«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. لم يكن الفارق بين الطائفتين الكبيرتين (الأشكنازيم و المزراحيم) ذا طابع ثقافي فقط. بل إن الفروق الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية كانت تزيد الشرخ اتساعا. فالمؤسسات الكبرى للدولة، و المنظمات الصهيونية كانت كلها تحت سيطرة الأشكنازيم. فهم، و ليس المزراحيم الذين شكلوا و قادوا الحركة الصهيونية، و هم الذين كانوا أوائل المستوطنين في فلسطين، و لو أن ذلك تم تحت إلحاح الحاجة أكثر منه استجابة فكرية، و هم أيضا الذين أنشأوا دولة إسرائيل. إضافة إلى أن المهاجرين من أوربا، تم إدماجهم فور وصولهم بفضل المساعدات السخية للدولة، على حساب القادمين من الدول العربية. كما أن المستوى التعليمي للأشكنازيم القادمين من دول متقدمة مَنَحَهُم امتياز أن يصبحوا أطرا للدولة الجديدة بمختلف الأنواع، مهندسين، أطباء، محامين، مسيرين و زعماء سياسيين و نقابيين. و قد سمح مدخولُهم العالي نسبيا بتمويل الدراسة الثانوية و الجامعية لأبنائهم. و بقوة الأشياء، كان مُقدرا أن يتحول الأشكنازيم إلى طبقة مسيطرة بينما كان المزراحيم، القليلو التعليم، الضعاف اقتصاديا، ذوو الأسر عديدة الأفراد و القاطنون في مساكن هشة و الذين لا يملكون ما يفي لتقديم التعليم العالي لأبنائهم الذي من شأنه أن يرقيهم اجتماعيا، لا يمكنهم إلا إنتاج مواطنين من درجة ثانية أو ثالثة حتى، إذا ما قارناهم بالفئات الموسرة من المواطنين ذوي الأصل الفلسطيني. تلك كانت خلاصة تحقيق أنجزتُهُ في الستينات. و قد كان علي، فيما بعد بكثير، أن أُصحح رأيي قليلا. فأي واحد أغمض عينيه عقب هذا التحقيق في الستينات كي يفتحهما بعد أربعين سنة، سيُفاجأ بالبروز البين للمزراحيم. فهم يسطعون في جميع الأوساط تقريبا، بين المثقفين، و هم أفضل تمثيلا في البرلمان، و في قيادات معظم الأحزاب السياسية كما يحتلون المناصب العليا في القوات المسلحة و في الدولة. بيد أننا، إذا ما عمقنا البحث في ما وراء المظاهر فإننا سنصحح هذه الصورة المثالية من جديد. فبالرغم من التقدم الذي لا يمكن إنكاره، فإن الفوارق البنيوية لا تزال حاضرة. فالمكانة التي يحتلها اليهود الشرقيون في المجتمع أو في الدولة لا تتناسب مع عددهم، أي نصف الساكنة اليهودية. فهم أقل تواجدا بكثير من الأشكنازيم في المؤسسات الثانوية و الجامعية. كما أن الاقتصاد لا يزال تحت سيطرة الأشكنازيم، و الفروق في المداخيل صارخة، فهم يشكلون مع العرب الإسرائيليين، أغلبية العمال اليدويين، كما أن أغلبية المستضعفين، الذين يعيشون تحت عتبة الفقر هم من اليهود الشرقيين. الخلاصة، هي أن المزراحيم لم يُقلعوا من قاعدة الهرم الاجتماعي، التي يتقاسمونها مع المواطنين الفلسطينيين. و وضعيتهم هاته ليست استثنائية، إذا ما فكرنا في زنوج أمريكا أو في الفرنسيين المنحدرين من الهجرة الشمال إفريقية... إلا أن الأحكام الإثنية المسبقة و التمييزية قد قلت بشكل كبير ، كما أن الزواج «المختلط» لم يعد أمرا استثنائيا. و قد تقلص الفارق الثقافي بفضل عدة عوامل: الأخوة التي تخلفها الخدمة العسكرية و الحروب المتتالية، التي تنمي الشعور بالانتماء الوطني و بالمصير