يعود الفضل في تعرّفي على ريجيس دوبْري إلى الأستاذ الصّديق الباحث محمد الناجي، منذ أنْ قدّم له لكتابه «العبْد والرعيّة». كنا قد التقينا خلال ترؤسه للجنة جائزة الأطلس الكبير، وفوجئ بسعة اطلاع المغاربة على كتاباته وأفكاره. لذلك يرتاح إلى من يحدّثه عنها ويحاوره بشاْن مضامينها. مسار دوبري غنيّ ومعقّد. فقد رحل إلى كوبا ثم تبع تشي غيفارا إلى بوليفيا، حيث سجن لمدة أربع سنوات، لكنهما افترقا قبل إعدام الأخير بأربعة أشهر فقط. في الفترة ما بين سنتيْ 1981-1985 سوف تناط به الشؤون الخارجية لدى الرئيس الفرنسي ميتران، ثم أصبح مديراً لبرنامج المعهد الدولي للفلسفة وترأس المجلس الوطني لعلوم الإعلام والمكتبات عام 2002. كما أسس المعهد الأوربي لعلوم الأديان وترأسه حتى سنة 2004. وفي سنة 2005 أسّس مجلة »ميديوم« للتواصل من أجل الابتكار. وهو أحد أكثر الفلاسفة الغربيين الأكثرإثارة للجدل بفعل شجاعته وصراحته في التعبير عن أفكاره ومواقفه. صدر له أكثر من 25 كتابا أثارت معظمها جدلاً واسعاً حين صدور كل منها، وكان آخرها »ساذج في الأرض المقدسة« الذي كتبه بعد عدة أشهر قضاها مع الفلسطينيين والإسرائيليين واللبنانيين. في البداية، أودّ أن أسألك: هل ما زلت وفيّا لمبحثك الميديولوجي الذي أوشك أن يغدو نظرية إعلامية ومعرفية متكاملة في العديد من المجتمعات؟ الميديولوجيا ليستْ مبحثا أكاديميا ونظريا، بقدر ما هي إجراء عمليّ وواقعي لما بات يعتمل في مجتمعاتنا اليوم. لذلك فما عرفته من نقد جاء من طرف الأكاديميين. لقد باتت الصورة اليوم محور وسائط الأعلام، وهذه الصورة ليست عنفا ماديا فقط، لقدر ما هي عنف رمزي قوين وكلمة «العنف» هنا لا تنطوي على أية دلالة سلبية، وإنما المقصود هو التأثير القويّ فقط. إنّ الغاية الكبيرة من الميديولوجيا هي توضيح آليات وأسرار ومفارقات عملية نقل الثقافة والمعرفة والفكْر عموما. والميديولوجيا تجتهد لتفسير كيف أن القطائع أو التمزّقات في منهجيات النقل والانتقال يُمكن أن ينتج طفرة في العقليات والسلوكيات، وعلى العكس، كيف يُمكن تقليداً ثقافياً أن يخلق، أو يُعدّل، أو يستوعب الابتكار التقني. والميديولوجيا ليست عقيدة وليست علماً جديداً، على رغم ميل بعضهم إلى تصنيفها ضمن هذا الإطار. ولكن، هي قبل أي شيء وسيلة لتحليل ونقل المعلومات التي ترتكز على مجمل التفاعلات بين ما هو تقني وما هو ثقاف، وما يُسمى أشكال الحياة الاجتماعية كالدين والفن والسياسة والمواضيع الأخرى الأكثر سطحية في الحياة المادية، وفي السلوك الاعتيادي. هل هذا ما حاولتَ معالجته وتصويبه في كتابك «حياة الصورة وموتها»، باعتباره ردّا على ذلك النقد والاستخفاف الذي تعرّضت له كتبك السابقة عن الميديولوجيا؟ كتاب «حياة الصورة وموتها» عبارة عن حقل اشتغال للميديولوجيا ككلّ ومماتها. وفيه اجتهدتُ لأبيّن كيف تسعى الصورة التي تجتاح وسائط الإعلام، مهما كانت طبيعتها، سواء عبر التشخيص أو عبر التلفزيون أو عبر الصورة الوثائقية أو الإلكترونية، إلى جعل الزّمن معلّقا، متوقّفا لا يتحكّم فيه المرْء. مع الصورة اليوم انزاح الزّمن البشري ليفسح المجال لزمن آخر غيْر مُتحكّم فيه، ولا سلطة للإنسان عليْه، بل اكثر من ذلك، فقد أصبحت الصورة تفرض أنماط التفكير ومضامينه الجديدة، وهو ما أدّى إلى بروز الكائن الصُّوَري الذي لا يعيش ولا يتحدّث بلْ ولا يفكّر خارج الصورة عنفها المادّي والرّمزي. هلْ تستعمل مفهوم «العنف الرمزي» هنا بالمعنى الذي يقدّمه بيير بورديو في كتاباته عن السلطة في المجتمع؟ إلى حدّ ما نعم، العنف المادي والرمزي معناه أن يتمثل الإنسان، بدون وعْي في الغالب، مقولات تفكير ومعرفة وأنساق التصنيف، تفرضها الصورة عليه. غير أنني أضيف حتى أنماط تصرّف الذي يبدو للمرء عاديا وطبيعيا. مفهوم «العنف الرمزي» يلتقي مع المفهوميْن الماركسييْن: «الأسطرة» و»الاستلاب»، وإذا كان هذا صحيحا فإننا نعيش أسطرة واستلابا من نوع آخر يجدان مدخلهما من أعْيننا، من المرئي، أي من الخارج. سلطة الخارج هي التي تبنْين وتشكّل وتنمْذج. يمكن القوْل بأنّ هناك خيطا رفيعا يخترق جميع كتاباتك، رغم الاختلاف الظاهري لموضوعاتها. هذا الخيط هو القضية الفلسطينية، التي تسمّيها قضية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. صحيح أنني أتناول بالتحليل هذه القضية في أكثر من كتاب. ربّما يعود هذا الاهتمام، في جزء كبير منه، إلى انتمائي الشيوعي السابق. لكن الأهمّ هذا السؤال لم يهتدِ إلى الإجابة الشافية عنه كبار الديبلوماسيين في العالم منذ عقود طويلة. ولكن، من وجهة نظري الخاصة أعتبر أن الحلّ لا يأتي إلّا من الدول العربية القوية نفسها. فإسرائيل بلد قوي ومدعوم من أقوى دول العالم وعلى رأسهم أمريكا، لذا فإن الحقوق ستبقى إلى جانب الإسرائيلين والعالم كلّه في صفهم. أما الفلسطينيون فهم للأسف ضعفاء ولن يجدوا من يقف معهم إلّا إذا أرادت الدول العربية القادرة الوقوف ندّاً للندّ مع إسرائيل من خلال مواجهة أميركا بالثروة التي يملكونها. في كتاب لك صدر حديثا، وهو «رسالة إلى صديق إسرائيلي» تحاول أنْ تعود إلى موضوع الصراع العربي الإسرائيلي بنوع من التبرير المتوازن، هل هذا صحيح؟ في هذا الكتاب أتحدّث عمّا أسمّيه «فضيلة الشجاعة». وهي شجاعة البوح الصريح للإسرائيليين بالموقف من سياساتهم، من «موقع الصداقة»، وهو ما نفتقده في الكثير من الكتابات المتسرّعة والذاتية، من هذا الجانب أو ذاك، وحتى في الكثير من النقاشات والسجالات، وهو واقع نعيشه حتى في فرنسا، التي يختلف فيها الأمر عن أمريكا مثلا. ففي فرنسا هناك مساندون كثيرون عن العرب والفلسطينيين، كما أن هناك مساندين كثيرين عن الإسرائيليين. وما كان ينعدم هو الشجاعة في الحوار وفي قوْل الأشياء كما هي بعيدا عن التشنّج والانفعال، وشجاعة مخاطبة الإسرائيليين والجهر بالحقيقة أمامهم. لأن انتقاد القويّ صاحب الصورة الإيجابية في الغرب أهمّ من انتقاد الضعيف. لذلك سعيتُ إلى الحديث عن ثقافة الموت في غزة والفساد في الضفة الغربية. ولكي أعود إلى سلطة الصورة، فقد لعبت دورا سلبيا بالنسبة للفلسطينيين. إلى أيّ شيء يعود هذا الدور السلبيّ؟ يعود في جانب كبير منه إلى امتلاك وتسيير واشتراك أو ارتباط عدد من الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية في الغرب بمؤسسات وسائل الإعلامية المرئية على وجه الخصوص. الغرب يعتبر اليهود قوماً منهم، وجزْءا من تاريخهم، من حسبهم ونسبهم، من دمهمْ، ومن سياقهم الحضاري (اليهودي ? المسيحي)، ومن صلب مجتمعاتهم الحديثة. وبالتالي، ترتبط دولتهم بالمخيلة السياسية الغربية على نحو يختلف عن كل ارتباط بشريّ آخر. لذلك نلاحظ أنّ هذه الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية يقتصر اهتمامها على ما يجري في إسرائيل وحولها، وتكاد لا تبالي بما يجري في مناطق أخرى ليستْ أقلّ دموية. مناطق فيها نزاعات وصراعات وجلادون وضحايا أكثر كدارفور ومنطقة البحيرات الأفريقية الكبرى، وسيريلانكا والشيشان وبورما وغيرها. في سياق تبرير العنف الإسرائلي واحتلالها الشرس للأراضي الفلسطينية، تورد حادث الهولوكوستْ الذي تعتبره شبحا مخيفا يكاد لا يختفي. نعم، لقد كان شبح الهولوكست ولا يزال مخيّماً على الإسرائيايين. وبالتالي يصعب تخيّل موقف نقدي للناجين من ناره وهم «يؤسّسون حلمهم ووطنهم». غيْر أنّ الأمور قد تغيّرت اليوم. ولمْ يعد هناك مبرّر لاحتلال مزيد من الأراضي وبناء الجدارات ومواصلةالاستيطان والعقاب الجماعي والاغتيالات والغارات الجوية والقوة النارية الهائلة والتأثير المتزايد للمؤسسة العسكرية على دوائر القرار السياسي؟ وبالتالي أصبحت إسرائيل تعيش في نوع من الدائرة المفرغة التي تكاد لا تنتهي، وهي الخوف الكبير والعنف الكبير. والمطلوب للخروج من هذه الدائرة المفرغة هذه هو فهم العرب لمعنى المحرقة، وتحرّر الأوروبيين من شعورهم بالذنب بسببها، واقتناع الإسرائيليين بأنهم لم يعودوا من ضحاياها. من هنا ربما إشارتك إلى وجود إسرائيليْن اثنتين. هناك بالفعل إسرائيلان، إذا صحّ التعبير: إسرائيل العلمانية وإسرائيل الدينية، إسرائيل المستوطنين وإسرائيل المناهضة لهم، إسرائيل شارون وإسرائيل معارضيه، إسرائيل تل أبيب وإسرائيل القدس، غير أنذ الثابت هو انتقال إسرائل عموما من الخوف المؤدي إلى البحث عن دولة وبنائها إلى سلوك إيديولوجي آخر، من بناء التجربة الاجتماعية والسياسية الى السلوك الديني الإيديولوجي الذي لمْ يعد يجد مناصرين كثيرين له وخصوص في صفوف الشباب اليوم. لكن ما يؤلم في هذا المشهد العامّ اليوم، ليس هو اقتصار العنف والأحقاد بين الجانبيْن الفلسطيني والإسرائيلي، بل هو امتداده إلى الجانب الديني المعقّد أصلا. لذلك ازدادتْ الأمور تعقيدا وزادت الأحقاد. حيث لم تعد هذه الأحقاد محصورة فقط بين العرب واليهود، أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وإنما اتسعت كي تشمل المسلمين والمسيحيين العرب في مصر ولبنان وسوريا والعراق. ثم تفاقمت بشكل أخص كي تندلع بين السنة/ والشيعة داخل الإسلام نفسه. وعلى المستوى العرقي أو القومي لا نستطيع أن نستهين بالحزازات الفارسية/ العربية، أو الكردية/ العربية، الخ..باختصار فإن المنطقة تحولت إلى حقل متوتر تنفجر فيه القنابل الموقوتة والمحتقنة منذ زمن طويل. من هنا أهمية هذا الكتاب. فهو لا يجامل ولا يراوغ وإنما يسمي الأشياء بأسمائها ويدعو العرب إلى المزيد من العقلانية في تحليلهم للظواهر أو فهمهم للأمور..