البرلمانيين المتغيبين عن أشغال مجلس النواب يقدمون مبررات غيابهم ويؤكدون حضورهم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    محكمة فرنسية تأمر بالإفراج عن الناشط اللبناني المؤيد للفلسطينيين جورج عبد الله بعد 40 عاما من السجن    نشرة إنذارية.. زخات مطرية وثلوج ورياح عاصفية بعدد من أقاليم المملكة    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    جثة عالقة بشباك صيد بسواحل الحسيمة    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    مهرجان الفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج "حوارات"        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده و جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية        الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب        حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    النيابة العامة وتطبيق القانون    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



2 إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط 10 : أخي إسماعيل
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 23 - 07 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
كان راشد يحظى بالاحترام لدى النخبة من المكونَين الرئيسيَين للدولة اليهودية، و هو ما لم يكن يوفر عنه الإهانات. فقد كان يعتزم الزواج من شابة إسرائيلية، فحاول اكتراء شقة في تل أبيب لكن مجهوداته كانت بدون جدوى. إذ عَلاوة على العوائق الإدارية التي لم يتمكن من تجاوزها، اصطدم برفض المُلاك المتوالي إيجار سَكَنهم لزوج عربي-يهودي. و أمام هذه العقبات اضطر إلى فسخ خطوبته. كان يُعاني من عنصرية متعددة الأوجه تواجهه يوميا .و لإقناعي بذلك، رافقني راشد إلى عدة مطاعم و مَقاه في تل أبيب حيث قدمني لعدد من النادلين العرب الذين يتحدثون العبرية بشكل جيد. فبطلب من مُشغليهم كان هؤلاء يضطرون إلى حمل أسماء يهودية كي لا ينفُرَ الزبناء اليهود. و كان بعضهم يطوق عنقه بسلسلة تحمل رصيعة بنجمة داوود السداسية. و كانت هذه الممارسة سائدة في المقاولات اليهودية، بما في ذلك بعض الكيبوتزات المرتبطة بأحزاب اليسار.و في المجموع كان هناك أربعون ألف عربي مسموحا لهم بالعمل في المجمعات اليهودية شريطة ألا يسكنوا فيها. كان عليهم أن يقوموا برحلة ذهاب و إياب يومية من و إلى قراهم مهما كانت بعيدة و مهما كلفتهم تذكرة السفر.
و مع إدانته بشكل صارم لهذا «الخوف من العربي» لدى مواطنيه اليهود، كان «شموئيل طوليدانو» يفسرها باعتبارها قدرا ناتجا عن النزاع. هل كان من المنطقي اعتبار العربي عدوا و في نفس الوقت نمحُضه الثقة و نُدمجه؟ كان مستشار الوزير الأول يتهم معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية بالشوفينية، لكنه يضيف بأن الدمقراطية تفرض احترام حرية التعبير. كان طوليدانو يمتعض للمظاهرات المعادية للعرب التي تندلع من وقت لآخر في البلاد. و لم يكن الوحيد في ذلك، بل إن حركات و لجان يهودية مختلفة، مناضلة لصالح الأقلية العربية، كانت توقع عرائض و تنشر مقالات و تنظم مظاهرات تضامن.
و قد شهدت إحدى هذه المظاهرات في قرية عربية احتضنتها مجلة «هاعولام هازه»: كان من المستحيل تمييز الشباب العربي، الذين كان لباسهم و سحناتهم بل وجوههم مشابهة لمواطنيهم اليهود. كان هؤلاء و أولئك جميعا يصدحون بنفس اللغة خالقين الحماس العام. حظي خطاب «يوري أفنيري» بالعبرية بتصفيقات حادة، مثل ما حظي الخطاب الذي ألقاه باللغة العربية شريكه «شالوم كوهين» ، اليهودي ذو الأصول المصرية. كانت الازدواجية اللغوية لدى العرب منتشرة حينذاك، قبل أن تعُم تماما كما لاحظت فيما بعدُ.