المشترك. كما أن الحديث باللغة العبرية عوض «اليديش» أو اللغات الشرقية، قد محا الخلافات بين المهاجرين من أصول مختلفة. كما أن ازدياد التأثير السياسي للمزراحيم بفضل انخراطهم في حزبين كبيرين ? الليكود و شاس ? شكل ميزة إضافية. فانتماؤهم لهذين الحزبين لا يعني مطلقا أنهم يؤمنون بالضرورة بإيديولوجيتهما القومية المتطرفة، بقدرما هو وسيلة للوقوف في وجه الحزب العمالي، الذي يُعتبر في نظرهم ممثلا للأرستقراطية الأشكنازية. و مع ذلك، فإن جهود الدولة من أجل محو الثقافة الشرقية لم تذهب سُدى: فالمناهج التعليمية مثلا، تخصص بضع صفحات للتاريخ العريق للمزراحيم (بالتأكيد خصوصا على «الاضطهاد» الذي قام به العرب حُيالهم دوما و في كل مكان)، بينما تخصص أغلب المؤلفات التعليمية لليهود الأوربيين من منظور صهيوني تماما. و يبدو أن بن غوريون لم يكن مخطئا حين كان يصيح باستمرار: «لدينا دولة و لكن علينا أن نُشكل أمة»، فالعودة إلى «أرض الأسلاف» جمعت مهاجرين من مئات البلدان، يتحدثون ما يقارب ثمانين لغة و لهجة، ثلثهم (خلال الستينات) لا يتكلم العبرية التي أُريد لها أن تكون «لغة وطنية». و كان الجامع المشترك الذي يمكن أن يُوحد أهل برج بابل هاته بالطبع هو التوراة، خاصة و أن مئات الآلاف من اليهود الشرقيين، المتدينين أو التقليديين في معظمهم، كانوا متشبتين بالتقليد التوراتي. كما أن القادة الصهاينة يحرصون على أن يظل العهد القديم الجسر الضروري بين يهود إسرائيل و يهود الشتات. كان بن غوريون ينتمي لجيل الرواد الصهاينة في أوربا الشرقية، الاشتراكيين و العلمانيين. لكنه كان من الأوائل الذين اكتشفوا بأن أيديولوجية بهذا الشكل لا يمكن أن تكون أداة لنحت أمة أحلامه. فقد صرح لي قبل بضع سنوات على وفاته: «أنا ملحد منذ شبابي الأول»، أو هذا على الأقل ما سمعته منه و ما نشرته في صحيفة «لوموند»، إلا أنه كتب لي ، بعد شهرين، تصحيحا يقول فيه : «لقد قلت لكم أني لست يهوديا أورثودوكسيا، لكني أومن بوحدة الوجود و أنا فخور بالانتماء للشعب الذي منح العالم التوراة العبرية...» ربما كانت زلته زلة شيخ هرم، إلا أن توضيحه يؤكد الأساس: فالرب الذي قال أنه يؤمن به، حسب العقيدة الميتافيزيقية لوحدة الوجود، لا علاقة له مع رب التوراة، رغم احترامه للكتاب المقدس. و يبدو أن انتقاد رجال الدين له بسبب تعاطفه المفرط مع الديانات الهندية و البوذية خاصة و كذا بسبب «تأويلاته الخاصة» لبعض الفصول التوراتية، ليس انتقادا بدون مبرر. و مع ذلك، فقد كان يحتفظ بالعهد القديم فوق طاولة مكتبه، و كان يرجع له أثناء حواراتي معه كما لو تعلق الأمر بحقائق لا نقاش فيها. هل كان الأمر قناعة صادقة أم موقفا نفعيا؟ لم يكن بن غوريون مطبقا، مثل أغلب القادة الإسرائيليين، بيد أنه كانت له، مع الكتب المقدسة، علاقات معقدة، صوفية، فلسفية، ثقافية و - باعتباره رجل دولة محنك - سياسية بالدرجة الأولى. و بمعرفته الواسعة، فقد كان أكثر من شاك في أصالة الروايات التوراتية، لكنه كان يقبلها حين تخدم أيديولوجيته القومية و خلفياته السياسية. و لأنه كان حذرا من الأحزاب الصهيونية و معاديا للحزب الشيوعي و للتنظيمات العربية، فإن النواب الدينيين كانوا