تأليف: ايلان بابه ترجمة :أحمد خليفة كتاب ايلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين ، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في حرب إنشاء إسرائيل التي سميت «حرب الاستقلال» فيما سماها العرب بحق «نكبة» فلسطين.ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة هنا وهناك عن أن نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود إلى اختيار طوعي أو إلى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما إن تكمل تلك الجيوش عملياتها ضد ما سمي آنذاك «العصابات الصهيونية».وما جرى عام 1948 في فلسطين معقد وبسيط في آن، ويمكن تجاوز التعقيد الذي نشرته أجهزة إعلام وإشاعات، إلى الحقيقة القائلة إن ما حدث بسيط ومرعب، إذ تم تطهير مساحات كبرى من فلسطين من سكانها الأصليين، ما يُعتبر جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها ودفع العالم إلى نسيانها. والكتاب هو محاولة لاسترداد وقائع إسرائيلية مشينة، من النسيان.تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة ا لأستاذ أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام، وله مؤلفات أخرى عن تاريخ فلسطين الحديث والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.«نحن لم نبك/ ساعة الوداع!/ فلدينا/ لم يكن وقت/ ولا دمع/ ولم يكن وداع!نحن لم ندرك/ لحظة الوداع/ أنه الوداع/ فأنّى لنا البكاء؟!(1988)(لاجئ من قرية صفورية)«أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي.(ديفيد بن غوريون،مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية،في حزيران/يونيو 1938)«البيت الأحمر» كان من أفضل نماذج البناء في تل أبيب في أعوامها الأولى. كان مصدر فخر للبنائين والحرفيين الذين عملوا في بنائه في العشرينيات من القرن الماضي، وقد جرى تصميمه ليكون المقر الرئيس لمجلس العمال المحليين. وظل هكذا إلى أن أصبح في أواخر سنة 1947 مقر قيادة الهاغاناه، الميليشيا الصهيونية الرئيسة في فلسطين. كان على مسافة قريبة من البحر في شارع اليركون، في الجزء الشمالي من تل أبيب، وشكل إضافة بديعة إلى المدينة «العبرية» الأولى، المنشأة على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ «المدينةالبيضاء»، كما كانت الطبقة المثقفة والنخبة المتعلمة من سكانها تسميانها تحبباً. ذلك بأن بياض مبانيها النقي في تلك الأيام، خلافاً لحالها اليوم، كان يكسب المدينة بأسرها ذاك الألق الساحر الذي اتسمت به مدن موانئ البحر الأبيض المتوسط في تلك الحقبة، وفي بعض الأمكنة الجغرافية. كانت متعة للنظر، وقد امتزجت بانسجام في مبانيها الأساليب المعمارية الفلسطينية المحلية بأساليب ال bauhaus (طراز بناء ألماني – المترجم) في خليط أُطلقت عليه تسمية Levantine ، بمعنى يخلو تقريباً من الإيحاءات السلبية لهذا المصطلح. لقد كان «البيت الأحمر» على شكل مستطيل بسيط، ازدانت واجهته الأمامية بأقواس شكلت إطاراً للمدخل، وسندت شرفات الطبقتين العلويين. أمّا صفة «الأحمر» فقد كانت مستوحاة إمّا من ارتباطه بالحركة العمالية، وإمّا من الصبغة الحمراء الوردية التي كانت تلونه وقت غروب الشمس. والتفسير الأول أكثر ملاءمة. وقد تواصل اقتران المبنى بالنسخة الصهيونية من الاشتراكية عندما أصبح، في السبعينات من القرن الماضي، المقر الرئيس للحركة الكيبوتسية. إن بيوتاً مثله، هي بقايا تاريخية مهمة من مخلفات فترة الانتداب، جعلت اليونسكو في سنة 2003 تصنف تل أبيب موقعاً تراثياً عالمياً. هذا المبنى لم يعد موجوداً الآن، إذ راح ضحية التطوير، الذي هدم هذا الأثر المعماري ليحول المكان إلى موقف للسيارات مجاور لفندق شيراتون الجديد. كما لم يبق في الشارع الذي كان قائماً فيه أي أثر ل «المدينةالبيضاء» التي تحولت بالتدريج إلى الحاضرة المترامية الأطراف، الملوثة الهواء، النابضة بالحياة؛ أي تل أبيب الحديثة.في هذا المبنى، عصر يوم أربعاء بارد، في 10 آذار (مارس) 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً. وفي مساء اليوم نفسه، أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد. وأُرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لإخلاء الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق؛ محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية؛ حرق منازل وأملاك وبضائع؛ طرد؛ هدم (بيوت ومنشآت)؛ وأخيراً، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم. وتم تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحدَّدة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة. وكانت هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي الخطة دالِتْ [الحرف «د» بالعبرية]، هي النسخة الرابعة والنهائية عن خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهيونيون يعدونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين. وقد كانت الخطط الثلاث السابقة تعكس في شكل مبهم تفكير القيادة الصهيونية بالنسبة إلى كيفية التعامل مع تلك الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين القاطنة في الأرض التي كانت الحركة القومية اليهودية تشتهيها لنفسها. أمّا هذه النسخة الرابعة والأخيرة، فقد بينت ذلك بوضوح، وعلى نحو غير قابل للتأويل: الفلسطينيون يجب أن يَرْحلوا. وبحسب تعبير سمحا فلابان (Simcha Flapan)، من أوائل المؤرخين الذين أشاروا إلى أهمية هذه الخطة ومغزاها، فإن «الحملة العسكرية ضد العرب، بما في ذلك غزو المناطق الريفية وتدميرها، رُسمت معالمها في خطة دالِتْ التي أعدتها الهاغاناه» وكان هدف الخطة، في الواقع، تدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء.هذه الخطة، كما سنحاول أن نوضح في الكتاب، كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصراً، كما أنها كانت استجابة للتطورات على الأرض في إثر قرار الحكومة البريطانية بإنهاء الانتداب. وأتت الاشتباكات المسلحة مع الميليشيات الفلسطينية المحلية لتوفر السياق والذريعة المثالية من أجل تجسيد الرؤيا الأيديولوجية التي تطلعت إلى فلسطين نقية عرقياً. وكانت السياسة الصهيونية في البداية قائمة على ردات فعل انتقامية على الهجمات الفلسطينية في شباط (فبراير) 1948، لكنها ما لبثت أن تحولت في آذار (مارس) 1948 إلى مبادرة لتطهير عرقي للبلد بأكمله.بعد أن اتخذ القرار، استغرق تنفيذ المهمة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800.000 نسمة، قد اقتُلعوا من أماكن عيشهم، و531 قرية دُمرت، و11 حياً مدينياً أُخلي من سكانه. إن هذه الخطة التي تقرر تطبيقها في 10 آذار 1948، والأهم من ذلك تنفيذها بطريقة منهجية في الأشهر التالية، تشكل مثالاً واضحاً جداً لعملية تطهير عرقي، وتعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية. أصبح من المستحيل تقريباً، بعد الهولوكوست، إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية. والآن، في عالمنا المعاصر، الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات، وخصوصاً مع تكاثر وسائط الإعلام الإلكترونية وانتشارها، لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر، أو إخفاؤها عن أعين الرأي العام. ومع ذلك، فإن هناك جريمة كهذه جرى محوها كلياً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948. إن هذا الحدث المصيري، الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً.التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية، والذين يقدمون عليه اليوم يُعتبرون مجرمين يجب محاكمتهم أمام هيئات قضائية خاصة. وقد يكون من الصعب التقرير بشأن المرجعية أو كيفية التعامل، في النطاق القانوني، مع الذين خططوا والذين نفذوا التطهير العرقي فلسطين في سنة 1948، لكن من الممكن استحضار جرائمهم والتوصل إلى رواية تاريخية أكثر دقة من أية رواية وضعت حتى الآن، وإلى موقف أخلاقي أكثر نزاهة.نعرف أسماء الأشخاص الذين جلسوا في تلك الغرفة في الطبقة العلوية في «البيت الأحمر»، تحت ملصقات ماركسية الإيحاء كتبت عليها شعارات مثل «إخوة في السلاح» و «القبضة الفولاذية»، ورسوم تمثل اليهود «الجدد» - أصحاء، مفتولي العضلات، وقد لوّحتهم الشمس- يصوّبون بنادقهم من وراء سواتر واقية في «الحرب الشجاعة» ضد «الغزاة العرب المعتدين». كما أننا نعرف أسماء الضباط الكبار الذين نفذوا الأوامر على الأرض، وجميعهم شخصيات معروفة في هيكل عظماء البطولة الإسرائيلية. وكثيرون منهم كانوا إلى فترة غير بعيدة أحياء يرزقون، ويؤدون أدواراً رئيسة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين؛ أمّا الآن، فإن قلة منهم لا تزال على قيد الحياة.أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، وكل من رفض أن يبتلع الرواية الصهيونية، فقد كان واضحاً لديهم منذ زمن بعيد، سابق لتأليف هذا الكتاب، أن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم، وأنهم نجحوا في التهرب من العدالة، وان من الأرجح ألاّ تجري محاكمتهم على ما اقترفت أيديهم. وبالإضافة إلى هول الاقتلاع، فإن أشد ما يبعث الإحباط في نفوس الفلسطينيين هو أن الجريمة التي ارتكبها أولئك المسؤولون يستمر إنكارها تماماً، كما يستمر تجاهل معاناة الفلسطينيين منذ سنة 1948.منذ ثلاثين عاماً تقريباً، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948 كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلفيقها عن «انتقال طوعي» جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم موقتاً من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة. غير أن المؤرخين الفلسطينيين، وفي طليعتهم وليد الخالدي، استطاعوا في السبعينات من القرن الماضي، من خلال جمع مذكرات ووثائق أصلية تتعلق بما جرى لشعبهم، أن يستعيدوا جزءاً كبيراً من الصورة التي حاولت إسرائيل محوها. لكن سرعان ما عتّم على الحقائق المستعادة مؤلفات مثل كتاب «نشوء 1948» (Genesis 1948) لمؤلفه دان كورتسمان Dan Kurtzman والذي نُشر في سنة 1970، وأعيد نشره في سنة 1992 (هذه المرة مع مقدمة بقلم أحد منفذي التطهير العرقي في فلسطين، يتسحاق رابين، الذي كان حين كتابة المقدمة رئيساً للحكومة). إنما لم يخل الأمر من قلة ساندت المجهود الفلسطيني، مثل مايكل بالومبو Michael Palumbo، الذي أيد كتابه: النكبة الفلسطينية The Palestinian Catastrophe، الذي نشر في سنة 1987، صحة الرواية الفلسطينية لأحداث 1948، استناداً إلى وثائق الأممالمتحدة ومقابلات مع لاجئين ومعنيين فلسطينيين، كانت ذكرياتهم عما جرى لهم خلال النكبة ما زالت حية في وجدانهم.كان في الإمكان تحقيق اختراق سياسي في المعركة بشأن الذاكرة في فلسطين عندما ظهر في ثمانينات القرن الماضي ما يسمى في إسرائيل «التاريخ الجديد». وكانت تلك محاولة قامت بها مجموعة صغيرة من المؤرخين الإسرائيليين لمراجعة الرواية الصهيونية عن حرب 1948. وكنت واحداً منهم. لكننا، أعني المؤرخين الجدد، لم نساهم مساهمة فعالة في النضال ضد إنكار النكبة لأننا تفادينا الخوض في مسألة التطهير العرقي وركزنا على التفصيلات، كما يفعل عادة المؤرخون الدبلوماسيون. مع ذلك، نجح المؤرخون الإسرائيليون التصحيحيون، باستخدام الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية أساساً، في إظهار سخف وكذب الادعاء الإسرائيلي أن الفلسطينيين غادروا البلد «بمحض إرادتهم». واستطاع هؤلاء المؤرخون أن يوثقوا حالات كثيرة لطرد جماعي من القرى والمدن، وأن يبينوا أن القوات المسلحة اليهودية ارتكبت عدداً كبيراً من الأعمال الوحشية، بما في ذلك مجازر شنيعة.ومن الأشخاص المعروفين جيداً، ممن كتبوا عن الموضوع، المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس Benny Morris ولأنه اعتمد حصراً على وثائق في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، فإنه خلص إلى رسم صورة جزئية فقط لما جرى في الواقع، ومع ذلك كانت كافية بالنسبة إلى عدد من قرائه الإسرائيليين كي يدركوا أن «الهروب الطوعي» للفلسطينيين مجرد خرافة، وأن الصورة التي رسمها الإسرائيليون لأنفسهم، بأنهم خاضوا حرباً «أخلاقية» في سنة 1948 ضد عالم عربي «بدائي» عدائي، مجافية للحقيقة إلى حد كبير، بل من المحتمل أن تكون فقدت صدقيتها.كانت الصورة التي رسمها موريس جزئية لأنه صدّق من دون تمحيص ما ورد في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي وجدها في الأرشيفات، بل اعتبره الحقيقة المطلقة. وقاده ذلك إلى تجاهل أعمال وحشية ارتكبها اليهود، مثل تلويث القناة التي تصل المياه عبرها إلى عكا بجراثيم التيفوئيد، وحالات الاغتصاب المتعددة، وعشرات المذابح. كما أنه بقي مصراً، على رغم عدم صحة ذلك، على أنه لم يحدث قبل 15 أيار (مايو) 1948 إخلاء للسكان بالقوة، بينما تظهر المصادر الفلسطينية بوضوح أن القوات الإسرائيلية كانت نجحت قبل أشهر من دخول القوات العربية فلسطين في طرد ما يقارب ربع مليون فلسطيني بالقوة، في وقت كان البريطانيون ما زالوا مسؤولين عن حفظ الأمن والنظام في البلد، وتحديداً قبل 15 أيار 1948. ولو كان موريس وغيره استخدموا مصادر عربية، أو التفتوا إلى التاريخ الشفوي، لكانوا استطاعوا - ربما - أن ينفذوا على نحو أفضل إلى التخطيط المنهجي وراء طرد الفلسطينيين في سنة 1948، وأن يقدموا وصفاً أكثر صدقاً لفداحة الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون.كان هناك حين ظهور المؤرخين الجدد، ولا يزال، حاجة تاريخية وسياسية إلى المضي إلى ما هو أبعد من مجرد السرد المقصور على الوصف الذي نجده في مؤلفات موريس وغيره، لا من أجل استكمال الصورة (أو بالأحرى جلاء نصفها الآخر) فحسب، بل أيضاً- وهذا هو الأهم - لأننا نفتقر إلى طريقة أُخرى لفهم جذور الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الراهن. وفوق ذلك كله، طبعاً، هناك الواجب الأخلاقي الذي يحتم الاستمرار في النضال ضد إنكار وقوع الجريمة. إن السعي للمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بدأه فعلاً آخرون. وأهم عمل صدر في هذا المجال هو كتاب وليد الخالدي الفذّ All That Remains (تُرجم إلى العربية تحت عنوان: «كي لا ننسى» - المترجم)، ولا عجب في أن يكون هذا العمل هو الأهم إذا أخذنا في الاعتبار مساهمات الخالدي القيّمة في النضال ضد الإنكار الصهيوني. إنه توثيق علمي لتاريخ القرى (الفلسطينية - المترجم) المدمَّرة (وما جرى لها في سنة 1948 - المترجم)، وسيبقى دليلاً لكل من يرغب في معرفة فداحة نكبة 1948.قد يظن المرء أن ما تم الكشف عنه من حقائق تاريخية كاف لإثارة أسئلة مقلقة. لكن الحقيقة هي أن رواية «التاريخ الجديد» والمساهمات التاريخية الفلسطينية الحديثة فشلت في النفاذ إلى مملكة الضمير الأخلاقي، وفي دفع أصحاب الضمير الحي إلى القيام بما يتوجب عليهم فعله. وما أسعى إليه في هذا الكتاب هو تفحص آلية التطهير العرقي الذي حدث في سنة 1948، ومنظومة المعرفة التي سمحت للعالم بأن ينسى الجريمة التي اقترفتها الحركة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في سنة 1948، ومكنت مرتكبيها من إنكارها. بكلمات أُخرى: أريد أن أدافع عن نموذج التطهير العرق Paradigm of ethnic cleansing وأن أستعمله بدلاً من نموذج الحرب paradigm of war كأساس وموجه للبحث العلمي والنقاش العام في شأن أحداث 1948. ولا شك لديّ في أن غياب نموذج التطهير العرقي (كأداة للبحث - المترجم) يفسر جزئياً لماذا أمكن أن يستمر إنكار النكبة طوال هذه الفترة المديدة من الزمن. فعندما أنشأت الحركة الصهيونية دولتها القومية لم تخض حرباً نجم عنها «بصورة مأسوية، لكن لم يكن هناك مفر من ذلك»، طرد «أجزاء» من السكان الفلسطينيين، بل بالعكس: كان الهدف الرئيسي للحركة تطهير فلسطين بأسرها تطهيراً عرقياً شاملاً، باعتبارها البلد الذي أرادت أن تقيم دولتها فيه. وقد أرسلت الدول المجاورة جيشاً صغيراً - بالمقارنة مع قوتها العسكرية الإجمالية - في محاولة فاشلة لمنع التطهير العرقي، لكن ذلك حدث بعد أسابيع من بدء التطهير العرقي، ولم يؤد إلى وقف العمليات التي كانت جارية، والتي استمرت إلى أن أُكملت بنجاح في خريف سنة 1948.هذه المقاربة - اعتماد نموذج التطهير العرقي أساساً مسلَّماً به لرواية أحداث 1948 - قد تبدو للبعض، من أول نظرة، بمثابة اتهام. وهي فعلاً كذلك، من نواح عديدة. إنني شخصياً أتهم السياسيين الذين خططوا، والجنرالات الذين نفذوا الخطة، بارتكاب جريمة تطهير عرقي. ومع ذلك، فإنني عندما أذكر أسماءهم لا أفعل ذلك لأنني أريد رؤيتهم يحاكمون بعد وفاتهم، وإنما كي أستحضر مرتكبي الجرائم والضحايا بصفتهم بشراً، وكي أحول دون إرجاع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إلى عوامل زئبقية مثل «الظروف»، «الجيش»، أو كما يقول موريس «في الحرب تجري الأمور كما في الحرب» La guerre comme la guerre، وما شابه ذلك من تعابير غامضة تسمح للدول ذات السيادة بالإفلات من تبعات ما ترتكبه من جرائم، وللأفراد بالإفلات من قبضة العدالة.