرع في تنظيم حركات مقاومة، على رأسها حركة «فتح» ياسر عرفات، ازدهرت في مخيمات اللاجئين نفسها. و قد تفاقم المشكل مع مر السنين، حيث ازداد عدد اللاجئين، و لا زال الملايين من بينهم يطالبون حتى اليوم بحق الاختيار بين العودة أو التعويض عن أملاكهم المُصادرة، و هو الحق الذي اعترفت به الأممالمتحدة في قرار لجمعيتها العامة تم التصويت عليه في دسمبر 1948 ، و هو قرار قبلته إسرائيل خلال انضمامها للمنظمة الدولية. و مع ذلك فإن هذا المطلب ترفضه إسرائيل التي - رغم أبحاث المؤرخين الجدد- تدعي بأن هؤلاء اللاجئين قد غادروا بلدهم طوعا، مُستجيبين لنداءات القادة العرب، الذين عليهم تحمل مسؤولياتهم كاملة في ذلك. كما لم يتوقع «بن غوريون» أن يتضاعف عدد الفلسطينيين الذين قبل بتواجدهم فوق التراب اليهودي سنة 1949 ،إلى درجة أن يتحولوا إلى مشكلة في حد ذاتهم، يعتبرها البعض تهديدا لاستمرار الدولة اليهودية. فعددهم قد تضاعف أكثر من عشر مرات، من مائة ألف سنة 1949 إلى مليون ومائتي ألف سنة 2011. فهم يشكلون 20 بالمائة من ساكنة إسرائيل (مقابل 12 بالمائة سنة 1949)، بالرغم من الهجرة الكثيفة لليهود السوفييت. و ستزداد حصة العرب بكل تأكيد إذا ما تقلصت هجرة اليهود أو نَضُبَت. و من هنا فإن الكثيرين يتخوفون أن تتحول طبيعة الدولة التي تصورها «ثيودور هرتزل» و ورثته ، إلى كيان هجين أو ذي أغلبية عربية. و عكس كل توقع، فإن ستين عاما من التساكن لم تسمح بتحسين مصير الأقلية العربية. فالتوترات لم تتوقف عن التزايد، إلى درجة أن صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت في ماي 2008، بمناسبة الذكرى السنوية لقيام الدولة العبرية، تحقيقا مطولا تحت عنوان : «بعد ستين عاما من المواطنة، العرب غرباء في إسرائيل». وغالبا ما يُطلق بعض المسؤولين السياسيين أو الصحفيين المنتمين لليمين الإسرائيلي، على الأقلية العربية ألقاب أو نعوتات مثل «التهديد الدمغرافي» أو «القنبلة الموقوتة» أو «السرطان» الذي ينبغي استئصاله أو «الطابور الخامس» الذي يجب القضاء عليه. و للتحكم في هذا التزايد السكاني العربي، تم إصدار قانون سنة 2003 ينص على حظر منح الجنسية و الإقامة لأي أجنبي فلسطيني (خاصة المنحدرين من الأراضي المحتلة) يتزوج مواطنة إسرائيلية، عربية أم لا، و بذلك يضطر الزوجان إلى العيش منفصلين فيما سيكون على الأطفال الناتجين عن هذا الزواج أن يغادروا التراب الإسرائيلي قبل بلوغهم الثانية عشر من العمر. فالعنصرية ضد الفلسطينيين لا تزال حاضرة. فكثير من الشخصيات الإسرائيلية الكبيرة تقارن بشكل علني مواطنيها العرب و كذا سكان الأراضي المحتلة ب»الثعابين» (الحاخام «أوفاديا يوسف» الزعيم الروحي لحزب شاس السفاردي) و ب»التماسيح» التي لا تشبع («إيهود باراك»، الوزير الأول السابق) و ب»الحيوانات المتوحشة التي تمشي على قدمين»(«مناحيم بيغن» الوزير الأول السابق)..