في نفس الفترة، نشر صبري جريس، و هو محام فلسطيني شاب و لامع كاثوليكي الديانة، كتاب «عرب إسرائيل» (منشورات ماسبيرو) يتناول مصير الأقلية العربية، و هو الكتاب الذي سيصبح من كلاسيكيات هذه القضية بسبب رصانة العرض و اعتدال الآراء. حرص المؤلف على نشره بداية باللغة العبرية، التي يتحكم فيها تماما، كي يُنَورَ أولا الرأي العام اليهودي- الإسرائيلي، الذي كان يعتبره جاهلا لمصير مواطنيه الفلسطينيين. بيد أن دعوته لوضع حد للتمييز الذي يتعرض له مواطنوه من الأقلية العربية و لإدماجهم في الدولة الإسرائيلية، لم يكن على ذوق السلطات الأمنية. فبعد فرض الإقامة الجبرية عليه، تم اعتقاله سبع مرات دون أن تقدم الحكومة العسكرية أي مبرر لهذه الممارسات. و هو التحرش الذي لم يعد يُطيقه جريس ففضل المنفى إلى لبنان في السبعينات و انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، التي خصصت له منصبا في مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لها. نشر عددا من المقالات و الكتب، تنم عن إخلاصه الدائم لقناعته بأنه بإمكان اليهود و العرب و من واجبهم التعايش في انسجام و مساواة تامة.
أما راشد حسين، و بعد أن اعتبر أن العيش في إسرائيل أصبح غير مُتَحَمل بالنسبة إليه، فقد قرر سنة 1965 المنفى. استقر أولا في سوريا، حيث التقيتُه خلال إحدى زياراتي لدمشق. كان أكثر شقاء، حيث باح لي أنه يشعر بأنه غريب في هذا البلد العربي حيث التضييق على الحريات كان أكثر مما هو عليه الأمر في إسرائيل. ففي إسرائيل كان يُنظر إليه باعتباره قوميا عربيا بينما في سوريا يُنظر إليه كإسرائيلي، حامل لجواز سفر «صهيوني» و يتكلم العبرية بطلاقة. و بداهة، رفض العمل لصالح أجهزة المخابرات السورية، فقرر التوجه إلى فرنسا، «بلد الحريات و حقوق الإنسان»، لكن و أمام إخفاقه في الحصول على بطاقة إقامة، فقد رحل إلى أمريكا، مثال الدمقراطية و التسامح كما كان يعتقد. و بعد بضعة أشهر تلقيت منه رسالة، لا زلت أحتفظ بها، يعبر فيها عن يأسه. فقد اكتشف أن الأمريكيين كانوا « أكثر صهيونية من الإسرائيليين»، و لا يقلون عنهم عداء للعرب، فلم يكن يشعر بالارتياح إلا صحبة إسرائيليين، يهودا أو عربا. و إضافة لذلك - كتب - فقد كان يعاني من البطالة «فالحصول على رخصة عمل هنا أصعب من الحصول على جواز مرور من الحاكم العسكري الإسرائيلي». رفض عدة عروض من سفارات عربية بأجر مُجز مقابل استقطابه، لأنه يرفض خدمة أنظمة يحتقرها. فطلب مني إن كان بإمكاني مساعدته في الاستقرار نهائيا بفرنسا.
كنت مستعدا لمساعدته في حدود إمكاناتي، لكني و قبل أن أتمكن من إجابته، علمت بحزن كبير أنه مات محترقا في الغرفة التي كان يشغلها في أحد فنادق نيويورك. هل تعلق الأمر بحادث أو بانتحار؟ لم يتمكن التحقيق من تحديد السبب.