إني أتهم، لكني أيضاً جزء من المجتمع المدان في هذا الكتاب. وأشعر بأنني جزء من الحكاية، وأيضاً أتحمل مسؤولية عما جرى. وأنا، مثل كثيرين في المجتمع الذي أنتمي إليه، مقتنع - كما سيتضح في الصفحات الأخيرة من الكتاب - بأن مثل هذه الرحلة الضرورية إلى الماضي هو الوسيلة للتقدم إلى الأمام إذا أردنا أن نصل إلى مستقبل أفضل لنا جميعاً، فلسطينيين وإسرائيليين على السواء. وهذا هو، في الجوهر، القصد من وراء هذا الكتاب.إن أحداً لم يجرب، على حد علمي، هذه المقاربة من قبل. فالروايتان التاريخيتان الرسميتان المتنافستان في بشأن ما حدث في فلسطين سنة 1948، تتجاهلان مفهوم التطهير العرقي. وبينما تدعي الرواية الصهيونية - الإسرائيلية أن السكان المحليين غادروا البلد «طوعاً»، يتحدث الفلسطينيون عن «النكبة» التي حلت بهم؛ وهذا أيضاً تعبير مراوغ كونه يحيل إلى الكارثة نفسها أكثر مما يحيل إلى من أوقعها، ولماذا فعل ذلك. لقد جرى تبني مصطلح «النكبة»، لأسباب مفهومة، كمحاولة لمواجهة الثقل المعنوي للهولوكست اليهودية. لكن تجاهل من أوقعها قد يكون ساهم، إلى حد ما، في استمرار العالم في إنكار أن ما جرى في فلسطين سنة 1948، وبعد ذلك، كان تطهيراً عرقياً.التعريف العام لمكوّنات التطهير العرقي ينطبق حرفياً، تقريباً، على حالة فلسطين. وقصة ما جرى في سنة 1948، بحد ذاتها، ليست معقدة. لكن هذا لا يجعلها تبدو، تبعاً لذلك، فصلاً مبسَّطاً، أو هامشياً، في تاريخ طرد الفلسطينيين من وطنهم. وفي الحقيقة، فإن اعتماد موشور التطهير العرقي يمكّن المرء بسهولة من اختراق عباءة التعقيدات التي يلفّع الدبلوماسيون الإسرائيليون الحقائق بها بصورة شبه غريزية، والتي يختبئ الأكاديميون الإسرائيليون تحتها، عندما يتصدون للمحاولات الخارجية لانتقاد الصهيونية، أو الدولة اليهودية بسبب سياساتها أو سلوكها. يقولون في بلدي: «الأجانب لا يفهمون، ولا يستطيعون أن يفهموا، هذه الحكاية المعقدة»، وبالتالي لا حاجة حتى إلى شرحها لهم. ويجب ألاّ نسمح لهم بالتدخل في محاولات حل النزاع، إلاّ إذا قبلوا وجهة النظر الإسرائيلية. وقصارى ما يمكن للعالم فعله، حسب ما دأبت الحكومة الإسرائيلية على القول دائماً، هو أن يُسمح «لنا»، نحن الإسرائيليين، بصفتنا ممثلين للطرف «المتحضر» و «العقلاني» في النزاع، بإيجاد حل عادل ل «أنفسنا» وللطرف الآخر، الفلسطينيين، الذين هم في النهاية صورة مصغرة للعالم العربي «غير المتحضر» و «الانفعالي» الذي ينتمون إليه. ومنذ أن أبدت الولاياتالمتحدة استعدادها لتبني هذه المقاربة المشوهة والقبول بالغطرسة الكامنة وراءها، حصلنا على «عملية سلام» لم تؤد، بل لم يكن من الممكن أن تؤدي، إلى أي نتيجة، لأنها تتجاهل تماماً لب المشكلة.لكن قصة 1948 ليست، طبعاً، معقدة على الإطلاق، وبالتالي فإن هذا الكتاب يتوجه إلى القادمين الجدد إلى هذا الحقل، وفي الوقت نفسه إلى أولئك الذين كانوا، لأعوام كثيرة، ولأسباب متعددة، معنيين بالمسألة الفلسطينية، ويفتشون عن طريق للاقتراب من إيجاد حل لها. إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إن استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني؛ إن ذلك، كما أراه، قرار أخلاقي، وبالذات الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحل ويتجذر في فلسطين وإسرائيل.تعريفاتوأصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معرَّفاً جيداً. فمن فكرة تجريدية مرتبطة حصراً، إلى حد كبير، بالأحداث فيما كان يسمى سابقاً يوغوسلافيا، صار الآن يُعرَّف أنه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي. وقد ذكّر أسلوب استخدام بعض الجنرالات والساسة الصرب لتعبير «التطهير العرقي» العلماء المختصين بأنهم سمعوا هذا التعبير من قبل، إذ استخدمه النازيون وحلفاؤهم في يوغسلافيا، كالميليشيات الكرواتية، في الحرب العالمية الثانية. لكن جذور الطرد الجماعي، طبعاً، ضاربة في القدم. فقد استخدم الغزاة الأجانب التعبير (أو مفردات مرادفة له)، وطبقوا مضمونه بمنهجية ضد السكان الأصليين، منذ زمن التوراة حتى زمن أوج الاستعمار.تعرّف موسوعة «هاتشينسون» Hutchinson «التطهير العرقي» بأنه طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل، بما في ذلك وسائل غير عنيفة، كما حدث بالنسبة إلى المسلمين في كرواتيا، الذين طردوا بعد اتفاقية ديتون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995.ويحظى هذا التعريف أيضاً بقبول وزارة الخارجية الأميركية، ويضيف خبراؤها أن جزءاً من جوهر التطهير العرقي هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة. والطريقة الأكثر استخداماً هي إخلاء الإقليم من السكان في سياق «أجواء تضفي شرعية على أعمال المعاقبة والانتقام». وتكون النتيجة النهائية لمثل هذا العمل خلق مشكلة لاجئين. وقد تفحصت وزارة الخارجية الأميركية بصورة خاصة ما حدث في أيار (مايو) 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية. فقد تم إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة، وهذا ما لم يكن ممكناً إنجازه إلاّ من خلال تخطيط مسبق أعقبه تنفيذ منهجي. وقد حدثت أيضاً مجازر متفرقة من أجل تسريع العملية. وما حدث في بيك في سنة 1999 حدث بالطريقة نفسها تقريباً في مئات من القرى الفلسطينية في سنة 1948.المؤرخ الشاب، المتخرج في الجامعة العبرية، بن- تسيون لوريا، كان موظفاً في الدائرة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية، وقد أشار إلى أنه سيكون من المفيد جداً إعداد سجل مفصل للقرى العربية، واقترح أن يقوم الصندوق القومي اليهودي بإعداد السجل. «هذا سيساعد جداً في تحرير البلد»، كتب في رسالة إلى الصندوق. وكان موفقاً في اختياره الصندوق للقيام بالمهمة، إذ إن مبادرته إلى إشراك الصندوق القومي اليهودي في التطهير العرقي المتوخّى أدت إلى ضخ مزيد من الزخم والحماسة في العمل على خطط الطرد التي تم وضعها لاحقاً.كانت المهمة الرئيسية رسم خرائط القرى، لذا تم تجنيد خبير طوبوغرافي من الجامعة العبرية، كان يعمل في دائرة رسم الخرائط الانتدابية، للعمل في المشروع. واقترح هذا الخبير القيام بمسح فوتوغرافي جوي للقرى، وأطلع باعتزاز بن- غوريون على خريطتين جويتين لقريتي السنديانة وصبّارين (الخريطتان موجودتان حالياً في أرشيف دولة إسرائيل، وهما كل ما تبقى من هاتين القريتين بعد سنة 1948).ومن ثم دُعي أفضل المصورين المحترفين في البلد للانضمام إلى المبادرة. كما تم تجنيد يتسحاق شيفر من تل أبيب، ومارغو ساديه، زوجة يتسحاق ساديه، قائد البالماح (وحدات الكوماندو التابعة للهاغاناه). وأُخفي مختبر تحميض الأفلام في منزل مارغو خلف واجهة شركة لري المزروعات، إذ كان لا بد من إخفائه عن السلطات البريطانية التي كان من الممكن أن تعتبره مجهوداً استخباراتياً غير شرعي موجهاً ضدها. ومع أن البريطانيين كانوا على علم مسبق به، إلاّ إنهم لم ينجحوا قط في اكتشاف المخبأ السري. وفي سنة 1947، نُقلت دائرة رسم الخرائط بكاملها إلى «البيت الأحمر».كانت المحصلة النهائية لجهود الطوبوغرافيين والمستشرقين ملفات لكل قرية من قرى فلسطين، عمل الخبراء الصهيونيون على استكمالها بالتدريج، بحيث أصبح «الأرشيف» مكتملاً تقريباً في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. وتضمن ملف كل قرية تفصيلات دقيقة عن موقعها الطوبوغرافي، وطرق الوصول إليها، ونوعية أراضيها، وينابيع المياه، ومصادر الدخل الرئيسية، وتركيبتها الاجتماعية - الاقتصادية، والانتماءات الدينية للسكان، وأسماء المخاتير، والعلاقات بالقرى الأُخرى، وأعمار الرجال (من سن 16 إلى سن الخمسين)، ومعلومات كثيرة أُخرى. ومن فئات المعلومات المهمة كان هناك مؤشر يحدد درجة «العداء» (للمشروع الصهيوني)، بناء على مدى مشاركة القرية في ثورة 1936. وكانت هناك قائمة بأسماء الذين شاركوا في الثورة، والعائلات التي فقدت أشخاصاً في القتال ضد البريطانيين. وأُعطي الأشخاص الذين زُعم أنهم قتلوا يهوداً اهتماماً خاصاً. هذه الأجزاء الأخيرة من المعلومات نجم عنها في سنة 1948 أشد الأعمال وحشية في القرى، وقادت إلى إعدامات جماعية وتعذيب للضحايا.