كما يدعوهم إلى القبول بالواقع الإسرائيلي رغم الظلم الفادح الذي أصاب الفلسطينيين وأيضا اللبنانيين والسوريين وبقية العرب من جراء إقامة دولة إسرائيل. أعود لسألك عمّا إذا كان هذا تبرير للتواجد الإسرائيلي؟ أنا أقول دائما إنّ الكلام المعسول شيء وحقيقة الأمر على أرض الواقع شيء آخر. فقريبا لن يعود هناك أي شيء يمكن التفاوض عليه! لماذا؟ لأنّ إسرائيل تقضم أراضي الضفة الغربية تدريجيا ثم تضع المجتمع الدولي أمام الأمر الواقع في كل مرة. وهذه هي سياستها منذ نشأتها قبل ستين سنة، وهي سياسة لم تتغير ولم تتبدل. إنها تتبع المقولة التالية: التاريخ يتقدم مقنعا..فبما أنها لا تستطيع التصريح بحقيقة مخططها منذ البداية فإنها تعلن علانية شيئا ما وتفعل على أرض الواقع عكسه تماما حتى يكون هذا الشيء قد تحقق وترسخ، وعندئذ تضمه إليها باعتباره أمرا واقعا..إنها تريد الضفة الغربية كلها لأنها بحسب التوراة هي يهودا والسامرة: أي لب الوطن اليهودي. أما غزة فلا تهمها أبدا لأنها لا تنتمي إلى «الجغرافيا المقدسة» للأرض الموعودة. ولهذا السبب انسحبوا منها ولا يريدونها. أما من الضفة الغربية أو القدس فلن ينسحبوا أبدا. بل سيفعلون كل شيء للتضييق على سكانها حتى يهاجروا من تلقاء أنفسهم. وهذا ما ابتدأت تفعله النخب المسيحية. في كتابك عن الأخوّة والتسامح، تشير إلى جانب هامّ وهو اختلاف المسيحية عن اليهودية في التأقلم مع الزمن الحديث والحداثة، رغم أنّ المسيحية عرفت بدورها مراحل عنف وتقتيل؟ المسيحية لا تخلو من عنف، فقد مارست طيلة عدة قرون كل أنواع محاكم التفتيش والحروب الطائفية والمذهبية والصليبية. صحيح أن المسيحية حلت بعدئذ مشكلتها مع الحداثة ولم تعد تبطش بالآخرين، علاوة على كونها نبذت العنف كليا وحرمته. ولكن ذلك لم يحصل إلا بعد جهد جهيد وصراعات عنيفة ومقاومة شرسة للحداثة على مدار ثلاثة قرون: من السابع عشر وحتى العشرين وأما فيما يخص اليهودية فإنّ كتابها المقدس أي العهد القديم أو التوراة يدعو إلى العنف في بعض أجزائه ويبرر القتل والذبح مثلما هو وارد في بعض سور القرآن وآياته. يضاف إلى ذلك أن النصوص اليهودية التوراتية تستخدم أيضا لخلع المشروعية الإلهية على مشروع سياسي محض: هو المشروع الصهيوني المعروف. وبالتالي فهناك يهودية سياسية مثلما يوجد إسلام سياسي. مع فارق أساسي بين المسيحية والإسلام هو أن الكتاب المقدس عند المسيحيين ليس إملاء إلهيا بالحرف الواحد. وإنما هو كلام ملهم أو مستلهم من قبل الله. أما عند المسلمين فالأمر مختلف تماما لأنهم يعتبرون القرآن كلام الله الحرفي. وبالتالي فينبغي تطبيقه حرفيا. وهذا يطرح مشكلة كبيرة لأنّ الأحكام الشرعية الواردة فيه تخص عصرا غير عصرنا ومجتمعا قديما غير مجتمعنا. ولكن هذا لا يعني أن الإسلام خال من الميزات الايجابية على عكس الدينين الآخرين. فالواقع أن له ميزات روحية وأخلاقية عديدة. وهو يمتاز ببساطته العقائدية وسهولة الدخول فيه ولكن ليس الخروج. فالخروج يعني الردة وبالتالي الحكم عليك بالقتل. في اليهودية من الصعب أن تدخل ومن الصعب أن تخرج. ولكنهم لا يقتلونك إذا ما خرجت. والآن جاء الآن دور الإسلام. فقد دخل في