و في السنة السابقة لهذا الحادث، حصلت مأساة مماثلة أصابت جزءا من الرأي العام الإسرائيلي بالذهول. فقد قام محمود الصباغ، و هو في الثلاثينات تماما مثل راشد حسين، بشنق نفسه داخل زنزانته بسجن عكا. ترك رسالتين، إحداهما لزوجته يقول لها فيها أنه فضل وضع حد لحياته «بدل مواصلة معاناة الظلم و الإهانات» التي يتعرض لها شعبه. و كتب من جهة أخرى إلى صديق طفولته الحميم «دافيد غولومب» قائلا: «أريدك أن تعلم أمرا واحدا: لقد ظللت مخلصا للقضية العربية دون أن أخون اليهود مع ذلك». كان الصديقان معا يناضلان من أجل المصالحة بين الشعبين. فقد تعاون والداهما فيما قبل بنشاط من أجل إنقاذ الناجين اليهود من النازية قبل إنشاء دولة إسرائيل نفسها. كان «إلياهو»، والد دافيد ، رئيسا للهاغاناه، الجيش اليهودي السري، بينما كان والد محمود، صيادا، وضع مركبه في خدمة الشبكة المكلفة بالنقل السري لليهود، مُخاطرا في ذلك، بالتعرض للعقاب القاسي من السلطات البريطانية.
لم يكُف محمود الصباغ، المتهم ب»التجسس» لصالح مصر، عن الإعلان عن براءته، رغم أنه اعتُقل في مركب متوجه سرا إلى غزة، التي كانت حينها تحت الإدارة المصرية، و يبدو أن شكوك أجهزة المخابرات الإسرائيلية كانت بدون سند، مما دفع الدولة إلى تنظيم جنازة مهيبة لهذا البحار المتواضع. فقد حضر عدد من أعضاء الحكومة و من أطر الهاغاناه إضافة إلى الجماهير العربية، لإلقاء النظرة الأخيرة على هذا الإنسان الذي كافح بطريقته من أجل الصداقة اليهودية-العربية ، المستندة على العدالة. و من السخريات الحزينة للأقدار أن الموكب الجنائزي عبر مسقط رأس الصباغ مدينة يافا، التي مسحت الهاغاناه طابعها العربي إلى الأبد، و هي المنظمة التي أخرجت جزءا كبيرا من سكان المدينة من ديارهم عنوة خلال معارك 1948 .أعترف بأنه في هذه الفترة - الستينات- كنت أومن ببعض الأساطير حول طبيعة و مجريات هذه الحرب العربية-الإسرائيلية. كان محاوريي الفلسطينيين - و من ضمنهم راشد حسين- نادرا ما يتحثون عنها، دون أن أفهم سبب صمتهم.هل كانوا يجهلون محنة لم يعيشوها هم شخصيا؟ هل كان هذا الصمت بسبب الألم الذي يشعرون به حين تُنكأ الجروح التي أصيبت بها أُسرهم أو أقرباؤهم؟ علما أن هذه الأحداث الأليمة لم يكن قد مر عليها أكثر من عقد من الزمن حينها. أما بالنسبة لمحاوريي اليهود، الأكثر رضا، فقد كان صمتهم مفهوما، بما أنهم لا يجادلون في الرواية الرسمية لحرب 1948، التي كان اليسار المتطرف وحده يرفضها. و من جهتي لم يكن بإمكاني تصور دولة دمقراطية قادرة على إخفاء الحقيقة التاريخية. لم أكن أشك مثلا، في أن هذا النزاع المسلح قد دار بين «جالوت» العربي و «داوود» الإسرائيلي، أي بين جيوش ست دول عربية فائقة التجهيز من جهة و بين غواريين يهود قليلي العدد و ناقصي التسليح. لكني لم أكن أصدق ، في المقابل، بأن هدف الغزاة لا يقل - كما يقول القادة الإسرائيليون- عن تدمير الدولة اليهودية و رمي سكانها في البحر.
كان السائد هو أن مئات الآلاف من الفلسطينيين قد غادروا مساكنهم طوعيا، استجابة لتعليمات القادة العرب التي كانت تُبث من مختلف إذاعات المنطقة. هذه كانت القناعة السائدة عبر العالم، و في إسرائيل بطبيعة الحال، بما فيها الأوساط المتنورة التي كنت أرتادها. بينما كانت كتابات الفلسطينيين، الشهود العينيون ل»أحداث» 1947-1948 المتشظية هنا و هناك و المشكوك في مصداقيتها، تلقى التجاهل التام.