أدرك الأعضاء النظاميون في الهاغاناه، الذين كُلّفوا جمع المعلومات من خلال رحلات «استطلاعية» إلى القرى، منذ البداية، أن المهمة لم تكن تمريناً أكاديمياً في الجغرافيا. وكان واحداً من هؤلاء موشيه باسترناك، الذي شارك في إحدى رحلات الاستطلاع وجمع المعلومات المبكرة في سنة 1940، وروى بعد أعوام:«كان علينا أن ندرس البنية الأساسية للقرية العربية. ويعني ذلك البنية وما هي أفضل طريقة لمهاجمتها. في الكليات الحربية علمونا كيف نهاجم مدينة أوروبية حديثة، وليس قرية بدائية في الشرق الأدنى. لا نستطيع أن نقارنها (القرية العربية) بقرية بولندية أو نمسوية. القرية العربية، خلافاً للقرى الأوروبية، كانت مبنية طوبوغرافياً على هضاب. وذلك يعني أنه كان يتعين علينا أن نجد الوسيلة الأفضل للاقتراب من القرية من الأعلى، أو دخولها من الأسفل. وكان علينا أن ندرب «عربنا» (المستشرقين الذين كانوا يشغّلون شبكة من المتعاونين) على الطريقة الأفضل للتعامل مع المخبرين».ويتذكر باسترناك أنه في سنة 1943 كان هناك إحساس متنام بأنه أصبحت لديهم أخيراً شبكة من المخبرين تستحق التسمية. ويرجع الفضل في ذلك، بصورة رئيسية، إلى شخص واحد هو عزرا دانين، الذي سيقوم بدور قيادي في التطهير العرقي في فلسطين.كان تجنيد عزرا دانين، الذي أُخذ من عمل ناجح في مجال زراعة الحمضيات، هو ما نقل العمل الاستخباراتي وتنظيم ملفات القرى إلى مستوى جديد من حيث الكفاءة. وتتضمن الملفات في فترة ما بعد سنة 1943 وصفاً مفصلاً للزراعة وتربية الحيوانات، وللأراضي المزروعة، ولعدد الأشجار في المزارع، ولنوع وجودة الفواكه في كل بستان (وحتى كل شجرة مفردة)، ولمعدل مساحة الأرض بالنسبة إلى كل عائلة، ولعدد السيارات، ولأصحاب الدكاكين، وللعاملين في الورشات، ولأسماء الحرفيين في كل قرية ونوع مهاراتهم. وفي وقت لاحق، أضيفت إلى ذلك تفصيلات دقيقة جداً عن كل حمولة وانتماءاتها السياسية، والفوارق الطبقية بين الأعيان والعامة، وأسماء الموظفين العاملين في دوائر الحكومة الانتدابية.ومع اكتساب عملية جمع المعلومات قوة دفع تلقائية، يجد المرء مع حلول سنة 1945 مزيداً من التفصيلات، مثل وصف المساجد في القرى وأسماء الأئمة فيها، مع صفات مثل «هو رجل عادي»، بل حتى وصفاً دقيقاً لغرف الاستقبال داخل بيوت هذه الشخصيات. ومع اقتراب فترة الانتداب من نهايتها، أصبح جمع المعلومات موجهاً بصراحة نحو المعطيات ذات الطابع العسكري، مثل: عدد الحراس (معظم القرى لم يكن لديه أي حراس)، وكمية الأسلحة الموجودة ونوعيتها (بصورة عامة قديمة، أو لا وجود لها).وجنّد دانين يهودياً ألمانياً اسمه يعقوب شمعوني، أصبح لاحقاً أحد أهم المستشرقين الإسرائيليين، وعينه مسؤولاً عن مشاريع خاصة داخل القرى، لا سيما الإشراف على عمل المخبرين. وأطلق دانين وشمعوني على أحد هؤلاء لقب «أمين الصندوق» (هَ- غِزْبار). وأشرف هذا الشخص، الذي أثبت أنه نبع معلومات لجامعي المعطيات من أجل الملفات، على شبكة المتعاونين من سنة 1941 حتى سنة 1945. وانكشف أمره في سنة 1945 وقتل على يد ناشطين فلسطينيين.وليس بعيداً من قرية الفريديس والمستوطنة اليهودية «القديمة» زِخْرون يعقوف، حيث يوجد اليوم طريق يصل الطريق الساحلية الرئيسية بمرج بن عامر (عيمك يزراعيل) عبر وادي الملح، توجد قرية للشباب (نوع من المدارس الداخلية للشبيبة الصهيونية) تدعى شيفيا. وفي هذا المكان بالذات، كانت الوحدات الخاصة الموضوعة في تصرف مشروع ملفات القرى تتدرب في عام 1944، وتنطلق منه في رحلاتها الاستطلاعية. وكانت شيفيا آنذاك شديدة الشبه بقرية تجسس خلال الحرب الباردة: يهود يتجولون متحدثين بالعربية، ويحاولون محاكاة ما يعتقدون أنها طرائق عيش العرب المعتادة وسلوك الريفيين الفلسطينيين.في عام 2002، تذكّر واحد من أوائل المجندين للتدرب في هذه القاعدة العسكرية الخاصة مهمته الاستطلاعية الأولى لقرية أم الزينات في عام 1944. كان الهدف تفحّص القرية وجلب معلومات مثل أين يقطن المختار، وأين يقع الجامع، وأين يسكن أغنياء القرية، ومن كان نشيطاً في ثورة 1936. لم تكن هذه مهمة خطرة جداً لأن القائمين بها كانوا يعرفون أنهم يستطيعون استغلال أصول الضيافة العربية التقليدية، بل إنهم حلّوا ضيوفاً في بيت المختار نفسه. وعندما لم ينجحوا في يوم واحد في جمع المعلومات التي كانوا يبحثون عنها، طلبوا استضافتهم مرة أُخرى. وكُلّفوا أن يحصلوا في زيارتهم الثانية على معلومات عن خصوبة الأراضي، التي يبدو أن نوعيتها الجيدة أدهشتهم كثيراً. وقد دُمِّرت أم الزينات في عام 1948، وطرد جميع سكانها، مع أنه لم يصدر عنهم قط أي استفزاز.وخلال المراحل المبكرة للتطهير العرقي (حتى أيار 1948)، كان بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين غير النظاميين يواجهون عشرات الآلاف من الجنود اليهود المدربين جيداً. وفي المراحل التالية، لم تواجه قوة يهودية، عديدها ضعف عديد الجيوش العربية مجتمعة تقريباً، أية صعوبة في استكمال إنجاز المهمة.على هامش القوة العسكرية اليهودية الرئيسية نشطت مجموعتان متطرفتان: الإرغون (يشار إليها عادة بالعبرية بتسمية إيتْسِلْ)، وعصابة شتيرن (ليحي). والإرغون منظمة انشقت عن الهاغاناه عام 1931، وكان يقودها في أربعينيات القرن الماضي مناحيم بيغن. وكانت طورت سياسات خاصة بها معادية جداً للوجود البريطاني وللسكان المحليين على السواء. أمّا عصابة شتيرن، فكانت فرعاً من الإرغون انشق عنها عام 1940. ومع الهاغاناه، شكلت المنظمات الثلاث جيشاً موحَّداً خلال أيام النكبة (مع أنها لم تعمل دائماً بانسجام وتنسيق).وكان جزء مهم من المجهود العسكري الصهيوني هو تدريب وحدات الكوماندو الخاصة، البالماح، التي أنشئت عام 1941، في الأصل، لمساعدة الجيش البريطاني في الحرب ضد النازيين في حال وصول هؤلاء إلى فلسطين. لكن سرعان ما وُجّهت حماستها ونشاطاتها إلى العمل ضد الفلسطينيين.في عمليات التطهير العرقي اللاحقة، كانت قوات الهاغاناه والبالماح والإرغون تحتل القرى، وبعد احتلالها بفترة وجيزة كانت تسلمها إلى قوات أقل قدرة قتالية، إلى وحدات من سلاح الميدان («حيش» بالعبرية) الذي أنشئ عام 1939، وكان يشكل الذراع اللوجستية للقوات اليهودية. وتتحمل هذه الوحدات الإضافية مسؤولية ارتكاب عدد من الأعمال الوحشية التي رافقت عمليات التطهير.شكلت هذه القوى المسلحة مجتمعة قوة حربية ضخمة بما فيه الكفاية لتعزز ثقة بن - غوريون بقدرة المجتمع اليهودي على أن يرث الدولة الانتدابية، ويستولي على معظم الأراضي الفلسطينية والأملاك والثروات الموجودة فيها.كان موشيه شاريت، وزير خارجية الدولة اليهودية «غير الرسمي»، خارج البلد خلال الأشهر السابقة لإعلان قيام الدولة. وكان يتسلم بين حين وآخر رسائل من بن - غوريون توجهه إلى أفضل الطرق للعمل من أجل الحصول على دعم عالمي ويهودي لدولة يهودية مستقبلية تواجه خطر الإبادة، وفي الوقت نفسه تطلعه على حقائق الواقع الفعلي على الأرض.بدأ تبادل الرسائل برسالة أرسلها بن - غوريون في كانون الأول (ديسمبر) 1947 إلى شاريت بغية إقناعه بتفوق اليهود عسكرياً في فلسطين: «نستطيع أن نجوّع عرب حيفا ويافا (إذا أردنا ذلك)». إن هذه الثقة في ما يتعلق بقدرة الهاغاناه على احتلال فلسطين بأسرها، بل احتلال ما هو أكثر منها، ستستمر طوال مدة القتال.وعندما يتعلق الأمر بإعادة تركيب جزء من عملية تاريخية مرتبط بتحولها من أيديولوجيا نظرية إلى واقع ملموس، هناك خياران نستطيع، نحن المؤرخين، أن نختار أحدهما في حالة فلسطين عام 1948:الخيار الأول هو أن نلفت انتباه القارئ إلى ثبات القادة الصهيونيين- من هيرتسل إلى بن – غوريون - على رغبتهم في إخلاء الدولة اليهودية العتيدة من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ومن ثم نبين الارتباط الوثيق بين هذه الرغبة وبين عمليات الطرد الفعلية التي ارتكبت عام 1948. وتتجسد هذه المقاربة بوضوح في عمل المؤرخ نور الدين مصالحة، الذي رسم بدقة فائقة أصل أحلام «الآباء المؤسسين» الصهيونيين وخطط الطرد لديهم. وأوضح كيف أن الرغبة في إزالة العرب من فلسطين كانت من الدعامات الأساسية للفكر الصهيوني منذ لحظة ظهور الحركة الصهيونية على المسرح السياسي بشخص تيودور هيرتسل. أما بن - غوريون فبلور أفكاره بوضوح في هذه المسألة عام 1937. يقول كاتب سيرته، ميخائيل بار - زوهر: «في المناقشات الداخلية، في التعليمات لمساعديه، تمسك العجوز بموقف واضح: من الأفضل أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب داخل أراضي الدولة».