ضروريين له من أجل تشكيل التحالفات الأغلبية داخل الكنيست. و لذلك فليس مستغربا، أن يعارض صراحة إقامة نظام علماني. فقد كان بن غوريون يردد : «يجب على الدولة أن تمسك بقوة بالدين»، فأي فصل بين الإثنين يمكن أن يلحق ضررا كبيرا بالمشروع الصهيوني. و منذ ذلك الحين عمل من أجل إصدار قوانين دينية، مثل الاحترام اللازم للسبت و الزواج الديني حصريا و المطبخ الحلال (كاشير) في ثكنات الجيش و المؤسسات التعليمية، و الاحتفال الرسمي بالأعياد الدينية. و في سنة 1959 ، صرح للأسبوعية البريطانية «دجويش كرونيكل»، أنه كان سيفرض هذه القوانين الدينية و لو لم تكن الأحزاب الدينية موجودة. فهمه الأساسي ، كما قال، هو إنشاء أمة يهودية. و قد صرح لي في الحوار نفسه لسنة 1965 : « اليهودية، و على عكس الديانات الأخرى، ذات جوهر وطني حصريا...فمن المستحيل أن تكون يهوديا و لا تنتمي بشكل أو بآخر للديانة الموسوية، لا يمكن الاحتفال بعيد الفصح مع تجاهل طابعه التاريخي و السياسي: هجرة العبرانيين من مصر و غزو كنعان، أرض دولتهم المستقبلية...» و مع ذلك، فإن بن غوريون كان يعتبر، بأن هناك بالإضافة للتوراة ، ثلاثة عناصر ساهمت في تغذية الشعور الوطني لدى الإسرائيليين و هي : المدرسة و الجيش، باعتبارهما بوتقة للتذويب و التشكيل، و كذا العداء العربي. موضحا أن «مقاطعة الدولة اليهودية، التهديدات، التوترات و الحروب ، كلها تدعم غريزة البقاء، و تولد تضامنا لا مشروطا».و قد أكد علماء اجتماع إسرائيليون، فيما بعد، هذا التشخيص: فحروب 1948 و 1956 (حملة سيناء) و 1967 (حرب الأيام الستة) وطدت، أكثر من المدرسة و الجيش، شعور الوحدة الوطنية. و قد جسد بن غوريون، و لو بدون اختيار، طرحا للصحفي الإسرائيلي «مارك هيلل» أثار فضيحة حين نشره. ففي كتابه «إسرائيل أمام خطر السلام» يفسر فيه لماذا يمكن لتسوية النزاع الإسرائيلي مع العرب أن يؤدي إلى ضربة قاتلة للمشروع الصهيوني. جوابا على أحد أسئلتي، في الحوار الذي أجريته معه سنة 1965 دائما، رفض بن غوريون رفضا باتا عرض التسوية الذي قدمه الرئيس المصري جمال عبد الناصر. فقد قال : لا لست مستعدا لتقديم أي مؤشر للتصالح، لا لن يعيد أي جزء مهما كان من الأراضي المحتلة عام 1948 خارج حدود مخطط التقسيم للأمم المتحدة، لا لن يقبل بعودة و لا واحد من اللاجئين الفلسطينيين «فمساحة دولتنا أضيق من أن تستوعب العشرة أو الإثنا عشر مليون من يهود الشتات... « مُضيفا بحذر : «أما بالنسبة لتوسع جديد لترابنا فإن هذه المهمة لا يقوم بها إلا المسيح المنتظر». كان يعلم دون شك، بأنه أمام مثل هذه الشروط لن يقبل العرب بإقامة السلام أبدا مع الدولة الصهيونية، و هو أمر لم يكن ليُقلقه. و علاوة على كل ذلك، فقد كان لبن غوريون و باقي القادة الصهاينة، مبرر ممتاز لكي يجعلوا من التوراة أساسا أيديولوجيا لدولتهم: فأي نص آخر يشهد بأن فلسطين هي بالفعل «أرض الأسلاف»؟ فبدون هذه الشرعية، كان المشروع الصهيوني سيتحول إلى مؤسسة استيطانية عادية، شبيهة بتلك التي طبعت تاريخ العالم في القرن التاسع عشر. كما أن تصريح بلفور لا يمكن أن يبقى مرجعا ذا مصداقية: فقد كان، في النهاية، مبادرة من قوة أمبريالية تقدم لليهود أمة في حالة جنينية و «موطنا» فوق أرض لا يملكونها. كما أنه من الممكن الاعتراض بنفس الشكل ، على قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين إلى نصفين، عارضة في أحدهما دولة للأقلية اليهودية الحديثة الهجرة، و في النصف الآخر دولة للأغلبية الساحقة من السكان الأصليين، الفلسطينيين. ثم أن هذا القرار تم التصويت عليه داخل الجمعية العمومية للأمم المتحدة من طرف دول أوربا و أمريكا و أستراليا فقط، بينما صوتت ضده أو امتنعت عن التصويت جميع دول الشرق الأوسط و آسيا و إفريقيا (باستثناء جنوب إفريقيا التي كانت تحكمها الأقلية البيضاء). و في كافة الأحوال هل كان يحق للمنظمة الدولية أن تقرر مصير بلد دون موافقة أغلب سكانه، خاصة إذا كان هذا البلد موعودا بالاستقلال من خلال معاهدات دولية سابقة؟ و قد اعترضت بعض الدول الأعضاء على مشروعية هذا القرار و حاولت رفع المسألة أمام محكمة العدل الدولية، لكن دون جدوى: فقد تم رفض مشروعها، و إحباط محاولتها، من طرف أغلبية الجمعية العامة، نفس الدول التي صادقت على مشروع التقسيم. فهذه الدول لم تستند إلى أي حق ، إلهي أو تاريخي، لمنح دولة لليهود، بل إن دافعها لذلك -إذا ما صدقناها - كان دافعا إنسانيا: كان ينبغي تأمين ملاذ آمن للناجين من الإبادة. بيد أن الخلفيات الأنانية لم تكن غائبة، فالولايات المتحدة و القوى الغربية عموما لم تكن ترغب في فتح أبوابها أمام ضحايا النازية. أما الاتحاد السوفياتي، فقد كان يعتقد أنه سيجعل من الدولة اليهودية حليفا، في مواجهة القوى الغربية و الأنظمة العربية الرجعية، و رأس جسر لتوسعه في الشرق الأوسط، و بهذا السبب يمكن تفسير المساعدات متعددة الأشكال التي قدمها الاتحاد السوفياتي و دول أخرى من المعسكر الاشتراكي، تشيكوسلوفاكيا خصوصا، إلى القوات المسلحة لل»ييشوف» (الطائفة اليهودية بفلسطين) قبيل حرب 1948. و بنفاذ بصيرته، كان بن غوريون يعرف جيدا الطبيعة الحقيقية للمشروع الصهيوني. فقد كان يميل إلى المقارنة - غير الحذرة في النهاية - بين استيطان فلسطين و استيطان أمريكا الشمالية من طرف الأوربيين الفارين من الاضطهاد، لكنه كان يحرص مع ذلك على تفادي الإشارة إلى الإبادة التي قام بها المهاجرون الأوربيون في حق ملايين الهنود الأصليين. كان يعتقد أنه بذلك يُبعد عنه تهمة القيام بعملية كبيرة من «التطهير العرقي». بيد أن هذا الحذر كان بدون جدوى، إذ أن «المؤرخين الجدد» الإسرائيليين و استنادا إلى الأرشيف الرسمي، بعد عقدين على ذلك، كشفوا كيف تم ترحيل نصف السكان الفلسطينيين ما بين 1947 و 1948 ، كما سأثيره فيما بعد. فالزعماء الصهاينة لم يخترعوا شيئا جديدا في هذا المجال: إذ هي نادرة تلك الأيديولوجيات أو الأمم التي لم تنهض على أساطير مؤسسة من شأنها التعبئة و الحشد. و قد كان للعهد القديم بالفعل، مزية تقديم أرض «للمنفيين» اليهود و مبررات إضافية للقتال من أجل الحفاظ عليها. لكن مشكلة العهد القديم هو أنه ليس ذا مصداقية إلا بالنسبة للمؤمنين به، أي اليهود المؤمنون و بعض المسيحيين، الكنائس الأصولية الأمريكية خصوصا، التي ستلعب دورا هاما في دعم الدولة العبرية على مر العقود. أما الفلسطينيون ( «الهنود