و مع ذلك، فإن مؤرخا فلسطينيا ذا سمعة نقية، هو وليد الخالدي، قد أكد منذ 1959 أنه لاحظ، بعد تحقيق طويل، أن أي من برامج الإذاعات العربية المسجلة لدى «هيأة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) و بعض وسائل الإعلام الغربية الأخرى، تضمن نداء يدعو الفلسطينيين لمغادرة محل إقامتهم. كما أن بحثا مماثلا أجراه الكاتب الأنجلو-إيرلندي «إرسكين تشايلدرز» انتهى إلى نفس الخلاصة. بل على العكس من ذلك، كشف الباحثان بأن نزوح الفلسطينيين تم بالرغم من أوامر القادة العرب لهم بالمكوث في أماكنهم مهما حدث ، كي لا يعيقوا تقدم الجيوش العربية، و خصوصا للحؤول دون إسرائيل و الاستيلاء على الأراضي المفرغة. و قد حاول حرس حدود الدول المجاورة، دون جدوى، مقاومة تدفق اللاجئين. و رغم كل هذه الأدلة الثابتة فإنها لم تتمكن في الظاهر من زعزعة مواقف مؤرخين آخرين و لا قناعات وسائل الإعلام الكبرى.
لقد تطلب الأمر انقضاء ثلاثة عقود كي يكشف مؤرخون شباب إسرائيليون، استنادا إلى وثائق من المؤسسات الإسرائيلية - مجالس الوزراء، القوات المسلحة، المنظمات الصهيونية- و كذا إلى مذكرات دافيد بن غوريون، الحقائق التي ظلت حتى ذلك الحين مخفية بعناية. و قد مكن الكشف عن هذه الوثائق سنة 1978،بعد مرور ثلاثين عاما كما يفرض القانون ذلك، من تجاوز ما كتبه بعض المؤرخين الفلسطينيين و السبب، هو أن هؤلاء الأخيرين لم يكونوا يتوفرون سوى على بعض المعلومات المتفرقة و لم يكن بإمكانهم الاطلاع على الأرشيف الرسمي، بما في ذلك أرشيفات الدول العربية - التي لم تضعها رهن إشارة الباحثين لحد الآن-
فقد أكد «المؤرخون الجدد» الإسرائيليون الطرح الذي يقول بأن السلطات الصهيونية ، و ليس الأنظمة العربية، هي المسؤولة عن نزوح الفلسطينيين. فقد قدموا الدليل على أن القوات اليهودية لجأت إلى الابتزاز و التهديد و الإرهاب و تخريب البلدات العربية و إلى الطرد الجماعي و مصادرة الأراضي و الإعدامات و المجازر (التي يتراوح عددها بين 31 و 76، حسب التقديرات المتناقضة للمؤرخين الإسرائيليين و الفلسطينيين) لبلوغ هدفها. و هكذا اضطر أكثر من 80 بالمائة من السكان الأصليين - ما بين 700 و 800 ألف حسب الأمم المتحدة- المقيمين فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل إلى مغادرة مساكنهم. و في المقابل تم التغاضي عن حوالي 150 ألف فلسطيني، معظمهم من المسيحيين و الدروز، فأصبحوا مواطنين للدولة اليهودية الجديدة.