أمّا الخيار الآخر (المتاح للمؤرخ - المترجم) فهو التركيز على التطورات التراكمية في عملية صنع القرار، وإظهار كيف أن القرارات المتخذة، في اجتماع بعد اجتماع، في شأن الاستراتيجيا والوسائل، اندمجت بالتدريج إلى أن شكلت خطة تطهير عرقي منهجية وشاملة. وسأستخدم كلا الخيارين.إن السؤال المتعلق بما يجب فعله بالسكان الفلسطينيين في الدولة اليهودية العتيدة أصبح يناقَش بتركيز شديد في الأشهر الأخيرة القريبة من نهاية الانتداب، وأخذت فكرة جديدة تعاود الظهور في أروقة السلطة الصهيونية: «الميزان». وهو مصطلح يشير إلى «الميزان الديموغرافي» بين العرب واليهود في فلسطين. وكان ميله في غير مصلحة غالبية يهودية، أو سيطرة يهودية حصرية على البلد، يوصف بأنه كارثي. وكان الميزان الديموغرافي، سواء داخل حدود الدولة التي عرضتها الأممالمتحدة على اليهود، أو داخل الحدود التي عينتها القيادة الصهيونية نفسها، كان في نظر القيادة اليهودية كارثة وشيكة الوقوع.وكان رد فعل القيادة الصهيونية تجاه هذا المأزق من نوعين: نوع للاستهلاك العام، ونوع للحلقة الضيقة من المقربين الذين جمعهم بن - غوريون حوله. فالسياسة العلنية التي شرع هو وزملاؤه في الإفصاح عنها في هيئات مثل «مجلس الشعب» المحلي («البرلمان» اليهودي في فلسطين) كان محورها الحاجة إلى تشجيع هجرة يهودية كثيفة إلى البلد. أمّا في الأطر الضيقة، فقد كان القادة يعترفون بأن الهجرة مهما تعاظم شأنها فإنها لن تكون أبداً كافية لموازنة الغالبية الفلسطينية، وأن هناك حاجة إلى وسائل أُخرى إضافة إلى الهجرة. وكان بن - غوريون وصف هذه الوسائل عام 1937 عندما ناقش مع أصدقاء له مسألة فقدان غالبية يهودية صلبة في دولة مستقبلية، فأخبرهم أن «واقعاً» كهذا - الغالبية الفلسطينية في البلد - سيرغم المستوطنين اليهود على استخدام القوة لتحقيق «الحلم»: فلسطين يهودية محضة. وبعد عشرة أعوام، في 3 كانون الأول (ديسمبر) 1947، في خطاب له أمام كبار أعضاء حزب مباي (حزب عمال أرض إسرائيل)، لخص بصورة أوضح كيف يجب التعامل مع حقائق لا يمكن قبولها، مثل قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة:هناك 40 في المائة من غير اليهود في المناطق المخصصة للدولة اليهودية. إن هذه التركيبة ليست أساساً متيناً لدولة يهودية، ويجب أن نواجه هذا الواقع الجديد بكل قسوته ووضوحه. إن ميزاناً ديموغرافياً كهذا يطرح علامة استفهام في شأن قدرتنا على المحافظة على سيادة يهودية... فقط دولة 80 في المائة من سكانها على الأقل يهود يمكن أن تكون قابلة للحياة ومستقرة.في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي قبل شهر تقريباً من تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم، وأمام هيئة مختلفة هي اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، صرح بن - غوريون للمرة الأولى بمنتهى الوضوح أن التطهير العرقي يشكل وسيلة بديلة، أو متممة، لضمان أن تكون الدولة الجديدة يهودية محضة. أخبر الحاضرين أن الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية يمكن أن يصبحوا طابوراً خامساً، وبما أن الأمر كذلك فإنه «يمكن اعتقالهم جماعياً أو طردهم، ومن الأفضل طردهم».لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟ يجزم سمحا فلابان أن غالبية القادة الصهيونيين كان يمكن ألاّ تذهب إلى حد الطرد الجماعي. بكلمات أُخرى: لو أن الفلسطينيين امتنعوا من مهاجمة أهداف يهودية بعد أن تبني قرار التقسيم، ولو أن النخبة الفلسطينية لم تهجر المدن، لكان من الصعب على الحركة الصهيونية أن تنفذ تطلعها إلى فلسطين مطهرة عرقياً. مع ذلك، فقد قبل فلابان أن الخطة «دالِتْ» كانت خطة رئيسية لتطهير فلسطين عرقياً. وخلافاً للتحليل الذي يقدمه بِني موريس في الطبعة الأولى من كتابه عن نشوء مشكلة اللاجئين، لكن، بما ينسجم تماماً مع التغيير الذي أدخله على وجهة التحليل في الطبعة الثانية، فإن الخطة الرئيسية لتطهير فلسطين عرقياً، الخطة «دالِتْ»، لم تنشأ من فراغ. فقد برزت بصفتها الخطة النهائية استجابة لمنحى تطور الأحداث بالتدريج على الأرض، ومن خلال نوع من سياسة ردود فعل آنية تبلورت شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت. لكن تلك الاستجابة كانت دائماً راسخة بقوة في الأيديولوجيا الصهيونية وهدفها المتمثل في الدولة اليهودية المحضة. وهكذا، فإن الهدف الرئيسي كان واضحاً منذ البداية - إزالة العرب من فلسطين - بينما تطورت الوسائل لتحقيقه على أكمل وجه ممكن مع الاحتلال العسكري الفعلي للأراضي الفلسطينية التي ستصبح دولة إسرائيل اليهودية الجديدة.والآن، بعد أن أصبحت المساحة محدَّدة والتفوق العسكري مؤكَّداً، كانت الخطوة الرابعة للقيادة الصهيونية، في اتجاه استكمال تطهير فلسطين، توفير الوسائل الفعلية الملموسة التي من شأنها أن تمكنهم من إزاحة هذه الكتلة الكبيرة من السكان. ففي الأراضي التي ستتكون منها مساحة دولتهم اليهودية الكبرى العتيدة، كان يعيش في أوائل كانون الأول 1947 مليون فلسطيني من مجموع السكان الفلسطينيين البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة، بينما كان المجتمع اليهودي أقلية مكونة من 600.000 نسمة.الانزعاج من حياة طبيعيةأعلنت الهيئة العربية العليا إضراباً لمدة ثلاثة أيام ونظمت تظاهرات جماهيرية احتجاجاً على قرار الأممالمتحدة بالتقسيم. ولم يكن هناك أي جديد في هذا النوع من ردود الفعل: كان رد الفعل الفلسطيني المألوف تجاه سياسات اعتبروها ضارة أو خطرة قصير الأمد وغير فاعل. وأفلت بعض التظاهرات من السيطرة وتوجه إلى مناطق يهودية تجارية، كما حدث في القدس حين هاجم متظاهرون دكاكين يهودية وسوقاً. لكن، وقعت أحداث أُخرى لم تكن لها، بحسب جهاز الاستخبارات اليهودي، أية علاقة بقرار الأممالمتحدة. فعلى سبيل المثال، نُصب كمين لحافلة ركاب يهودية، وهو حدث أجمعت كتب التاريخ اليهودي كلها تقريباً على أنه شكل بداية حرب 1948. وقامت بهذا العمل عصابة أبو كشك، وكانت دوافعه عشائرية وإجرامية أكثر مما كانت جزءاً من جدول أعمال قومي. وفي أي حال، بعد ثلاثة أيام لاحظ المراسلون الصحافيون الأجانب، الذين كانوا يتابعون التظاهرات والإضرابات، معارضة متنامية بين الناس العاديين للاستمرار في الاحتجاج، ورغبة واضحة في العودة إلى الحياة الطبيعية. ففي نهاية المطاف، كان قرار الأممالمتحدة بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين فصلاً كئيباً، لكن ليس جديداً، في تاريخهم. فعلى مر القرون، انتقلت فلسطين من يد إلى أُخرى، أحياناً امتلكها غزاة أوروبيون أو آسيويون، وأحياناً امتلكتها أجزاء من إمبراطوريات إسلامية. أمّا الناس فاستمرت حياتهم، إلى حد ما، من دون تغيير: زرعوا أراضيهم، أو مارسوا تجارتهم حيثما كانوا، واستسلموا إلى الوضع الجديد إلى حين حدوث تغيير ما مرة أُخرى. وبالتالي، انتظر القرويون وسكان المدن، سواء بسواء، بصبر، ليروا ما سيعني لهم أن يكونوا جزءاً من دولة يهودية، أو أي نظام قد يحل محل الحكم البريطاني. ولم يكن لدى معظمهم أي فكرة عما ينتظرهم، أو أن ما كان وشيك الحدوث سيشكل فصلاً لا سابق له في تاريخ فلسطين، وليس مجرد انتقال من حاكم إلى آخر، وإنما سيشكل طرداً فعلياً للسكان.في كانون الأول 1947 كان الفصل الأكثر مراوغة في تاريخ التطهير العرقي في فلسطين. كان رد الفعل المعتدل في العواصم العربية المحيطة بفلسطين محط ترحيب لدى الهيئة الاستشارية لبن - غوريون، لكن رد الفعل الفلسطيني اللامبالي، والمتقاعس تقريباً، أزعجهم. في الأيام الثلاثة الأولى التالية لتبني قرار التقسيم، كانت مجموعة مختارة من أعضاء الهيئة الاستشارية تجتمع يومياً، لكنها ما لبثت أن استرخت إلى حد ما، ثم عادت إلى مألوف عادتها في الاجتماع كل عصر أربعاء في إطار اجتماعات القيادة العليا الأسبوعية، وإلى الاجتماع الإضافي للمجموعة المصغرة في اليوم التالي (عادة في منزل بن - غوريون). وقد خُصّص أول اجتماع عقد في كانون الأول لتقويم المزاج والنيات الفلسطينية. وبلّغ «الخبراء» الحاضرين أن الفلسطينيين، على رغم دخول المتطوعين المبكر إلى البلد رويداً رويداً، بدوا تواقين إلى الاستمرار في حياتهم الطبيعية.