الحمر» بالنسبة لليهود حسب تعبير ياسر عرفات) فلم يكن بمقدورهم الانضمام إلى كتاب مقدس غير كتابهم، و لا التخلي عن أرض يسكنونها منذ ثلاثة عشر قرنا على الأقل. كما أن مبرر «العودة إلى أرض الأسلاف» لم يكن مقبولا من طرف المجموعة الدولية، إذ أن من شأن قبوله، إضفاء الشرعية على كل المطالب الترابية للسكان الذين تركوا، هنا و هناك، أرضهم و ارتحلوا إلى أخرى. كما أنه من الضروري إثبات أن يهود العصر الحالي - من روسيا حتى الصين مرورا باليمن- يشكلون «عنصرا» و «إثنية» و «أمة»، و أنهم ينحدرون بيولوجيا بالفعل من العبرانيين القدامى. و قد سقط بعض الكتاب العرب،بداية، في المصيدة العنصرية، حين دلفوا في التبريرات العنصرية لإثبات أن الفلسطينيين، و ليس يهود الشتات، هم الورثة الحقيقيون «بحق الدم» للشعب المختار، فهم ينحدرون من نسل إسماعيل الإبن البكر لإبراهيم و أخ إسحق... و مع ذلك فإن الأساطير تستعصي على الاندثار. فمن بين الكتب التي شككت في حكايات العهد القديم، كتاب ظهر سنة 2002 لأركيولوجيين إسرائيليين هما «إسرائيل فنكلشتاين» و «نيل أشير سيلبرمان»، أثار اهتماما خاصا. و قد استند هذا الكتاب «التوراة مكشوفة»، الذي نُشر في حوالي إثنا عشر لغة من بينها العبرية، و بيعت منه مئات الآلاف من النسخ، على الحفريات الأركيولوجية و على دراسة الكتابات المصرية القديمة (الفرعونية.م) و البابلية و الأشورية و على البقايا و الأطلال المختلفة. و من خلالها تبين أن التوراة ليست كتابا موثوقا، إذ أن الكتاب المقدس لا يعدو كونه، في أغلبه، تجميعا لأساطير مستعارة من شعوب مختلفة، تمت إعادة تشكيلها أو توسيعها خلال انتقالها من جيل لجيل بلمسات متتالية. فالنص الأصلي للتوراة، حسب الباحثين، قد تم تحريره في القرن السابع قبل الميلاد في عهد «جوسياس» ملك يهودا. و قد تم وضع النص لخدمة الإيديولوجيا الدينية و الطموحات الترابية للملك «جوسياس»: و كان هدفه الرئيسي هو إعادة توحيد الدولتين العبرانيتين، دولته يهودا في الجنوب و دولة إسرائيل في الشمال، اللتين كانتا تشكلان معا قبل ثلاثة قرون دولة واحدة في عهد داوود و ابنه سليمان. و لتبرير هذا التوحيد، رأى كتاب الملك «جوسياس» من المفيد وصف امبراطورية قوية، و قصر باذخ و ملوك غير عاديين.و من هنا ولدت أسطورة جالوت و داوود و انتصاراته العسكرية الكبيرة، و القدرة الخارقة لسليمان و إشعاعه الإقليمي، مما يخلق الحنين و الاعتزاز لدى رعايا «جوسياس». و هكذا يفند الباحثان الأركيولوجيان الإسرائيليان - بعد أو قبل كثير من زملائهم الأنجلوساكسونيين الذين خلصوا إلى نفس النتائج- بشكل لا يقبل الجدل، مثلا، اضطهاد فرعون للعبرانيين المقيمين في مصر و هجرتهم عبر البحر الأحمر و سيناء، و كذا تسليم الوصايا العشر لموسى و غزو كنعان بقيادة يوشع و مجزرة السكان المدنيين من طرف جند هذا الأخير. فقد أثبتت أبحاث الأركيولوجيين بأن المملكة الإسرائيلية الموحدة كما ورد ذكرها في التوراة لا تعدو كونها رواية خيالية جميلة. ففتوحات الملك داوود و سليمان لم تحدث أبدا ، كما أن سليمان لم يكن الحكيم الكبير أو مُشَيد القصور المنيفة و لا باني هيكل القدس - التي كانت قرية متواضعة قليلة السكان، لا