إلخ. كما أن استطلاعات الرأي التي تنظم من طرف معاهد إسرائيلية على مر السنين لا تختلف إلا قليلا: فنصف اليهود و أكثر من النصف في معظم الأحيان يتمنون سحب حق التصويت من مُواطنيهم العرب و هم يُؤيدون ترحيلهم إلى ما وراء الحدود ( الترانسفير). كما أظهر تحقيق أُجري سنة 2006 ، أن «الحقد على العرب» متأصل عميقا لدى قوات الأمن، التي كثيرا ما أطلقت النار بنية القتل ضد متظاهرين عرب مسالمين، و هو الأمر الذي لم يحصل أبدا ضد المظاهرات الاحتجاجية لليهود، مع ضمان الإفلات من العقاب لمقترفي عمليات القتل هاته. كما كشف استطلاع رأي آخر تم في نفس السنة أن ثلثي اليهود يرفضون العيش مع العرب في نفس البناية، و يمتنعون عن الدخول إلى الأحياء العربية ، التي يصفونها في بعض الأحيان ب»الغيتو». و قد تطلب الأمر انتظار سنة 2000 ، كي تعتبر المحكمة العليا لادستوريا ، قانونا كان يمنع الأزواج الإسرائيليين اليهود-العرب من الإقامة في المدن المبنية لفائدة المهاجرين اليهود. و يُعاني العرب الإسرائيليون أيضا من التمييز الذي يكرس وضعيتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. فإضافة لإقصائهم من الجيش، بدعوى حالة الحرب مع الدول العربية المجاورة، يُمنع عليهم رسميا شغل مناصب مهمة أو «حساسة» في الوظيفة العمومية أو في مؤسسات القطاع العام، بينما لا تضم الجامعات سوى 2 بالمائة من الأساتذة العرب. و باستثناء «إسحق رابين» خلال مرحلة أوسلو، لم يسبق لأي وزير أول أن ضم ممثلا عربيا في حكومته، فيما أحدث تعيين نائب وزير من العرب ، في بداية 2007 ، رجة كبرى لدى اليمين مما اضطره إلى مغادرة منصبه بعد تعيينه بقليل. و غالبا ما يكون هذا التمييز ضمنيا، بعيدا عن أي ترسيم قانوني. و المثال على هذا التمييز هو أن الكثير من الامتيازات المادية لا يستفيد منها سوى «المستفيدون من حق العودة» أي المهاجرون اليهود، كما أن القانون الذي يمنع أي بناء دون رخصة مسبقة يبدو غير تمييزي إلا أن مثل هذه الرخص لا تُمنح أبدا للمواطنين العرب، لأنهم لا يملكون إلا نادرا الثلاثين ألف دولار المطلوبة للحصول على الرخصة. أما الذين يضطرون إلى توسيع بناياتهم فوق أرض يملكونها لكي تستوعب أفراد أسرتهم المتزايدة لا يتم هدم ما شيدوه فقط، بل يُجبَرون على أداء مصاريف الهدم و جمع البقايا. و في بعض الأحيان يظل ركام الأتربة و الأحجار مكوما، كما لاحظت ذلك في عدة مناسبات، لكي يكون رادعا للذين قد تسول لهم أنفسهم تجاهل القانون. هل هي سياسة تطويق أو تحرش؟ الإثنان معا ربما. فمنذ إنشاء إسرائيل، تم تشييد أكثر من 700 بلدة يهودية في حين كان المنع مصير كل محاولة بناء أو توسيع لمراكز الإسكان الخاصة بالعرب بالرغم من الوتيرة السريعة لتزايدهم الدمغرافي. لذا فليس لهم من حل سوى التكدس في مساكن ضيقة و غير صحية. تشير الإحصاءات الرسمية - التي نقلها المؤرخ «طوم سيغيف»- بعد عشرين عاما على قيام الدولة اليهودية أن ثلاثة أرباع القرى العربية محرومة من الماء و الكهرباء كما أن مجموع البلدات العربية لم يكن يتوفر على مجاري الصرف الصحي و لا على طرق معبدة. و قد شكلت خصوبة العرب دائما هاجسا للقادة الإسرائيليين، القلقين على استمرارية الطابع اليهودي للدولة. و في سنة 