و ستشكل الثمانينات منعطفا في تاريخ دولة إسرائيل. ففي هذه الفترة انتشرت لأول مرة داخل المجتمع الإسرائيلي موجة انتقاد الطروحات الرسمية، من خرافات و أساطير تختلقها البلدان المحاربة عموما لتبرير عدوانيتها و حشد الرأي العام إلى جانبها و تغطية الفظاعات المُقترفة. و لم يتمكن المؤرخون «التقليديون»، الذين تعكس مؤلفاتهم طروحات الدولة، من تشويه سُمعة المؤرخين الجدد، مع استثناء وحيد أو استثناءين، يتمثل في صهاينة يدافعون عن حق إسرائيل في الحياة، مع اعتبارهم أن الأخلاق و السلام تفرضان على الدولة اليهودية تحمل مسؤولياتها في النزاع العربي-الإسرائيلي.»بيني موريس»، أحد الرواد الرئيسيين للتأريخ الجديد، و هو باحث مُجد أصبح يمينيا بعد اندلاع الانتفاضة الثانية (2000)، تميز عن زملائه باعتباره أن التطهير العرقي كان ضروريا، أو نوعا من»الخسائر الجانبية» التي تُحدثها كل الحروب. و قد فاجأ الكثيرين حين صرح للصحافة، بعد بضع سنوات، أنه يأسف شخصيا لكون بن غوريون لم يصل بطرد جميع الفلسطينيين إلى مداه، و هو ما كان من شأنه أن يحل النزاع بشكل نهائي.
فمن خلال دراسة الأرشيفات الرسمية، تبين أن القوات اليهودية لم تخُض حربا واحدة ضد الجيوش العربية في 15 ماي 1948، تاريخ ميلاد الدولة اليهودية، بل حربين إثنتين، فالثانية كانت هي التي شنتها ضد السكان الفلسطينيين في نوفمبر 1947، فور تبني الأمم المتحدة لقرار منح اليهود دولة. و كانت دواعي هذه الحرب، حسب «بيني موريس»، عسكرية محض. فتحسبا لغزو الجيوش العربية، الذي كان احتمالا افتراضيا لا يزال، كان ينبغي حماية الخطوط الخلفية للقوات اليهودية : تصفية بعض جيوب المقاومة الفلسطينية ، احتلال البلدات العربية الواقعة في المناطق الاستراتيجية و إفراغها و تدميرها إن دعت الضرورة لذلك، أو إجمالا شل حركة «طابور خامس» محتمل كان بإمكانه تقديم دعم قوي للغزاة.
و قد كانت حصيلة هذه الحرب التي لا إسم لها، و هي الحصيلة التي أعدها المؤرخ الإسرائيلي «إيلان باب»، صادمة، رغم أنه من المعروف أن التطهير العرقي منذ القرون الوسطى مرادف للفظاعات. فخلال الفترة بين دسمبر 1947 و بدايات 1949 ،أحصى عشرات المجازر و الإعدامات ضد فلسطينيين عُزل بمن فيهم نساء و أطفال: تم تفريغ 531 قرية (من أصل ألف) من سكانها تماما، و تم تدمير معظمها. كما تم طرد مجموعات عربية بكاملها تعيش في 11 مركزا حضريا مختلطا عرقيا. كما تم ترحيل مجموع سكان الرملة و اللد، أي ما يعادل 70 ألف شخص، تحت حراب البنادق إلى الأردن، من طرف الجنرال إسحق رابين، الوزير الأول الإسرائيلي فيما بعد. و قد مات عدد كبير منهم في الطريق جوعا و عطشا أو إعياء. و تم ترحيل 50 ألفا من سكان يافا بقسوة، و سيكتشف ممثلو الصليب الأحمر فيما بعد قبرا جماعيا يضم عشرات الجثت، تم إعدامها أغلب الظن من طرف القوات الصهيونية. و في الوقت نفسه تم ترحيل جزء كبير من سكان حيفا العرب، الذين كانوا يعيشون في تناغم مع السكان اليهود،و أُبعدوا عن المدينة.