لكن العودة السريعة إلى الحياة الطبيعية ورغبة الفلسطينيين في الابتعاد عن التورط في حرب أهلية أربكتا القادة الصهيونيين الذين كانوا مصممين على خفض عدد الفلسطينيين داخل دولتهم اليهودية العتيدة بصورة جذرية، إن لم يكن التخلص منهم كلياً. كانوا في حاجة إلى ذريعة، وكان من الأصعب عليهم اختلاقها لو أن رد الفعل الفلسطيني المعتدل ظل مستمراً. لكن، ل «حسن حظهم»، وسع جيش المتطوعين العرب في وقت ما نشاطاته ضد القوافل والمستوطنات اليهودية، وبذلك سهّل على الهيئة الاستشارية وضع سياسة الاحتلال والطرد في إطار شكل مبرر من أشكال الرد «الانتقامي»، أي «تَغْمول» tagmul بالعبرية. لكن الهيئة الاستشارية كانت بدأت منذ كانون الأول 1947 باستخدام الكلمة العبرية «يوزما» (مبادرة) لوصف الاستراتيجيا التي كانت تنوي اتباعها حيال الفلسطينيين القاطنين في أراضي الدولة اليهودية التي كانت تتطلع إليها. وكلمة «مبادرة» تعني العمل ضد السكان الفلسطينيين من دون انتظار ذريعة لرد انتقامي على اعتداء من جانبهم. ومع مرور الوقت، ستختفي بصورة متزايدة، وفي شكل واضح، الذرائع للقيام بالردود الانتقامية. كان بالتي سيلا عضواً في الوحدات التابعة لجهاز الاستخبارات، والتي ستقوم بدور حاسم في تنفيذ عمليات التطهير العرقي. وكانت واحدة من مهماتها تقديم تقرير يومي عن المزاج العام، أو الاتجاهات، في أوساط السكان الريفيين في فلسطين. وقد أذهل سيلا، الذي كان ينشط في السهول الشمالية الشرقية للبلد، الفارق الواضح في رد فعل المجتمع في كل من الطرفين حيال الواقع السياسي الجديد الآخذ في التكون حولهم. المزارعون اليهود في الكيبوتسات والمستوطنات، حولوا أماكن إقامتهم إلى مواقع عسكرية مستعدة للدفاع والهجوم. أمّا القرى الفلسطينية، فقد «واصلت حياتها كالمعتاد». وفي الواقع استقبله الناس في القرى الثلاث التي زارها - عين دور ودبورية وعين ماهل - كما كانوا يستقبلونه دائماً، وحيّوه كزبون محتمل لإجراء مقايضة، أو متاجرة، أو لتبادل النكات والأخبار. في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1947، كان عزرا دانين ونائبه يهوشواع (جوش) بالمون مختفيين عن الأنظار، وقد افتتحا اجتماع «الهيئة الاستشارية» بإخبار الحاضرين أن النخبة الحضرية الفلسطينية أخذت تترك بيوتها وتنتقل إلى مساكنها الشتوية في سورية ولبنان ومصر. وكان ذلك ردة فعل نموذجية من جانب النخب الحضرية في أوقات الأزمات - الذهاب إلى مكان آمن ريثما يهدأ الوضع. مع ذلك، فإن المؤرخين الإسرائيليين، بمن فيهم المؤرخون التصحيحيون (الجدد) مثل بِني موريس، فسروا هذا الخروج التقليدي المؤقت بأنه «هروب طوعي» كي يقولوا لنا إن إسرائيل ليست مسؤولة عما آل إليه أمرهم. لكنهم عندما تركوا، كان في نيتهم العودة إلى بيوتهم لاحقاً، وما منعهم من العودة هم الإسرائيليون: إن منع الناس من العودة إلى بيوتهم بعد إقامة قصيرة في الخارج هو عملية طرد مثل أي عمل آخر موجه ضد سكان محليين بهدف طردهم.وأخبر دانين الحاضرين أن هذا هو المثل الوحيد الذي استطاعا اكتشافه في ما يتعلق بمغادرة فلسطينيين إلى ما وراء الحدود المعيَّنة للدولة اليهودية في قرار الأممالمتحدة، باستثناء عشائر بدوية عدة انتقلت إلى أمكنة قريبة من قرى عربية خوفاً من تعرضها لهجمات يهودية. ويبدو أن دانين كان مصاباً بخيبة أمل من جراء ذلك، لأنه طالب في الوقت نفسه بإتباع سياسة أشد عنفاً بكثير، على رغم حقيقة أنه لم يكن هناك مبادرات أو نيات هجومية من ناحية الفلسطينيين. وتابع شارحاً للهيئة الاستشارية الفوائد التي ستنجم عن مثل هذه السياسة: قال له مخبروه إن أعمال عنف ضد الفلسطينيين سترعبهم، «الأمر الذي سيجعل أي مساعدة من العالم العربي غير مجدية»، وهذا ما يعني ضمناً أن القوات اليهودية سيكون في وسعها أن تفعل بهم ما تشاء.«ماذا تعني بأعمال عنف؟» استفسر بن - غوريون.«تدمير وسائط النقل (حافلات الركاب، والشاحنات التي تنقل المحاصيل الزراعية، والسيارات الخاصة)... وإغراق القوارب التي يستعملونها للصيد في يافا، وإغلاق دكاكينهم، ومنع المواد الخام من الوصول إلى مصانعهم».«كيف ستكون ردة فعلهم؟» سأل بن - غوريون.«ردة الفعل الأولية قد تكون أعمال شغب، لكنهم في نهاية المطاف سيفهمون الرسالة». وهكذا فإن الهدف الرئيسي كان ضمان أن يصبح السكان تحت رحمة الصهيونيين، كي يمكن حسم مصيرهم. ويبدو أن بن- غوريون أعجبه الاقتراح، وكتب إلى شاريت بعد ثلاثة أيام شارحاً له الفكرة العامة: إن المجتمع الفلسطيني في المنطقة اليهودية سيكون «تحت رحمتنا»، وسيكون في استطاعة اليهود أن يفعلوا بهم ما يشاؤون، بما في ذلك «تجويعهم حتى الموت».وكان يهودي سوري آخر، إلياهو ساسون، هو من حاول، إلى حد ما، أن يقوم بدور محامي الشيطان في الهيئة الاستشارية، وبدا أن لديه شكوكاً تجاه المقاربة الشديدة العداء التي كان دانين وبالمون يشرحانها. كان هاجر إلى فلسطين سنة 1927، وربما كان الشخص الأكثر إثارة للفضول، وأيضاً الأكثر تناقضاً، في الهيئة الاستشارية، ففي سنة 1919، قبل أن يصبح صهيونياً، انضم إلى الحركة القومية العربية في سورية. وكان دوره الرئيسي في الأربعينات من القرن الماضي هو التحريض على أتباع سياسة «فرِّقْ تَسُدْ» داخل المجتمع الفلسطيني، وأيضاً في الدول العربية المجاورة. لكن محاولاته زرع الشقاق بين المجموعات الفلسطينية لم تبق لها أهمية بعد أن اتجهت القيادة الصهيونية نحو تطهير عرقي شامل لفلسطين بأسرها.وكان اجتماع 10 كانون الأول آخر اجتماع يقوم فيه ساسون بمحاولة لإقناع زملائه بأنه على رغم الحاجة إلى «خطة شاملة» كما سمّاها - أي اقتلاع السكان الفلسطينيين - فإن من الفطنة عدم اعتبار جميع السكان العرب أعداء، والاستمرار في استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ». وكان فخوراً جداً بدوره، في الثلاثينات، في تسليح المجموعات الفلسطينية المسماة «عصابات السلام»، والتي كانت مكوَّنة من خصوم الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني. وقد قاتلت هذه الوحدات ضد التشكيلات [المسلحة] الوطنية الفلسطينية خلال الثورة العربية. وأراد ساسون الآن استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ» لتجنيد عشائر بدوية موالية.نشاطات مبكرةلم ترفض الهيئة الاستشارية فكرة استيعاب مزيد من المتعاونين «العرب» فحسب، بل ذهبت إلى حد اقتراح التخلي عن فكرة «الرد الانتقامي» بكاملها، وأيد معظم المشاركين في الاجتماع «الانهماك» في حملة تخويف منهجية. ووافق بن - غوريون، وشُرع في تطبيق السياسة الجديدة في اليوم التالي للاجتماع.كانت الخطوة الأولى حملة تهديدات منسقة جيداً. فكانت وحدات خاصة تابعة للهاغاناه تدخل القرى بحثاً عن «المتسللين» (إقرأ: «متطوعين عرباً») وتوزع منشورات تحذر السكان المحليين من التعاون مع جيش الإنقاذ. وكانت أي مقاومة لهذه التعديات تنتهي في العادة بإطلاق القوات اليهودية النار عشوائياً وقتل عدد من القرويين. وكانت الهاغاناه تسمي هذه الغارات «الاستطلاع العنيف» (هَ - سِيور هَأَليم). والفكرة في الجوهر هي دخول قرية غير محصنة قبيل منتصف الليل، والبقاء فيها بضع ساعات، وإطلاق النار على كل من يجرؤ أو تجرؤ على مغادرة البيت، ومن ثم المغادرة. عمل القصد منه إظهار القوة أكثر مما كان عملاً تأديبياً، أو هجوماً انتقامياً.في كانون الأول 1947، اختيرت قريتان غير محصنتين: دير أيوب وبيت عفّا. وإذا ما سُقْتَ اليوم سيارتك في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة الرملة وقطعت مسافة قدرها نحو 15 كم، خصوصاً في يوم شتائي عندما تخضرّ شجيرات الرَّتَم الشائكة الصفراء عادة، والتي تغطي سهول فلسطين الداخلية، فإنك ستصادف منظراً غريباً، صفوفاً طويلة من الأنقاض والحجارة في حقل مكشوف تحيط بساحة مربعة متخيّلة كبيرة نسبياً؛ إنها أنقاض السياجات الحجرية لدير أيوب، وبينها أنقاض سور حجري منخفض بُني سنة 1947 لأسباب جمالية أكثر منه لحماية القرية، التي كان يقطن فيها نحو 500 نسمة. وكان سكان هذه القرية في معظمهم من المسلمين، ويعيشون في بيوت حجرية أو طينية على شاكلة البيوت المنتشرة في المنطقة. وكانوا قبل الهجوم اليهودي مباشرة يحتفلون بافتتاح مدرسة جديدة تسجل فيها عدد لا يستهان به من التلاميذ، 51 تلميذاً، وتحقق كل ذلك بفضل الأموال التي جمعوها من بعضهم البعض، والتي كانت كافية أيضاً لدفع راتب المعلم. لكن ابتهاجهم سرعان ما تبدد عندما دخلت سرية مؤلفة من عشرين جندياً يهودياً القرية - التي كانت، مثل كثير من القرى في ذلك الوقت، لا تمتلك أية آلية للدفاع - وشرعوا في إطلاق النار عشوائياً على البيوت. وقد هوجمت القرية لاحقاً ثلاث مرات قبل أن يجرى إخلاؤها بالقوة في نيسان (أبريل) 1948، ومن ثم تدميرها كلياً. وقامت القوات اليهودية بهجوم مشابه في كانون الأول على بيت عفّا في قطاع غزة، لكن سكانها تمكنوا من صد الهجوم.