1966 ، بلغ تخوفهم درجة الهلع: ففيما وصلت الهجرة إلى أدنى مستوياتها، و بينما كان متوسط الولادات في الأُسر اليهودية يصل إلى 3,1 طفل، كان معدل الولادات في الوسط الفلسطيني يبلغ 8,2 طفلا. فقامت الحكومة بتشكيل لجنة مكلفة بإعداد توصيات تدابير من أجل الزيادة في عدد المواليد اليهود و تقليص عدد ولادات غير اليهود. و قد عبرت كمشة من النواب الإسرائيليين حينها عن امتعاضهم لهذا القرار. فقال «يوري أفنيري» أن النظام النازي أيضا قد جعل من البيولوجيا بُعدا من أبعاد السياسة، فيما صرخ «مايير فيلنر» السكرتير العام للحزب الشيوعي، معبرا عن خجله، كيهودي أبيدت عائلته بأكملها في معسكرات الاحتجاز الألمانية، من مناقشة مثل هذا القانون العنصري في الكنيست الإسرائيلي. كما لم تتحسن الشروط الاجتماعية و الاقتصادية للعرب. فقد ظلوا دائما يحتلون الجزء الأكبر من قاعدة الهرم الاجتماعي. و حسب دراسة أُنجزت في يوليوز 2008 من طرف معهد أبحاث إسرائيلي، فإن أكثر من نصف هؤلاء يعيشون تحت عتبة الفقر فيما يقل الأمل في الحياة لديهم بأربع سنوات عن مواطنيهم اليهود، كما أن معدل وفيات أطفالهم في سن صغيرة كان أكثر ارتفاعا بثلاثة أضعاف. و بسبب نقص الإمكانات فإن 18 بالمائة فقط من أطفالهم يصلون إلى المدارس الثانوية فيما لا يتابع الدراسة الجامعية سوى 6 بالمائة منهم. و لم يكن فقرهم نتيجة الصدفة ، إذ أن التجمعات العربية لم تشهد قيام أي مشروع تنمية بها أو بالقرب منها. كما أن الدعم المرصود من الدولة للبلديات العربية غالبا ما يكون أقل من الدعم المخصص للمؤسسات الإقليمية اليهودية والمنح الاجتماعية أقل بكثير من المنح المقدمة لليهود. و قد تفاقم «فصام» العرب من مواطني إسرائيل بشكل مفاجيء. فطيلة العقود الماضية، لم يتوقفوا عن الإعلان عاليا عن هويتهم الفلسطينية، لكن مُفارقة المُفارقات هو تشبتهم بمواطنتهم الإسرائيلية. ففي أغلبيتهم الساحقة، حسب استطلاعات رأي متتالية، يرفضون بقوة مقترح اليمين الإسرائيلي بالتخلي عن المناطق التي يسكنونها للدولة الفلسطينية المقبلة. ف95 بالمائة من العرب قد وُلدوا بعد إنشاء دولة إسرائيل، و يبدو أن اندماجهم مع الأغلبية التي يتكلمون لغتها و يتقاسمون عاداتها، هو ما يفسر إرادتهم في المكوث داخل الدولة الإسرائيلية. و في المقابل، فهم يُجمعون اليوم على المطالبة بأن تكُف هذه الدولة عن أن تكون يهودية و صهيونية، و أن تصبح دولة لكل مواطنيها دون تمييز في العنصر أو الدين. و في التحليل الأخير، فإن دولة ثنائية القومية هي ما يحلمون به اليوم، و نموذجهم في ذلك هو سويسرا الدمقراطية متعددة الإثنيات. و لا يساهم موقفهم هذا في تجسير الشرخ الذي يفصلهم عن مواطنيهم اليهود، الذين يتشبتون فوق كل شيء بيهودية دولتهم. و هذا لم يكن هو الواقع في النصف الأول من القرن العشرين، حين كان الجزء الأكبر من اليسار المتطرف الصهيوني يناضل من أجل دولة مزدوجة الوطنية، من شأنها الجمع بين الآمال اليهودية و الحقوق الفلسطينية. الحلقة المقبلة: دجونسون يمنح الضوء الأخضر لإسرائيل لشن الحرب