كان التطهير العرقي مرفوقا بمصادرة الأملاك المتروكة. فحسب عالم إحصاء إسرائيلي، فإن الصندوق القومي اليهودي استولى على 300 ألف هكتار وزعها على الكيبوتزات و مراكز إيواء المهاجرين اليهود. و لإتمام العملية بشكل أفضل، صدر مرسوم وزاري يمنع على الملاك الفلسطينيين الذين غادروا المطالبة بأي تعويض أو رجوع لمساكنهم. كما صدرت الأوامر ب»إطلاق النار بنية القتل» على كل لاجئ يحاول التسلل، و هو ما طُبق في السنوات اللاحقة. و رغم احتجاج بعض الأعضاء اليساريين داخل الحكومة الإسرائيلية، الذين أثارهم عنف التطهير العرقي، فإن بن غوريون - الذي لم يأمر به كتابة بشكل صريح ? لم يقم بأي شيء لمنعه أو إدانته، و هو ما يمكن أن يشكل اعترافا به في حد ذاته. و يحكي المؤرخ «طوم سيغيف» في مؤلفه الهام «المليون السابع» (في إشارة إلى الناجين من الإبادة الهتلرية) أن وزير الفلاحة «أهارون سيزلنغ» بعد علمه بالفظاعات المُقترفة، أبلغ مجلس الوزراء أنه «لم يعد يستطيع النوم ليلا» قبل أن يضيف بحزن : «ها نحن نرى أن يهودا يتصرفون مثل النازيين، و أنا منزعج لذلك حتى أعماق روحي». فلم يكن من بن غوريون إلا أن تجاهل الأمر و اكتفى بشجب عمليات النهب و الاغتصاب العديدة التي يقترفها الجنود غير المنضبطين، مع تأمين إفلاتهم من أي عقاب. هذا التسامح من طرف بن غوريون كان مفهوما: فالدعاية الرسمية لم تكف عن تقديم العرب كمعادين للسامية و كنازيين يسعون للقضاء على الشعب اليهودي، و ذلك بعد ثلاث سنوات فقط على الإبادة الهتلرية: في هذا السياق هل يمكن معاقبة العنف الذي يقترفه الناجون؟ لم يكن يريد، خصوصا، وضع حد لعمليات تتسبب في نزوح كثيف للفلسطينيين.
فسر «بيني موريس» الأمر بمبررات عسكرية كانت تفرض عمليات «تطهير» في الخطوط الخلفية للجيش اليهودي. و مع ذلك، لم يرجع لا إلى الأيديولوجيا و لا إلى التاريخ الصهيونيين، و لم يطرح السؤال الجوهري: لماذا شنت القوات اليهودية الهجوم في حين أن «الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين»، حسب تعبير بن غوريون في رسالة وجهها إلى «موشي شاريت» في مارس 1948 ،قد اقتنعت بعدم معارضة تطبيق مخطط التقسيم، مُعتبرة ذلك نهائيا و لا محيد عنه؟
لقد كان بن غوريون مُحقا في رأيه، بما أن السكان الفلسطينيين لم يستجيبوا لنداء الجهاد الذي أطلقه مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. فلأنهم لا يملكون الإمكانات العسكرية و لا القادة لتنظيم و تنسيق مقاومة حقيقية، عمدت مئات من القرى و من المجموعات العربية، داخل المدن متعددة الأعراق، إلى إبرام «مواثيق عدم اعتداء» مع جيرانهم اليهود -الكيبوتزات، الموشافيم، النقابات العمالية، الإدارات العمومية، رجال الأعمال و التجار- معتقدين أنهم بذلك سينأون بأنفسهم عن القمع و الاضطهاد، بيد أن القوات اليهودية لم تحفل بهذه الاستسلامات الطوعية. بل كانت تعتمد فقط على لائحة القرى العربية المحصية منذ الثلاثينات، مع بعض المعطيات الجغرافية و الدينية و السوسيو-اقتصادية بل و السياسية، مثل موقف سكانها من المستوطنات اليهودية منذ بداياتها. و هي لائحة كانت الوكالة اليهودية قد أعدتها في أفق مشروع سيتم تطبيقه حين تسمح الظروف. كان الزعماء الصهاينة، بدءا ب»ثيودور هرتزل»، مهووسين بما كانوا يسمونه «ترانسفير» ( كلمة مُلطفة للتعبيرعن ترحيل) السكان الأصليين، بهدف إيواء الهجرة المكثفة لليهود نحو «وطن الأسلاف».
