"اكتساح قسنطينة" يفرح البركانيين    قمع احتجاج أمازيغي يثير سخط الحقوقيين    الجيش الإسرائيلي يقر بحصول "إخفاقات مهنية متعددة" في واقعة مقتل 15 مسعفا في غزة    ميرسك تلاحق صحيفة دنماركية قضائيًا بعد اتهامات باطلة بشأن شحنات أسلحة إلى إسرائيل.. وجهات معادية تقف وراء استهداف ميناء طنجة    الثانوية التأهيلية المجد بامطل تختم فعاليات الدورة الأولى للأيام الثقافية للمؤسسة    البوليساريو... الذراع العسكرية لإيران في شمال إفريقيا برعاية جزائرية    الأمن يتفاعل بسرعة مع أحداث عنف في القصر الكبير ويوقف ثلاثة مشتبه فيهم    الحسيمة.. انعقاد الاجتماع التشاوري الأول حول مخطط التدبير التشاركي للفرشة المائية غيس – النكور    المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة وجدة تشهد تأسيس أول نادٍ سينمائي    خمس لاعبين مغاربة ضمن التشكيلة المثالية لكأس إفريقيا للفتيان    مغاربة داعمون للقضية الفلسطينية يحتجون أمام ميناء "طنجة المتوسط"    ابن تمسمان الأستاذ سعيد بنتاجر، يقارب الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في معرض الكتاب بالرباط    ترامب يعيد هيكلة الخارجية الأمريكية    تفاصيل حريق المسبح البلدي بالناظور    الدرك يطيح بأحد كبار مروجي الخمور باقليم الدريوش    "نداء القنيطرة" يدعو لإصلاح الإعلام    أفاية: قراءات اختزالية تستهدف "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي    فتح بحث قضائي لتحديد ظروف وفاة طفلين في حضانة غير مرخصة بالدار البيضاء    لقاء إقليمي بالحسيمة يسلط الضوء على آفاق الاستثمار في إطار قانون المالية 2025    برلماني يسائل وزير الفلاحة حول توتر العلاقة بين أعضاء من الغرفة الفلاحية والمديرية الإقليمية بطنجة    مستشار ترامب: الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء لا لبس فيه    المغرب يتصدر صادرات الفواكه والخضروات عالميًا: ريادة زراعية تنبع من الابتكار والاستدامة    مقاولون يقاضون "التيكتوكر" جيراندو بالمغرب وكندا بتهم التشهير والابتزاز    السعدي: الحكومة ملتزمة بتعزيز البنية التحتية التكوينية المخصصة للصناعة التقليدية    القوات المسلحة تُكوّن ضباطًا قطريين    "موازين" يواصل جذب نجوم العالم    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في فعاليات معرض "جيتكس إفريقيا"    القفطان يجمع السعدي وأزولاي بالصويرة    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني لأقل من 17 سنة إثر تتويجه باللقب القاري    الفنان الريفي عبد السلام أمجوظ يتألق في مسرحية سكرات    عبد العزيز حنون يدعم البحث في اللسانيات الأمازيغية بأطروحة حول التمني بأمازيغية الريف    تفاصيل اجتماع نقابات الصحة مع مدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته    بعد القرار الأمريكي المفاجئ .. هل يخسر المغرب بوابته إلى السوق العالمية؟    "الكاف" يختار المغربي عبد الله وزان أفضل لاعب في البطولة القارية للناشئين    الأرصاد الجوية تتوقع نزول زخات مطرية متفرقة اليوم الأحد    بنكيران: الأمة بكل حكامها تمر من مرحلة العار الكبير ولا يمكن السكوت على استقبال سفن السلاح    الآلاف يتظاهرون ضد ترامب في الولايات المتحدة: لا يوجد مَلك في أمريكا.. لنُقاوِم الطغيان    الاتحاد الوطني للشغل يدعو إلى تعبئة شاملة في فاتح ماي    " هناك بريق أمل".. رواية جديدة للدكتورة نزهة بنسليمان    ندوة علمية تناقش الحكامة القضائية    الكوكب يسعى لتحصين صدارته أمام الدشيرة والمنافسة تشتعل على بطاقة الصعود الثانية    دراسة تدعو إلى اعتماد استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن السيبراني في المغرب    الأساتذة المبرزون يحتجون الخميس المقبل    لقاء يناقش دور المجلس الأعلى للحسابات في تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    دورة برشلونة لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل للمباراة النهائية    برشلونة يضع المدافع المغربي إدريس أيت الشيخ تحت المجهر … !    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 07 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
بالرجوع إلى الماضي، من الصعب عدم الاستغراب أمام القصص المحكية بغزارة من طرف القادة الصهاينة و التي تناقلتها خلال عقود مديدة، الصحافة الدولية دون أدنى تحفظ. و مع ذلك، فإن الوقائع المتعلقة بإنشاء دولة إسرائيل، و غزوها من طرف الجيوش العربية سنة 1948، و أسباب النزوح الكثيف للفلسطينيين، و المصير المخصص للذين نجحوا في التشبت بأرضهم و بوطنهم، و أصبحوا بذلك مواطنين إسرائيليين، كلها وقائع تحتاج إلى إخضاعها للتمحيص و التحقق.