أزمة حادة مع نفسه ومع البشرية كلها ولا أحد يعرف متى ستنتهي. وهو مرتبط الآن بالعنف على أوسع نطاق. بل انه يبرره دينيا بالفتاوى ويحرض أتباعه على قتل الكفار من مسيحيين ويهود وصليبيين وسواهم كما فعل بن لادن والظواهري والزرقاوي وجماعة القاعدة وما تفرّع عنها اليوم. يبدو من كلامك كأنّك تخلط بين ما ورد في النصوص الدينية وبين الواقع والممارسة التي قد لا تكون لها علاقة بالنصوص، مثل كلامك عن العنف الإسلامي؟ أنا أحاسب الأديان على أفعالها لا على أقوالها. فكلنا نعرف أن النصوص الدينية من توراة وقرآن وإنجيل تقول الشيء وعكسه. فقد تقع على آيات رائعة فيها الرحمة والمحبة ولكن بعد ثلاثة أو أربعة أسطر تقع على آيات أخرى تبيح القتل والعنف. هل الأديان عموما تتعارض مع التحديث؟ هناك موقف عام ومشترك لأديان التوحيد من الحداثة: فهي تكرهها عموما ولا تثق بها. وليس صحيحا ما يقوله الغرب من أن التعصب شيء خاص بالإسلام دون المسيحية. الشيء الصحيح فقط هو التفاوت الزمني بينهما. فالمسيحية تجاوزت أزمتها مع قيم العصر الحديث في حين أن الإسلام لا يزال يتخبط فيها. هذا كل ما في الأمر. والدليل على ذلك أن ما يقوله الإسلاميون والظلاميون المتزمّتون عن قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو موجود حرفيا في فتاوى البابوات الكاثوليك خلال القرن التاسع عشر. هنا ينبغي أن نقيم مقارنة موضوعية دقيقة بين الإسلام والمسيحية. فمن الواضح انه إذا ما قارنا بين الإسلام الحالي والمسيحية الحالية في أوروبا فإنّ الإسلام يبدو أكثر تعصبا وعنفا ورفضا للحداثة بكثير. ولكنا إذا ما قارنا بين الإسلام الحالي والمسيحية في القرن الماضي وجدنا تشابها كبيرا. إن محاكم التفتيش في اسبانيا لم تنته إلا سنة 1824. ومن ثمّ فإنّ النزاعات والحروب الطائفية انفجرت في كل مكان ولكن ليس في نفس اللحظة. كانت هناك أدوار متعاقبة، فالمسيحية كانت أكثر تعصبا من الإسلام في الماضي. والفظائع التي ارتكبها المذهب الكاثوليكي بحق خصومه لا تقل وحشية عن الفظائع التي ارتكبها الزرقاوي وجماعة القاعدة حاليا. انظر توماس توركمادا زعيم محاكم التفتيش في اسبانيا إبان القرن السادس عشر. فمجرد ذكر اسمه يؤدي إلى أن تقشعر النفوس والأبدان. وبالتالي فلنترك للإسلام الوقت الكافي لكي يصلح نفسه ويهضم أفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان. عالجت قضايا الدنيوي والقدسيّ في كتاباتك كثيرا. هل تعتقد أن العلمانية الغربية لعبت دورها في تقليص هامش المُقدسّات في العالم؟ القدسيّ هو كلّ ما نُقدّسه نحن، والتقديس هنا بمعنى تبجيله وعدم المسّ أو حتى السماح بالمساس به. لهذا لا يجب أن نخلط بين »الألوهي« و »القدسي«، كما قلت، هذا أمْر أساسيّ، علماً أن الإنسان نفسه هو من يصنع القدسية ويصبغها على هذا الأمر أو ذاك. والمقدسات ليست بالضرورة متعلقة بأفكار معينة أو معتقدات دينية محددة، ففي أوروبا ثمة أماكن مدنية تُمنح قُدسية أكثر من أي كاتدرائية أخرى، فيُمنع الدخول العشوائي إليها، ويُلزم من يدخلها بالتمسّك ب »بروتوكول« معين يقتضي بارتداء زيّ خاص أو الحرص على التصرّف بطريقة معينة، قد لا