الحديث في هذا الشأن، أي شأن النخب و تحوّلاتها في عالم اليوم، هو حديث معقد، وعلّة التعقد آتية أولا من تداخل المجالات وأشكال النظر التي يكون علينا أن نرصده من خلالها، فالنخب هي أولا موضوع نظر سوسيولوجي، لأنه نظر في أدوار و مهام شريحة اجتماعية، و النخب ثانيا هي موضوع نظر «تأريخي» لأنه نظر في صيرورة و تحوّلات هذه الشريحة و الأطوار التي تقلبت فيها، هذا ناهيك عن كونه موضوع نظر فلسفي، لأنه نظر في الحركية العامة للقيم عند أمة من الأمم أو عند الإنسان بعامة قياسا إلى التاريخ . لكن يمكننا مع ذلك أن نقول بعض الأمور العامة الموجزة ، و لنكتف بالحديث عن هذه القضية في زمننا هذا لا غير، أي لنقصر النظر فيما آل إليه أمر النخبة في عالم اليوم تحديدا. تبين المعاينة الآنية للمسألة أن هناك تحولات كبرى لحقت بالمفهوم، و هي تحولات أتت سريعة متلاحقة في ظرف لا يتعدى بضعة عقود، تحولات همّت المكونات كما الوظائف. فمن جهة المكونات نحن اليوم أمام نخب جديدة يمكن أن نسمها بنخب «الخبراء» les experts ، فمجتمعات اليوم لم تعد - في بحثها عن عناصر لفهم ذاتها و زمنها - في حاجة إلى المراجع الروحية التي كان يجسدها رجل الدين قديما أو الفيلسوف حديثا و لا حتى القادة الإيديولوجيين أو السياسيين كما كان الشأن إلى عهد قريب، بل المرجع و السند اليوم هو «الخبير» صاحب «الاختصاص». ما معنى الخبير ؟ الخبير أولا غير المفكر، من حيث إن المفكر هو صاحب مشروع و تصور عام عن ماهية المجتمع و الإنسان ، بهذا يكون المفكر هو «المثقف» بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي يكون ذلك الذي يملك وعيا تاريخيا بمتطلبات المرحلة فيطلع بتسطير المسار و بيان الأفق الذي ينبغي للجموع أن تسعى إليه سواء كان هذا الأفق سياسيا ( حينها يكون المثقف منظّرا سياسيا) أو قيميا أخلاقيا (حينها يكون المثقف فيلسوفا)، أما الخبير فلا علاقة له بكل هذا، إنه صاحب معرفة تقنية محددة في مجال محدد، ولا يُفزع إليه إلا في حدود هذا المجال الذي يشتغل في إطاره. بطبيعة الحال قد نرى في هذا التحوّل محاسن من جهة كون نخبة الخبراء قد تبدو أكثر اختصاصا و أكثر اطلاعا على المعطيات و الإحصائيات، و هو ما قد يجعل تحليلاتها مواكبة للوقائع، لكن لهذا التحوّل من جهة ثانية مساوئ لا حصر لها ، و هي مساوئ تمس جوهر و جدوى وجود النخب أصلا. أهم هذه المساوئ هي «تحييد» النخبة، و هذا الحياد هو على وجهين، حياد سياسي أولا، من حيث إن الخبير لا يكون مطالبا بأن يدافع عن تصور سياسي عام، بل لا يكون مطالبا بأن يمتلك تصورا أصلا؛ ثم حياد «أخلاقي» ثانيا ، من حيث إن الخبير، من جهة ما هو مختلف عن «المثقف»، هو رجل لا يملك «وعيا شقيا» تجاه زمنه؛ رجل يكتفي بتدبير القائم في إطار ما هو قائم، على عكس المثقف الذي هو رجل ينتقد القائم و يحلم بتجاوزه، و هو بحلمه هذا و بجهده الذي يبذل لتحقيقه يحرّك التاريخ . المثقف بهذا المعنى هو رجل حركة في حين أن الخبير هو رجل سكون؛ المثقف رجل يبحث عن الصيرورة في الوقت الذي يكتفي فيه الخبير بالعمل في إطار البنى القائمة، لهذا فهمومهما مختلفة ، فالمثقف رجل يحمل همّ النهضة و الثورة و التغيير في حين أن الخبير لا يهتمّ إلا بما يمس التدبير و التسيير الآني للوقائع، و هذا ما يفسّر أن النظم السياسية لا تخاف نخب الخبراء و لا تخشاهم، بل تعمد إلى التقوية من سلطتهم و من وضعهم الاعتباري بالتكثير منهم بحسب القطاعات من خلال إنشاء مدارس خاصة بالمهندسين و