فحتى بداية نشر كتابات «المؤرخين الجدد» الإسرائيليين في الثمانينات، كان من الشائع لدى العموم بأن أول حرب يهودية-عربية قد انتهت بالانتصار الإعجازي ل «داوود» الإسرائيلي على «جالوت» العربي، و أن مئات الآلاف من الفلسطينيين قد غادروا البلاد، طوعا بالنسبة لمعظمهم، عقب أمر صادر عن القادة العرب، و أن من اختار البقاء و الاندماج في الدولة اليهودية يستفيد من كافة الحقوق التي تضمنها الدمقراطية. فحتى الصحفي المتشكك الذي كُنتُه لم يكن له أي سبب لإعادة النظر في ما كان يشكل الإجماع العالمي حينها. و كان الاعتراف بوجود الفلسطينيين كشعب لا زال أمرا غامضا. فوسائل الإعلام كانت تتحدث عنهم إما كلاجئين ترفض الدول العربية إدماجهم (و بالتالي تمحو هويتهم الوطنية)، و إما كإرهابيين يتسللون إلى إسرائيل من خلال الحدود، مأجورين و موجهين من طرف أجهزة الاستخبارات المصرية أو السورية. أما الفدائيون المنتمون لمنظمة ياسر عرفات، حركة فتح، التي لم تكن قد ظهرت بعدُ، فلم يكن لهم ممثلون جديرون بالحديث باسمهم. كان أحمد الشقيري، الذي يرأس منظمة التحرير الفلسطينية، منذ تأسيسها سنة 1964، طبقا لتعليمات الجامعة العربية، معروفا بسمعته كرجل فاسد، مشاكس و دماغوجي بشكل مشين و أجوف. لم يكن أي أحد يأخذه مأخذ الجد، باستثناء القادة الإسرائيليين - ربما- الذين كانوا يرون فيه حليفا موضوعيا تمنحهم مبالغاته مبررات سياستهم المتشددة حيال العالم العربي.
و قد عَملَت التحقيقات التي قمت بها لصحيفة «لوموند» في إسرائيل خلال الخمسينات و في بداية الستينات، على تبديد أوهامي بشكل تدريجي. فبفضل يهود و عرب مناضلين من أجل القضية الفلسطينية تمكنت من التعرف، على مدار السنين، على واقع لم أكن أتصور وجوده. أحد هؤلاء العرب، راشد حسين، كان بالنسبة لي دليلا قبل أن يصبح صديقا. و قد شاءت الصدفة أن ألتقي هذا الشاب الفلسطيني في مكاتب الأسبوعية العبرية «هاعولام هازه» (عالمنا)، التي كان يديرها «يوري أفنيري» و «شالوم كوهين». كان راشد يناهز الثلاثين، طويل القامة، محدب الظهر قليلا ، مع عينين صافيتين و حاجبين عسليين كثيفين، و كانت تشع منه طيبوبة من الصعب تحديدها. أثارني أولا بتمكنه من العبرية، التي كان يتكلمها بدون لُكنة، أفضل من معظم اليهود الحديثي الهجرة. و بسبب رداءة التعليم المقدم في المدارس العربية للدولة اليهودية، تمكن - لا أعرف كيف - من متابعة دراسته في المدارس اليهودية للبلاد. كان الأول في صفه، و حصل على الباكالوريا بميزة «حسن جدا». و بذلك فقد كان متمكنا من معرفة عميقة بالتاريخ اليهودي، بالتوراة ، بالإبادة النازية، ب»حرب الاستقلال» التي خاضتها البلاد ضد الجيوش العربية سنة 1948 ،و هي المواد الإلزامية منذ المستوى الابتدائي. و في المقابل، كان يجهل كل شيء عن تاريخ الشعوب العربية، بما فيها شعبه نفسه، كما كان يجهل تقريبا كل شيء عن الدين الإسلامي و عن القرآن. ففي المدارس الإسرائيلية، العربية كما اليهودية ،فإن الدروس كانت تُغيب الحركة الوطنية الفلسطينية و مقاومتها للاستعمار الصهيوني، إلا حينما يتعلق الأمر بالتنديد ب»المظاهرات» أو «المجازر» التي يقترفها «العرب المتطرفون» ضد المستوطنين المسالمين الذين كانوا يُدخلون الرفاه و التقدم للبلاد المتخلفة.