يُلزم بها من يدخل كنيسة »نوتردام« التي أصبحت مزاراً سياحياً من الطراز الأول. ويمكن أن تُصبح شخصية غير دينية بل مناهضة لفكرة الدين، شخصية مقدّسة في نظر مجتمعات معينة كما هي حال ماركس بالنسبة إلى الشيوعيين مثلاً أو لينين وماو تسي تونغ، اللذين تُحتم عليك زيارة ضريحيهما المرور السريع من أمامهما والصمت وعدم التصوير... من هنا، أقول إنّ المُقدّس هو كلّ ما تُضفى إليه قدسية تجعله مُحاطاً بهالة وحدود لا يُمكن تجاوزها. فالموت هو أيضاً من الأمور المقدسة وأكثر مكان يُشعرنا بذلك هو المقابر التي غالباً ما يحضر فيها الصمت والرهبة. أنت تُميّز بين الألوهية وبين القداسة، هل معنى هذا أن الألوهية ذات طبيعة سماوية، مرتبطة بالأعلى، والقداسة أو القدسي متصل بالأرض، وبالتالي قابل للتغيّر والتبدّل كما تقول؟ هذا صحيح، وقد سبق إبراز من طرف علماء اجتماع أمثال مارسيل موس. وبالتالي فإذا كان الأوهي ثابتا إلى حدّ، لأنه عقائدي، فإنّ القدسيّ Le sacré يتغيّر وذو طبيعة مختلفة. ليس هناك قدسي دائم وثابت، حسب المجتمعات والعصور، غير أنه موجود دائما. فمقياس المقدسات يتطور ويتبدّل مع الوقت. »الألزاس واللورين« على سبيل المثل كانتا في فترة من الفترات، مع ثلاثة أجيال إلى الوراء، من المقدسات التي لا يُسمح المسّ بهما في فرنسا، ولكن لم تعد هي الحال اليوم لتغيّر الظروف والأسباب. الغابات مثلاً هي اليوم من المقدسات في ألمانيا وقد لا تبقى. الجسد كان من المقدّسات في المجتمعات القديمة لكن الأمر تغيّر مع مجتمع الموضة والصورة والحرية، إلا أنّه ظلّ محرّما في مجتمعات أخرى. هل هناك علاقة بين القدسي وبين العنف؟ نعم، لأنّ «القدسيّ» في جانب كبير منه يعتمد على مسألة الحدود، الحدود التي لا ينبغي ولا يجوز مطلقا تجاوزها، وإن تمّ هذا التجاوز سيُشكّل حتماً صراعاً. إذا أردنا أن نُبسّط هذا الأمر من خلال شاهد معاصر، أعطي مثالاً سبق أنْ أوردته على ذلك الصراع الذي حصل على ملعب كرة القدم في مباراة نهائي كأس العالم عندما قام لاعب بشتم لاعب آخر بأمه أو أخته، فما كان من اللاعب »العربي الأصل« - زين الدين زيدان - إلّا أن ضربه وخرج من المباراة الأهمّ في حياته وحياة فريقه دفاعاً عن مقدّساته التي انتقلت إليه بفعل التربية التي نقلت إليه المقدسات العامة. وأحياناً يموت الشخص دفاعاً عن قضيته المقدسة. وإذا أردنا أن نوسّع الصورة أكثر، نأخذ سياسة الولاياتالمتحدة مثلاً. فأمريكا هي من البلدان التي لا يُمكن أن تقوم من دون أعداء، وقد اتخذت عبر التاريخ أعداء كثراً، واليوم أصبح الإسلام عدوّها، لذا فإنها تعمل على المسّ بمقدسات هذا الدين لتخلق ردود فعل تُكرس العداوة في ما بينهما. وهنا يتحول »القدسيّ« أيضاً إلى أداة للصراع والقتال. ذكرت في معرض حديثك كلمة حدود، وأنت من أكثر الكتاب اهتماماً بهذا الموضوع. ألا تعتقد أنّ الحدود يُمكن أن تكون نفسية أكثر من كونها جغرافية؟ لا شك في أن الحواجز النفسية هي أكثر تعقيداً، وأنا طالما ذكرت أن الحواجز ليست مادية أو جغرافية بمعنى أنّها لا تتمثّل بخط فاصل نتجاوزه للعبور من دولة وأخرى، بل هي حدود ترسمها الهوية واللغة وغيرهما.