المسيرين، فالخبير كائن مسالم و «وديع» سياسيا، كائن لا يسأل عمّا «لا يعنيه» ، إنه يشتغل في المجتمع دون أن يسائل الأسس التي ينبني عليها المجتمع؛ الخبير ليس رجل أسئلة، ليس فيلسوفا، إنه رجل يبحث عن حلول لعوائق اعترضت «أصحاب القرار» في مجال ما، و أرقى ما يمكن أن يبلغه هو أن يجيب عن طلبات خبرة قدمت إليه بغرض رفع تلك العوائق دون أن يرقى ليضع محلّ سؤال شروط إمكان هذه العوائق ذاتها، بهذا المعنى فالخبير رجل لا يطرح إشكاليات، بل يحلّ مشاكل . وإن كان الخبير غير منشغل بالثقافة بمعناها الوظيفي فهو بذلك في غير ما حاجة للثقافة بمعناها المعرفي، فالخبير رجل غير «مثقف»بالمعنى المعرفي للكلمة، أي أنه رجل لا يملك من المعرفة ما لا يكون «في حاجة إليه»، فبما أنه رجل لا يطرح إلا قضايا التدبير، و هذه قضايا بطبيعتها ظرفية؛ فإنه لا يكون مطالبا بأن يتجاوز ما هو ظرفي في الزمان أو المجال ، ومن هنا نفهم كيف أن نخب اليوم عموما لا تهتم بتحصيل المعارف العامة من أدب و علم و فلسفة و تاريخ، بل إنها قد ترى في هذه المعارف عوائق لعملها المباشر، و لهذا فهي قد لا تجد حرجا أو تناقضا في أن تطلع بتدبير شؤون بلد دون أن تعرف لغته و لا ثقافته . طبعا نحن هنا لا نتحدث عن أعيان أو أشخاص، فقد نجد خبراء لا يمتثلون لهذه التحديدات من حيث هم أشخاص، لكننا نتحدث هنا عن منطق عام و عن تصور «مؤسسي» للأمور. هناك نقطتان أخيرتان لا بد من الإشارة إليهما ، أولاهما تعرضنا لها ضمنا لكن من الضروري إبرازها، و هي أن البعض قد يتصور بأن ابتعاد نخبة اليوم عن أسئلة الوعي التاريخي و التكوين النظري و الخطابات المرجعية و السياسية الكبرى معناه ابتعادها عن الإيديولوجيا، وهذا فهم نجده عند المدافعين عن هذا النوع من النخب حين يصفون نظرة الخبراء بأنها نظرة «برجماتية» بعيدة عن خطابات الإيديولوجيا و أوهامها، لكن هذا أمر خاطئ تماما، وقد قتل الفلاسفة نقدا هذا التصور و بينوا تهافته منذ كتابات مدرسة فرانكفورت الأولى ، مرورا بفوكو و انتهاء بهابرماس كما في كتابه المعروف «التقنية و العلم كإيديولجيا»، فقد بيّن هؤلاء الفلاسفة أن خطاب الخبرة هو أوغل و أرسخ في الإيديولوجيا من أي خطاب آخر عرفه التاريخ، إنه إيديولوجيا «في فعل»؛ إيديولوجيا باسم «الفعالية» ؛ إيديولوجيا تنجح في أن توهمنا بأن السياسة ليست شأننا نحن المواطنين، بل هي موضوع وظيفة و خبرة، فلا يغدو المجال السياسي شأنا عاما، بل يصير «قطاعا « من بين قطاعات أخرى يعرف مفاتيحها الخبراء في «البوليتولوجيا» الذين يطلعون ب»التعليق» على الأحداث في التلفاز في مجتمع يصير فيه المواطن مجرد «متفرج» ورقم في نسب «الأوديمات» ، و كل ذلك في إطار مجتمع يشرّع له خبراء « الهندسة الاجتماعية». ثاني الأمور هي أن هذه التحولات هي بالطبع تحولات كلية تولدت عن المنحى الذي اتخذه التاريخ الإنساني منذ بضعة عقود مع ظهور مجتمع السوق و اكتساح ثقافته لكل المجالات، لكن هذه التحولات إن كان لها وقع سيء في مجتمعات عاشت تجربة الحداثة و أسست للمواطنة و للمدرسة العمومية و رسخت قيم التعايش و مبادئ احترام المجال العام؛ فإن وقعها في مجتمعات ما تزال تحيا في العمق على منطق «السيبة» و الندرة يكون كارثيا و مدمرا، و هذا ما يفسر التشوّهات التي نراها اليوم في مجتمعنا سلوكا و فكرا. * أستاذ بشعبة الفلسفة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، حائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب لسنة 2013.