بعد تعيينه مدرسا في مدرسة ابتدائية في قريته مصمص، كان على راشد أن يقف تحية، إلى جانب تلامذته، للراية ذات النجمة السداسية، و ينشد النشيد الوطني الإسرائيلي «هاتيكفاه» (الأمل). قال لي ذات مرة و قد علت سحنته كآبة عميقة : «نحن المواطنون الفُصاميون للدولة اليهودية» و لكي يفسر لي كلامه استشهد بمقطع من النشيد الوطني الإسرائيلي الذي يقول «حقق اليهودي الأمل القديم لألفي عام بالعيش فوق أرضه، أرض صهيون و القدس»...
كان راشد يلجأ إلى الدعابة المرة حين يتكلم عن ظروف عيش الأقلية الفلسطينية التي يرفض الإسرائيليون نعتهم إلا ب»العرب»، مُنكرين بذلك هويتهم الوطنية الخاصة، و بالتالي يُنكرون شرعية تواجدهم في فلسطين. أليس هو نفسه ? كان يقول بتهكم- سوى أجنبي على أرض الشعب اليهودي، و جزءا مما يعتبره الإسرائيليون «طابورا خامسا»؟
مثل معظم المواطنين من أصل فلسطيني ، كان راشد يخضع لنظام عسكري تمييزي، فُرض عليهم منذ إنشاء دولة إسرائيل و ظل ساري المفعول حتى عام 1966. فالحاكم العسكري الذي كان يعمل بمقتضى قانون الطوارئ البريطاني الصادر ضد أعداء الانتداب من عرب و يهود، كان يملك سلطات خيالية. فبدون أن يُعلل قراراته، كان بإمكانه فرض حظر التجول، منع أي فلسطيني من بناء سكن، ترحيل الفلسطيني أو نفيه خارج قريته أو عرضه أمام المحكمة العسكرية أو وضعه رهن «الاعتقال الإداري» بدون محاكمة لمدة تصل إلى إثني عشر شهرا قابلة للتجديد، أو منعه من إنشاء جمعية أو ناد، أو نشر صحيفة أو عقد اجتماع عمومي. و هكذا تم اعتقال راشد حسين لمدة أسبوعين لأنه شارك في مهرجان شعري لم يحصل على ترخيص مسبق من الحاكم العسكري.
كان شاعرا موهوبا و معروفا، فتم حرمانه من منصبه كمدرس لأنه انضم لاتحاد الكتاب العرب، و كان الاتحاد يُعتبر، بشكل شبه رسمي، ذا ميول شيوعية (علما أن الحزب الشيوعي نفسه كان يحظى بالشرعية). و قد كانت هناك قائمة سوداء تسمح بمراقبة مئات «المشتبه فيهم» ذوي الآراء «الهدامة»، بمن فيهم يهود يناضلون ضد قوانين الطوارئ، التي كانت تمنع عليهم ولوج المناطق الخاضعة للنظام العسكري. و حتى النواب العرب لم يكن مسموحا لهم التوجه إلى جلسات البرلمان بالقدس بدون ترخيص خروج من مقر إقامتهم. و كانت هذه حال إميل حبيبي،الزعيم الشيوعي و الكاتب الشهير، الذي كان يسكن حيفا، و هي مدينة تعايش فيها العرب و اليهود بانسجام بالرغم من طرد جزء كبير من سكانها غير اليهود خلال حرب 1948.