وتبع ذلك كله عمليات تدمير في مناطق محدودة في أماكن متفرقة من أرياف فلسطين ومدنها. واتسمت النشاطات في الريف في البداية بالتردد. اختيرت ثلاث قرى في الجليل الأعلى الشرقي: الخصاص والناعمة وجاحولا، لكن العملية أُلغيت، ربما لأن القيادة العليا اعتقدت أنها طموحة أكثر من اللازم. غير أن قائد البالماح في الشمال، يغآل ألون، تجاهل الإلغاء جزئياً، وأراد أن يجرب مهاجمة قرية واحدة على الأقل، واختار الخصاص.كانت الخصاص قرية صغيرة يقطن فيها بضع مئات من المسلمين ومائة مسيحي، يعيشون بسلام معاً في موقع طوبوغرافي فريد في القسم الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها نحو مئة متر، نجمت قبل آلاف السنين عن التقلص المتدرج لبحيرة الحولة. وكان الرحالة الأجانب يخصّون هذه القرية بالذكر لجمال موقعها الطبيعي على ضفاف البحيرة، ولقربها من نهر الحاصباني. هاجمت القوات اليهودية القرية في 18 كانون الأول 1947، وشرعت في نسف البيوت في سواد الليل، بينما كان سكانها يغطون في النوم. فقُتل جراء ذلك خمسة عشر قروياً، بمن فيهم خمسة أطفال. وأصاب الحدث مراسل «نيويورك تايمز»، الذي كان يتابع الأحداث عن كثب، بالصدمة. وذهب إلى قيادة الهاغاناه مطالباً بتفسير ما جرى. وأنكرت هذه في البداية وقوع العملية، لكن، عندما أصر المراسل على طلبه، اضطرت في النهاية إلى الاعتراف، وأصدر بن - غوريون اعتذاراً علنياً درامياً، مدعياً أن العملية لم يكن مصادقاً عليها. لكن بعد أشهر، في نيسان، أدرجها في قائمة العمليات الناجحة.عندما اجتمعت اللجنة الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء 17 كانون الأول ، انضم إليها يوحنان راتنر وفريتس آيزنشتاتر (عيشت)، وهما ضابطان كان بن - غوريون عيّنهما لوضع «استراتيجيا قومية» قبل أن يبتكر الهيئة الاستشارية. وتوسع المجتمعون في مناقشة ما يمكن استخلاصه من عملية الخصاص الناجحة، وطالب بعضهم بمزيد من العمليات «الانتقامية» يشتمل على تدمير قرى، وطرد سكان، وإحلال مستوطنين يهود محلهم. وفي اليوم التالي لخص بن - غوريون ما جرى في الاجتماع أمام لجنة الدفاع، وهي الهيئة الرسمية الأوسع التابعة للمجتمع اليهودي، والمسؤولة عن شؤون الدفاع. ويبدو أن الجميع اهتزوا طرباً لدى سماعهم ما قيل لهم، بمن في ذلك ممثل حزب اليهود المتدينين المتعصبين، أغودات يسرائيل، الذي قال: «لقد بُلّغنا أن لدى الجيش القدرة على تدمير قرية كاملة وطرد سكانها جميعاً؛ هيا، لنفعل ذلك!» وأقرت اللجنة تعيين ضباط استخبارات لكل عملية مشابهة. وسيكون لهؤلاء دور حاسم في تنفيذ المراحل التالية للتطهير العرقي.استهدفت السياسة الجديدة أيضاً الأماكن الحضرية في فلسطين، واختيرت حيفا لتكون الهدف الأول. ومن المثير للاهتمام أن هذه المدينة اختيرت من جانب المؤرخين الإسرائيليين المنتمين إلى التيار المركزي ومن جانب المؤرخ التصحيحي بِني موريس كمثال لوجود نية حسنة صهيونية صادقة تجاه السكان المحليين. أمّا الحقيقة فكانت في نهاية سنة 1947 أبعد ما تكون عن ذلك. فمنذ اليوم التالي لتبني الأممالمتحدة قرار التقسيم، تعرض ال75.000 فلسطيني في المدينة لحملة إرهابية اشتركت في شنها الإرغون والهاغاناه. ولمّا كان المستوطنون اليهود جاؤوا المدينة في العقود المتأخرة، فإنهم بنوا مساكنهم في أعالي الجبل، وبالتالي فإنهم كانوا يقطنون، من ناحية طوبوغرافية، فوق الأحياء العربية، وكان في استطاعتهم أن يقصفوها ويقتنصوا سكانها بسهولة. وشرعوا في ذلك مراراً وتكراراً منذ أوائل كانون الأول. كما استخدموا وسائل أُخرى لإرهاب السكان: كانت القوات اليهودية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكريات حديدية ضخمة في اتجاه المناطق السكنية العربية، وتصب نفطاً ممزوجاً بالبنزين على الطرقات وتشعله. وعندما كان السكان الفلسطينيون المذعورون يخرجون من بيوتهم راكضين بغية إطفاء تلك الأنهار المشتعلة، كان اليهود يحصدونهم بالمدافع الرشاشة. وفي المناطق التي كان فيها عرب ويهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم البعض، كانت الهاغاناه تُحضر إلى الكاراجات الفلسطينية سيارات بحجة إصلاحها، مملوءة بالمتفجرات وأدوات التفجير، ومن ثم تفجرها فتنشر الموت والفوضى. وكانت تقوم بهذا النوع من الهجمات وحدة خاصة تابعة للهاغاناه، هَشَاحَر («الفجر»)، مكونة من «مستعربين»؛ أي يهود متنكرين كفلسطينيين. وكان العقل المدبر لهذه الهجمات شخص يدعى داني أغمون، كان يرئس وحدات «الفجر». ويلخص المؤرخ الرسمي للبالماخ، في موقعه في شبكة الإنترنت، ما جرى آنذاك على النحو التالي: «كان الفلسطينيون [في حيفا] يعيشون منذ كانون الأول تحت وطأة حصار وتخويف.» لكن الأسوأ سيأتي لاحقاً.وقد وضع اندلاع العنف المبكر نهاية حزينة لتاريخ طويل نسبياً من التعاون والتضامن بين العمال في مدينة حيفا المختلطة، وكان الوعي الطبقي جرى كبحه في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي من جانب القيادة القومية لكل من الطرفين، خصوصاً من جانب اتحاد العمال اليهودي، لكنه ظل يحفز العمال على القيام بنشاطات مطلبية مشتركة ضد أرباب العمل ويحملهم على التعاون في أوقات الانكماش الاقتصادي والشدة.أدت الهجمات اليهودية في المدينة إلى تفاقم التوتر في منطقة كان العمال اليهود والعرب يعملون فيها جنباً إلى جنب: في منشآت مصفاة شركة نفط العراق في منطقة خليج حيفا. وبدأ الأمر بإلقاء زمرة تابعة للإرغون قنبلة على مجموعة كبيرة من الفلسطينيين كانت في انتظار الدخول إلى المنشآت. وادعت الإرغون أن ذلك كان رداً انتقامياً على هجوم سابق قام به عمال عرب على زملاء لهم يهود. وكانت تلك ظاهرة جديدة في موقع صناعي كان العمال العرب واليهود معتادين فيه العمل المشترك من أجل الحصول من مستخدميهم البريطانيين على شروط عمل أفضل. لكن قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة ألحق ضرراً جدياً بالتضامن الطبقي، وبدأت التوترات تتفاقم. وكان إلقاء القنابل وسط التجمعات العربية من اختصاصات الإرغون، وفعلت ذلك مراراً قبل سنة 1947. إلاّ إن هذا الهجوم بالتحديد جرى بالتنسيق مع قوات الهاغاناه كجزء من مخطط جديد لإلقاء الرعب في قلوب سكان حيفا ودفعهم إلى الهروب من المدينة. وخلال ساعات، رد العمال الفلسطينيون على الهجوم بأعمال شغب، وقتلوا عدداً كبيراً من العمال اليهود - 39 شخصاً - في واحدة من أسوأ الهجمات الفلسطينية المضادة، وكانت آخرها، لأن سلسلة الاشتباكات المعتادة المكوّنة من فعل وردة فعل توقفت بعد ذلك.أمّا اللجنة القومية في حيفا، التابعة للفلسطينيين، فقد ظلت تناشد البريطانيين مرة بعد أُخرى [التدخل لحمايتهم - المترجم]، مفترضة، خطأً، أنه نظراً إلى كون حيفا آخر محطة في عملية الجلاء البريطاني، فإن في استطاعتها الاعتماد على حماية البريطانيين، على الأقل إلى أن يرحلوا. وعندما لم يحدث ذلك، بدأ أعضاء اللجنة القومية يبعثون برسائل يائسة إلى أعضاء الهيئة العربية العليا داخل فلسطين وخارجها، طالبين النصح والمساعدة. ووصلت مجموعة صغيرة من المتطوعين إلى المدينة في كانون الثاني ، لكن بعض الأعيان وقادة المجتمع كان أدرك وقتها أن مصيره حُسم في لحظة تبني الأممالمتحدة قرار التقسيم: الطرد على يد جيرانهم اليهود. هؤلاء الجيران الذين كانوا هم أنفسهم من دعاهم في البداية، في الفترة العثمانية، إلى المجيء والبقاء معهم، فوصلوا بائسين ومفلسين من أوروبا، وشاركوهم العيش في مدينة كوزموبوليتانية مزدهرة - إلى أن صدر قرار التقسيم المشؤوم.على هذه الخلفية يجب أن يتذكر المرء خروج نخبة حيفا البالغ عدد أفرادها نحو 15.000 شخص، وكثيرون منهم تجار ناجحون أدى خروجهم في ذلك الوقت إلى تعطيل التجارة والأعمال، ووضع عبء إضافي على كاهل الشرائح الفقيرة في المدينة.