و قد نوقشت المسألة داخل الأوساط الصهيونية، في جلسات مغلقة في معظم الأحيان، و لكن أيضا خلال المؤتمرات المفتوحة أمام العموم. و قد صرح بن غوريون،في هذا الصدد ،أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في يونيه 1938 : «أنا مع ترانسفير إجباري (للسكان الأصليين) و لا أرى أي شيء غير أخلاقي في هذا «، ثم أضاف أمام نفس الهيأة، سنة 1944 : «إن ترحيل العرب سيكون أسهل من ترحيل شعوب أخرى، بسبب وجود دول عربية مجاورة»
و لأنهم لا يملكون الوسائل و لا الإرادة للقيام بمهمة قد تجلب عليهم إدانة العالم ، فإن زعماء الحركة الصهيونية - خاصة حاييم وايزمان و دافيد بن غوريون- قد دعوا مرارا سلطات الانتداب البريطانية إلى ترحيل السكان المحليين، دون جدوى. و قبلهما، أعرب «ثيودور هرتزل» عن نفس الطلب نحو سلطان الامبراطورية العثمانية،التي كانت فلسطين جزءا منها قبل الحرب العالمية الأولى.
لم يكن رواد الحركة الصهيونية بكل وضوح يؤمنون، هم أنفسهم، بالشعار الذي أطلقوه باعتبار أن فلسطين «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». فنظرة بن غوريون لدولة المستقبل، كما يراها، لم تكن سرا، إذ بعد اضطراره للتخلي (موقتا) عن مشروع دولة يهودية تمتد على مجموع التراب الفلسطيني، كان كثيرا ما يصرح لرفاقه أنه ينبغي الحصول على «كيان أوسع ما يمكن يضم أقل ما يمكن من العرب» ? ليس أكثر من 10 بالمائة من مجموع السكان كما كان يُدقق، و هي نسبة لم يكد يتجاوزها في نهاية التطهير العرقي للفترة ما بين 1947 و 1949 . و لأسباب مفهومة، فإن مخطط تقسيم فلسطين كما أعدته الأمم المتحدة، لم يكن به ما يستهويه، بيد أنه كان من الدهاء بحيث قبله كمُنطلق أو كمرحلة أولية تقوده نحو أهدافه. فمن المحقق، أن اليهود وهم أقل من نصف الفلسطينيين قد حصلوا على أكثر من نصف فلسطين، و حصلوا على أخصب أراضيها، لكن كان عليهم أن يتساكنوا مع عرب أكثر مما ينبغي، في نظره، حيث يمثل هؤلاء الأخيرون أكثر من 45 بالمائة من مجموع السكان. و هو ما دفعه للقول في دسمبر 1947 ، أمام اللجنة المركزية للكونفدرالية النقابية ‹الهستدروت»: «سيكون من المستحيل إقامة دولة يهودية، مستقرة و قوية، بأغلبية يهودية تصل بالكاد إلى 60 بالمائة «.
و علاوة على ذلك، فإن بن غوريون لم يكن يريد بأي ثمن، قيام دولة فلسطينية مجاورة، من شأن وجودها أن يعترف للسكان الأصليين (داخل إسرائيل)- ليس فقط- بهوية خاصة و بشرعية خطيرة، بل من شأنه منع الدولة اليهودية من التوسع. و الأنكى من هذا هو أن النظام الفدرالي الذي كان من المفروض أن يربط الدولتين حسب قرار الأمم المتحدة، من شأنه أن يجمعهما، آجلا أم عاجلا، في كيان موحد سيكون اليهود فيه أقلية. و هكذا - حسب دراسة المؤرخ الإسرائيلي «أفي شلاييم»- تمت مناقشة و إبرام اتفاق سري، قبيل الحرب، مع الملك عبد الله ملك شرق الأردن، من خلال غولدا مايير مبعوثة الوكالة اليهودية: وقد نص الاتفاق على اقتسام بقايا الجزء المخصص للفلسطينيين.
الحلقة المقبلة : أخي إسماعيل (3)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.