ظل النظام العسكري قائما لمدة ثمانية عشر عاما بدعوى «الدفاع عن أمن الدولة»، لأن المواطنين العرب كانوا يُعتبرون ضمنيا مصدرا للتهديد، بالرغم من الإخلاص التام الذي أبانوا عنه حُيال الدولة اليهودية. و المفارقة الكبرى هي أن عددا من الأحزاب اليهودية كانت تعارض استمرار النظام العسكري، لأنه لا يساهم في أمن الدولة قط، بل - على العكس - يُعمق الشرخ بين اليهود و العرب، إذ يُحول هؤلاء الأخيرين إلى أعداء محتملين، و يَحول دون تحويلهم إلى جسر تقارب مع المحيط العربي المجاور، مما من شأنه خدمة قضية السلام.
في سنة 1946، أي سنة واحدة بعد فرض قوانين الطوارئ من طرف سلطات الانتداب البريطاني، تم تنظيم مظاهرة احتجاجية شعبية شارك فيها أفراد الطائفتين معا. و ألقى إثنان من الأربعمائة مُحام يهودي الذين شاركوا في المظاهرة، خطابين عنيفين بشكل خاص. فقد شجب «دوف جوزيف» «استبداد هذه القوانين التي تُضفي الشرعية على الإرهاب»، بينما صرح «يعقوب شابيرا» من جانبه: «ليس لهذه القوانين مُقابل في البلدان المتحضرة، فحتى في ألمانيا النازية لم يحدث هذا». و بعد الاستقلال، شغل الأول منصب وزير العدل، و شغل الثاني منصب المدعي العام. و لم يعترض أي منهما على استمرار النظام العسكري الذي شجباه من قبل، بما أنه لم يعد يطبق إلا على الفلسطينيين.
كان «شموئيل طوليدانو» سنة 1965 مستشارا للوزير الأول الإسرائيلي لشؤون الأقلية العربية. و هو يهودي شرقي، ينحدر من عائلة تسكن فلسطين منذ خمسة أجيال، و يتحدث العربية بطلاقة. و كان رجلا مثقفا، له تأثير كبير إن بفضل شخصيته أو بسبب المهام الحساسة التي كان يشغلها. و قد كانت المحادثات التي أجريتها معه - و التي سجلتها في مذكرات كنت أكتبها على الفور- تتسم بالغرابة بشكل خاص. كنت أنتظر منه دفاعا قويا على النظام العسكري الذي كان مكلفا بالإشراف على سيره، لكني فوجئتُ حين استعرض علي جميع المظالم التي يعبر عنها العرب، و عكس كل توقع، قال ...أن العرب ليسوا مخطئين في ذلك. فمعهم الحق في شعورهم بالظلم النازل عليهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بالرغم من إخلاصهم لدولة إسرائيل، و هُم مُحقون في التشكي من التمييز و العنصرية التي يتعرضون لها، و هم محقون بالتالي في كرههم لليهود الإسرائيليين. لكنه، و وفاء منه لواجباته كموظف سام، برر الحفاظ على قانون الطوارئ بصدق مُماثل تقريبا. «فالمأساة -قال لي ? هي أننا ، نحن معا، أسرى ظرفية استثنائية، وليدة الحرب مع جيراننا العرب. و مع ذلك، فباعتبارنا يهودا، نشعر بالخجل من النظام الذي نحن مُكرهون على فرضه على مواطنينا العرب».