«هذا ليس كافياً»، صرح يوسف فايتس قائلاً عندما اجتمعت الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء، في 31 كانون الأول 1947، قبل ساعات قليلة فقط من مذبحة بلد الشيخ. واقترح علانية ما كان سجّله سراً في يومياته أوائل الأربعينات: «أليس الآن هو الوقت الملائم للتخلص منهم؟ لماذا نستمر في ترك هذه الأشواك بيننا وهي خطر علينا؟» وبدت ردات الفعل الانتقامية، في نظره، طريقة قديمة للتعامل مع الوضع لأنها لا تتضمن الهدف الرئيسي المتمثل في مهاجمة القرى واحتلالها. وكان فايتس عُيّن عضواً في الهيئة الاستشارية لأنه كان رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، ولأنه كان في الهيئة أدى دوراً حاسماً في توضيح أفكار «الترانسفير» الغامضة لأصدقائه وترجمتها إلى سياسة فعلية. وقد شعر بأن النقاش الجاري فيشأن المستقبل يفتقر إلى غاية، إلى توجه كان رسم معالمه في الثلاثينات والأربعينات.«الترانسفير»، كتب في سنة 1940، «لا يخدم هدفاً واحداً فحسب - تقليل عدد السكان العرب - بل يخدم أيضاً غرضاً ثانياً لا يقل أهمية عن الأول، وهو إخلاء الأرض التي يزرعها العرب حالياً وتحريرها من أجل الاستيطان اليهودي.» ومن ثم، خلص إلى القول: «الحل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة. يجب ألاّ نترك حتى قرية واحدة أو عشيرة واحدة.»وكانت تلك الجلسة الوحيدة للهيئة الاستشارية التي يتوافر لدينا محضر لها، (موجود في أرشيف الهاغاناه). وأعد فايتس من أجل هذه «الحلقة الدراسية الطويلة» مذكرة موجهة إلى بن - غوريون شخصياً، حضّ فيها الزعيم على المصادقة على خططه لترحيل السكان الفلسطينيين عن المناطق التي أراد اليهود احتلالها، وعلى جعل الأعمال المتصلة بذلك «حجر الأساس للسياسة الصهيونية.» ومن الواضح أنه كان يشعر بأن المرحلة «النظرية» في ما يتعلق بخطط «الترانسفير» انتهت، وحان أوان تطبيق الأفكار. وفي الواقع، غادر فايتس الحلقة الدراسية الطويلة وفي حيازته إذن بإنشاء زمرة صغيرة تابعة له تحت اسم «لجنة الترانسفير»، وأتى إلى الاجتماع التالي حاملاً خططاً فعلية.في الحقيقة لم يكن هناك معارضة تستحق الذكر، وهذا ما يجعل الحلقة الدراسية الطويلة جلسة محورية بالغة الأهمية. فنقطة الانطلاق التي تقبلها الجميع، كانت أن التطهير العرقي ضروري. أمّا بقية المسائل، أو بالأحرى المشكلات، فكانت ذات طبيعة سيكولوجية أو لوجستية. فالأيديولوجيون مثل فايتس، والمستشرقون مثل ماخنس، والجنرالات مثل ألون، شكوا من أن جنودهم لم يستوعبوا بعد، كما يجب، الأوامر السابقة التي صدرت إليهم بتوسيع العمليات إلى ما هو أبعد من الأعمال الانتقامية المعتادة. والمشكلة الرئيسة، في نظرهم، كانت أن الجنود بدوا عاجزين عن التخلي عن الأساليب القديمة في الردود الانتقامية. «إنهم ما زالوا ينسفون بيتاً هنا وبيتاً هناك»، اشتكى غاد ماخنس، زميل دانين وبالمون، الذي أصبح، ويا للعجب، المدير العام لوزارة الأقليات الإسرائيلية في سنة 1949 (إذ بدا، على الأقل، وهذه نقطة في مصلحته، كأنه شعر بشيء من الندم على سلوكه في سنة 1948، واعترف صراحة في سنة 1960 بأنه «لولا الاستعدادات [العسكرية الصهيونية] المكشوفة ذات الطبيعة الاستفزازية، لكان من الممكن تفادي الانزلاق إلى الحرب [في سنة 1948]»). لكن وقتئذ، في كانون الثاني 1948، بدا نافد الصبر من كون القوات اليهودية ما زالت منهمكة في البحث عن «أفراد مذنبين» في هذا المكان أو ذاك، بدلاً من إلحاق الضرر في شكل فعال.شرح ألون وبالمون لزملائهما التوجه الجديد: هناك ضرورة لسياسة أكثر شراسة في المناطق التي ظلت «هادئة فترة أطول من اللازم.» ولم يكن ثمة حاجة إلى إقناع بن - غوريون، إذ أعطى في نهاية الحلقة الدراسية الطويلة الضوء الأخضر للقيام بسلسلة كاملة من الهجمات الاستفزازية والفتاكة على قرى عربية، بعضها كردود انتقامية، وبعضها الآخر غير ذلك. والقصد هو التسبب بأقصى ما يمكن من الأضرار وقتل أكثر ما يمكن من القرويين. وعندما سمع أن المراحل الأولى المقترحة لتنفيذ السياسة الجديدة كانت جميعها في الشمال، طلب القيام بعمل تجريبي في الجنوب أيضاً، على أن يكون محدداً، لا عاماً. وهنا تكشّف بن - غوريون فجأة عن أنه كاتب حسابات حقود. فقد حضّت على القيام بهجوم على مدينة بئر السبع، والسعي بصورة خاصة إلى قتل نائب المحافظ، الحاج سلامة بن سعيد، وشقيقه، اللذين رفضا في الماضي التعاون مع الخطط الصهيونية للاستيطان في المنطقة. وشدد بن - غوريون على أنه لم يعد هناك ضرورة للتمييز بين «البريء» و«المذنب»، إذ حان الوقت لإلحاق أذى مصاحب ( collateral). وتذكّر دانين بعد أعوام أن بن - غوريون شرح معنى «أذى مصاحب» بقوله: «كل هجوم يجب أن ينتهي باحتلال، ودمار، وطرد».أمّا بالنسبة إلى المزاج «المحافظ» السائد في صفوف جنود الهاغاناه، فقد أوضح يغئيل يادين، رئيس هيئة أركان الهاغاناه - وبعد 15 أيار 1948 رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي - أن الوسيلة للتقدم [في حل هذه المشكلة - المترجم] تكمن في تبني مصطلحات جديدة صريحة، وفي تلقين عقائدي أشد قسوة. وكان نائبه، يغآل ألون، أكثر نزوعاً إلى الانتقاد. فقد انتقد الهيئة الاستشارية بصورة غير مباشرة لأنها لم تصدر أوامر صريحة بالقيام بهجوم شامل في بداية كانون الأول. «لقد كان في استطاعتنا وقتها أن نحتل يافا بسهولة، وكان يجب أن نهاجم القرى الموجودة حول تل أبيب. يجب أن نقوم بسلسلة من العقوبات الجماعية حتى لو كان هناك أطفال يعيشون في البيوت [المهاجمة].» وعندما حاول إلياهو ساسون، بمساعدة رؤوفين شيلواح، أحد مساعديه (لاحقاً شخصية بارزة في حقل الاستشراق الإسرائيلي)، أن يلفت الانتباه إلى أن الاستفزاز من شأنه أن ينفّر الفلسطينيين المسالمين، أو الذين يكنون الود لليهود، أجابه ألون بنفاد صبر قائلاً: «الدعوة إلى السلام ستكون ضَعْفاً!» وأبدى موشيه دايان آراء مشابهة، واستبعد بن - غوريون أي محاولة للتوصل إلى اتفاق في يافا، أو في أي مكان آخر.كان غياب جهة واضحة منسِّقة مصدر قلق للعسكريين في الهيئة الاستشارية. وذُكر أن قوات متحمسة تهاجم أحياناً قرى في مناطق ترغب القيادة العليا مؤقتاً في تجنب حدوث استفزازات فيها. ونوقشت في الحلقة الدراسية الطويلة حادثة معينة جرت في حي روميما في القدسالغربية. وكانت تلك المنطقة في المدينة هادئة جداً إلى أن قرر قائد محلي في الهاغاناه أن يرعب الفلسطينيين في الحي بحجة أن صاحب محطة وقود هناك كان يشجع قرويين على مهاجمة السيارات اليهودية المارة. وعندما قتل الجنود صاحب المحطة، ردت قريته، لفتا، بهجوم على حافلة ركاب يهودية. وأضاف ساسون أنه اتضح أن التهمة كانت كاذبة. لكن هجوم الهاغاناه هذا كان فاتحة لسلسلة من الهجمات ضد قرى فلسطينية واقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، وموجهة بصورة خاصة ضد قرية لفتا التي، حتى بشهادة استخبارات الهاغاناه، لم يحدث أن هاجمت أي قافلة على الإطلاق.قرية لفتا، كانت واحدة من أوائل القرى التي تعرضت للتطهير العرقي. وكانت [في زمن بعيد - المترجم] مكان إقامة قاسم أحمد، قائد ثورة 1834 ضد حكم إبراهيم باشا المصري، والتي يعتبرها بعض المؤرخين أول ثورة وطنية فلسطينية. وكانت القرية مثالاً رائعاً للهندسة المعمارية الريفية، بشوارعها الضيقة المتوازية مع منحدرات الجبل. وقد تجلى ازدهارها النسبي، مثل كثير من القرى الأُخرى، خصوصاً في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، في تشييد بيوت جديدة، وتحسين الطرقات والأرصفة، بالإضافة إلى مستوى معيشي أعلى. وكانت لفتا قرية كبيرة، يقطن فيها 2500 نسمة، معظمهم مسلمون، وعدد قليل منهم مسيحيون. وكان من مظاهر رخائها المستجد مدرسة للبنات تعاون عدد من القرى على تمويل بنائها في سنة 1945.كانت الحياة الاجتماعية في لفتا تدور حول مركز تجاري، اشتمل على ناد ومقهيين. وكان يجذب إليه المقدسيين أيضاً. وكان أحد المقهيين هدفاً للهاغاناه عندما شنت هجومها في 28 كانون الأول 1947. وقد أمطر اليهود المسلحون بالرشاشات المقهى بالرصاص، بينما أوقف أفراد من عصابة شتيرن حافلة ركاب بالقرب من المكان وبدؤوا إطلاق النار عليها عشوائياً. وكانت تلك أول عملية لعصابة شتيرن في الريف الفلسطيني.كانت هذه هي النتيجة النهائية للحلقة الدراسية الطويلة. فمع أن القيادة الصهيونية اعترفت بضرورة أن تكون الحملة منسقة وخاضعة للإشراف، إلاّ إنها قررت تحويل كل مبادرة غير مصادق عليها إلى جزء عضوي من الخطة، مانحة إياها مباركتها بعد وقوعهاحركة القوميين العربE-mail :[email protected]