تتجاوز مساحتها هكتارا أو هكتارين- كما أن سليمان لم يكن يملك إمكانات استقباله لملكة سبأ، إذا ما افترضنا زيارتها لإسرائيل. و كيفما كان الأمر، فقد بات من المحقق أن القبائل الإسرائيلية في القرن العاشر قبل الميلاد، البدائية، الأمية و المتواضعة الموارد، كانت في الواقع قبائل كنعانية تسكن قُرى مشتتة هنا و هناك على ضفتي نهر الأردن، بينما كان جيرانهم الجنوبيون الأقوياء، الفلسطينيون يسكنون السهل الساحلي، فيما يقطن الشمال، الفينيقيون الذين كانوا يخضعون مرة مرة لسيطرة الامبراطوريتين الأشورية أو الفرعونية. و بذلك فإن القصة التاريخية التي ترويها التوراة، هي في جزء كبير منها، ثمرة خيال تهدف إنتاج أسطورة وطنية مُعبئة. فقد كان الهدف هو منح رعايا الملك «جوسياس» الأمل في عودة العصر الذهبي لأسلافهم، بفضل أحد أحفاد الملك داوود (في شخص الملك «جوسياس») الذي سيوحد المملكتين اليهوديتين في دولة واحدة قوية تكون عاصمتها و مركزها الروحي هي القدس، أي عاصمة يهودا. و المثير للاستغراب هو الاستقبال الذي خصصه جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي لكتاب يهدم - بدون إرادة منه - أحد أركان الصهيونية، وسيلة الانبعاث الوطني. فقد حصلت احتجاجات من بعض الصهاينة الأورثودوكسيين، المعاصرين لإنشاء دولة إسرائيل، بيد أن الصحافة ، و في شبه إجماع، أشادت بأشغال الباحثين، كما أن الكتاب باللغة العبرية ظل على قائمة الكتب الأكثر مبيعا لمدة ستة عشر أسبوعا، بينما رَكَنت الأوساط الدينية، الحاضرة بقوة على الساحة السياسية، إلى الصمت المطبق، ربما خشية إثارة سجال قد ينتهي لغير صالحها. كيف يمكن تفسير ترحيب الرأي العام هذا؟ الفرضية التي تبدو لي أقرب احتمالا هي أنه بعد أكثر من نصف قرن على إنشاء دولتهم، لم يعد الإسرائيليون يشعرون بالحاجة إلى تبرير مشروعيتها و قد أصبحت أمرا واقعا لا يمكن التراجع عنه. و في كافة الأحوال، فإن الإسرائيليين، و هم علمانيون في أغلبهم، أصبحوا يعتقدون بأن التوراة لم تعد تشكل عقد ملكية في نظر المجتمع الدولي، خاصة لدى المعنيين الأوائل أي العرب و الفلسطينيين. ف»الأيديولوجيون الجدد» مثلهم في ذلك مثل «المؤرخين الجدد»، الذين ينتمون معا للجيل الشاب، المتحرر من العقد التي كانت تأسر الكبار، و الذي لا يقيم احتراما كبيرا للأساطير المؤسسة، يشهدون، بأسلوبهم على ميلاد «إسرائيل عادية»، قادرة على مواجهة ماضيها دون تسامح. ففي انتقاده الغاضب على المستوطنين ، الذين عارضوا اتفاقيات أوسلو و إعادة بعض الأراضي للفلسطينيين، دعاهم الوزير الأول الإسرائيلي إسحق رابين، قُبيل اغتياله، إلى الكف عن اعتبار التوراة سجلا للمسح العقاري. و أضاف موجها لهم الحديث ،أنه إذا كُنا سنتخذ التوراة مرجعا لنا، فإنه ينبغي على دولة إسرائيل أن تتخلى عن ساحلها، بما في ذلك مدينتي تل أبيب و حيفا، بما أن العبرانيين لم يسكنوا أبدا هذا الجزء من فلسطين. و مع ذلك، فإن الأسطورة أظهرت أنها أكثر صلابة و مقاومة من الواقع: فتأثير رجال الدين لم يتزعزع، و كذا نفوذ دعاة «إسرائيل الكبرى»، على الأقل في صفوف الطبقة الحاكمة العاجزة عن إعادة النظر في السياسة التي قادت البلاد نحو النفق المسدود.