و بعد إثنا عشر عاما على ذلك، في سنة 1977 ، حينها فقط تبدد أمام عيني سر التصريحات الغريبة ل»شموئيل طوليدانو».فبعد خدمته لثلاثة وزراء أولين تباعا طيلة إثنى عشر عاما، قدم استقالته بشكل صارخ مفسرا في الصحافة بأن إلغاء النظام العسكري (1966) لم يُحسن من المعاملة التي تلقاها الأقلية العربية، إذ أن السلطات الواسعة التي كانت للجيش تم تحويلها ببساطة للشرطة. و كشف بأنه كان منذ البداية مُناهضا للنظام العسكري، و هو الأمر الذي لم يكن يُخفيه عن الوزراء الأولين المُتوالين الذين عمل في خدمتهم، و أضاف أنه واصل ممارسة وظيفته لأنه من خلالها كان يتمكن في بعض الأحيان من تخفيف شَطَط الحكام العسكريين و كان يأمل الحصول على إلغاء قوانين الطوارئ، و كان يتم الاحتفاظ به في منصبه بسبب الاحترام الذي تُكنه له الأوساط العربية، و بسبب كفاءته الاستثنائية و لإخلاصه. و في هذا الصدد صرح لصحيفة «جيروزاليم بوست» في 14 يناير 1977 : «إن حرمان عدة مئات الآلاف من الأشخاص من المساواة في الحقوق، و منعهم من الاندماج بشكل كامل في مجتمعنا، و إقصائهم عن كل مراكز القرار، عن الإدارة و عن الجيش، يولد وضعية خطيرة على مستقبل دولتنا» قبل أن يعلن عن نيته أن يصبح صحفيا لكي يتمكن من «التعبير منذ الآن بحرية».
و بنفس المناسبة، قدم استقالته من الحزب العمالي «ماباي» الذي كان عضوا فيه منذ شبابه الأول، بسبب حرص هذا التنظيم الأغلبي في البرلمان، على الحفاظ على النظام العسكري لأسباب لا علاقة لها مع أمن الدولة. و بفضل وسائل الضغط التي يتوفر عليها الحكام العسكريون، فإن أكثر من نصف العرب كانوا يصوتون لصالح الحزب الحاكم (ماباي- العمالي)، و أغلب الذين ينتخبونهم كانوا يساندون النظام العسكري المكروه. فكل شيء وُضع كي يمنع العرب من تكوين تنظيم مستقل من شأنه الدفاع عن حقوقهم (الرفض المتكرر للترخيص لمنظمة «الأرض» الوطنية، بالرغم من الطعون القضائية التي وصلت حتى المحكمة العليا التي صرحت «بعدم الاختصاص»).
و علاوة على كل ذلك، فإن قوانين الطوارئ كانت تسمح بمواصلة نهب الأراضي العربية، حيث كان بالإمكان مُصادرتها بمبررات مختلفة، من ضمنها المبرر المقدس «الدفاع عن أمن الدولة». و هكذا تم تدمير حوالي عشرين قرية فلسطينية خلال الخمس سنوات التي تلت إنشاء دولة إسرائيل، و تعرض سكانها لسلب أملاكهم و ترحيلهم إلى ما وراء الحدود.و في الفترة بين 1956 و 1959 ، تم تهجير عدة قبائل من بدو النقب إلى كل من الأردن و مصر، في خرق لمبدأ منع طرد المواطنين الإسرائيليين. و كانت الأراضي التي تتم مصادرتها تصلح لتوطين المهاجرين اليهود. فالطرد الكثيف للفلسطينيين قبل و أثناء حرب 1948 تواصل بأشكال أخرى و على مراحل.
فمنذ 30 يونيه 1948 ،رخصت حكومة الدولة الفتية، مصادرة أراضي العرب الذين غادروا مقر إقامتهم الاعتيادية منذ نوفمبر 1947 - غداة تبني الأمم المتحدة لمخطط تقسيم فلسطين- للإقامة الموقتة في أي جزء من البلاد لا تسيطر عليه القوات اليهودية.و قد بدأ تطبيق هذا القانون على النخب الثرية،التي انسحبت خوفا من الحرب، إلى الدول العربية المجاورة (خاصة لبنان)، ثم طُبق فيما بعد على باقي الفلسطينيين الذين لجأوا داخل إسرائيل، إلى المناطق التي لا يُعرضون أنفسهم فيها لخطر المجازر الشبيهة بمجزرة دير ياسين. هذه المقتلة ، التي نفذت بوحشية نادرة في 9 أبريل 1948، أدت إلى عدة مئات من القتلى و الجرحى في صفوف المدنيين،بمن فيهم الشيوخ و النساء و الأطفال. كثير من هؤلاء «الغائبين» - حوالي 30 ألفا- الذين لجأوا في بعض الأحيان على بعد بضعة كيلومترات من قراهم، مُنعوا من العودة بمقتضى قانون آخر حكم عليه بالمنفى الدائم.أما الذين نجحوا في «التسلل» إلى بيوتهم فلم يتمكنوا من استرجاع أملاكهم.و أطلق عيهم الإسم الساخر «الغائبون-الحاضرون». و خلال سنة 1948 وحدها، و فيما كانت الحرب جارية، تمت، بأساليب مختلفة، مصادرة 70 ألف هكتار من أجود الأراضي، ضمن 110 ألف هكتار يملكها الفلاحون العرب.
خمس سنوات بعد الحرب، في سنة 1953، تمت مُصادرة أراضي 250 قرية بدعوى «المصلحة العامة» ، و استُخدمت لبناء مدينتين يهوديتين في الجليل وسط محيط عربي صرف (كارمييل و الناصرة العليا، و قد سميت هذه الأخيرة كذلك لأنها شيدت فوق هضبة مُشرفة على المدينة العربية التي تحمل نفس الإسم) و كذا «كيبوتزات» مخصصة للمهاجرين الجدد. و استهدفت مصادرات 1958 مُلاكا عاجزين، لأسباب خارجة عن إرادتهم، عن تقديم ما يُثبت صك ملكية يعود تاريخه إلى عشرين سنة على الأقل، و هي وثيقة من المستحيل تقديمها في غياب إدارة مسح عقاري رسمي.
و قد مكنت المصادرات، التي توالت خلال عقود دون توقف بجرعات صغيرة، الدولة و المنظمات القريبة منها من الاستيلاء على أكثر من 90 بالمائة من الأراضي، تاركة للمزارعين العرب أقل من 2 بالمائة من الأراضي الفلاحية الأقل خصوبة في البلاد. كما صدر سنة 1954، قانون جديد، يلائم العقيدة الصهيونية التي يؤمن بها المستوطنون، يمنع بيع أو تأجير أراض للمواطنين العرب، كما يمنع تشغيلهم حين تكون اليد العاملة اليهودية متوفرة. و بذلك يتم ضمان «الملكية الأبدية للشعب اليهودي» على فلسطين.
و في الستينات، كان مُحاوريي عربا أو يهودا، من دعاة السلام، يُثيرون بتأثر المجزرة التي اقتُرفت في كفر قاسم ليلة 29 أكتوبر 1956، في الوقت الذي كانت فيه القوات الإسرائيلية، متبوعة بقوات فرنسا و بريطانيا، تشن هجومها على مصر الناصرية. فبغزوها لسيناء، كان بن غوريون يأمل في إلحاق هذه الصحراء الشاسعة بالدولة الوليدة، في هذا اليوم، لقي 49 قرويا، من بينهم تسع نساء و سبعة أطفال، حتفهم دون إنذار على يد حرس الحدود. لم يحترم الضحايا حظر التجول المفروض قبل ساعة فقط (بسبب دنو حرب سيناء) دون أن يعلموا به، لأنهم كانوا يشتغلون في حقول بعيدة عن كفر قاسم، فلم يتمكن مختار القرية من إبلاغهم، و كانت القوات الإسرائيلية تعرف ذلك، حسب كافة الاحتمالات. كانت التعليمات العسكرية الغامضة التي تنص على معاقبة أي شخص يخرق حظر التجول «بشدة»، تحُث رؤساء وحدات حرس الحدود على إصدار أوامر إطلاق النار»من أجل القتل».
و قد تم الحكم على القائد «ميلينكي» و مساعده الملازم «غابرييل دهان»، تباعا بسبعة عشر و خمسة عشر عاما سجنا عقابا لهما على «القتل بدم بارد». و بعد ثلاث سنوات و نصف على المجزرة، استفادا من عفو استرجعا بمقتضاه الحرية. و الأكثر من هذا أن «دهان»، المحكوم عليه للمشاركة في قتل 43 عربيا ، تم توظيفه فورا في بلدية الرملة، كمكلف ? و هذا منتهى السخرية ? « بالشؤون العربية». و قد ظلت مجزرة كفر قاسم إلى يومنا هذا منقوشة في ذاكرة الفلسطينيين، بالرغم من أنها لم تكن أولى و لا آخر المجازر التي تعرضوا لها قبل و بعد إنشاء دولة إسرائيل.
كان راشد حسين محظوظا إلى حد ما لأن أسرته لم تتعرض لمثل هذه المحن الصعبة. فهو بشكل من الأشكال، كان مندمجا في المجتمع الإسرائيلي. و رغم مُقاطعته من طرف عدد من المنشورات باللغة العبرية أو العربية، إلا أن ثلاث صحف كانت تعرض أعمدتها له: و هي صحيفة «يوري أفنيري» و «شالوم كوهين»، «هلعولام هازه»، و كذا صحيفتا حزب «مابام» و الحزب الشيوعي اليهودي العربي. و كان حسين يغتنم هذا الكرم كي يشجب الظلم الذي يُقاسيه «العرب»، الذين كان يؤكد بكل قوة «انتماءهم التام للشعب الفلسطيني»، في الوقت نفسه الذي يطالب فيه بحقوقهم كمواطنين لدولة إسرائيل. كان يشرح دوما أن العرب الإسرائيليين من أكبر مؤيدي السلام، لأن من شأن السلام أن يضع حدا لكل التمييزات التي يعانون منها، و يخلُص من ذلك إلى أن السلطات اليهودية تُخطئ حينما لا تستخدم مواطنيها الفلسطينيين «كجسر» بين دولة إسرائيل و العالم العربي. و بسبب شُهرته، فقد كان مسموحا له بالتنقل حيثما يشاء داخل إسرائيل، باستثناء القدس و النقب و في الكيبوتزات. و هو حق لم يكن يتمتع به واحد بالمائة من مواطنيه ذوي الأصول الفلسطينية.
و لأنه كان من المُعجبين الكبار ب›حاييم بياليك»، الذي يعد أكبر شعراء العبرية في الأزمنة الحديثة، و أب الأدب اليهودي الحديث، انكب راشد حسين على المهمة المضنية المتمثلة في ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العربية. و من البديهي أن حماسه لم يكن إبداعيا فقط. فبياليك، رغم أنه صهيوني متحمس، إلا أنه كان يتسم بما يُرضي وطنيا فلسطينيا معتدلا مثل راشد حسين: فقد كان تلميذا ل»عاهاد هام»، ناشر الصهيونية السياسية لهرتزل و المفكر النافذ لدى يهود القرن التاسع عشر، كان «بياليك» يعتبر أن كيانا يهوديا في فلسطين لا يمكن أن يكون سوى المركز الروحي لليهودية، و منارة الأخلاق الموسوية و القيم الكونية، العلمانية و الإنسانية. و فوق كل ذلك، كان «بياليك» على غرار «عاهاد هام»، يعتبر من غير الأخلاقي التضحية بالحقوق الوطنية للعرب الفلسطينيين على مذبح دولة يهودية بشكل حصري. و في ختام أربع زيارات لفلسطين ما بين 1891 و 1907، نشر «عاهاد هام» عدة نصوص يتهم فيها المستوطنين اليهود (رغم أنهم كانوا أقلية ضئيلة في تلك الآونة) ب «اعتبار العرب كمتوحشين، و معاملتهم بعداء و قسوة، و حرمانهم من حقوقهم، و إهانتهم بدون مبرر». و رغم جنوحهم عن الصهيونية فإن «بياليك» و «عاهاد» أنهيا حياتيهما في الأرض المقدسة. و قد سادت أفكارهما حتى النصف الأول من القرن العشرين، الأوساطَ الصهيونيةَ لليسار المتطرف و تركت أثرها على عدة شخصيات هامة، مثل الحاخام الأمريكي «يهودا ماغنيس» و الفيلسوف ذي الأصل الألماني «مارتن بوبر». قال لي راشد حسين أنه يشعر بحزن عميق حين يتحدث «بياليك» عن المعاناة التي يخلفها المنفى(غالوت) لدى الشعب اليهودي، و هوما يذكره بمعاناة فلسطينيي الداخل و الخارج. و هذا المقطع من أحد قصائده يعبر عن الألم المُمض الذي يشعر به:
«ليس لي عنوان
أنا إنسان عابر
إنسان محروم
من حق أن يكون له عنوان...»
الحلقة المقبلة: أخي إسماعيل... (2)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.