قصته مثيرة على أكثر من صعيد.. أقصد قصة حياته النضالية والسياسية، حتى لا أقول "قصته الجزائرية".. فالرجل، علم نضالي سام، لكنه لم يدق من رفاقه بعد الإستقلال غير لغة القتل.. القتل المزدوج: الإغتيال في أحد شوارع مدريد، وهو في سيارته أمام أنظار زوجته، والقاتل مواطن جزائري تحدث مع القتيل قبل قتله بدم بارد. ثم تشويه صورته في ذاكرة الأجيال الجزائرية منذ الستينات إلى اليوم، بتهمة أنه "لص" سرق "مال الثورة".. بالتالي، فقصة الرجل مغرية، بالمعنى التراجيدي لتجربة حياة نضالية في القرن العشرين، في بلد المليون شهيد. محمد خيضر، الذي ظل اسمه يرد كثيرا على لسان عدد من كبار رجالات المقاومة المغربية، بتقدير خاص، وبغير قليل من الحسرة على مصيره المأساوي، خاصة الراحل الفقيه البصري، والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، والراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب، والمرحوم الدكتور عمر الخطابي، يعتبر من الرجال المؤسسين للحركة الوطنية المغاربية، وليس فقط الجزائرية. وكانت له ميزة، أنه زاوج بين التكوين السياسي الفكري وبين الفعل الميداني النضالي، كونه من القلائل الذين تمكنوا من أن ينتخبوا عضوا في البرلمان الفرنسي بالجزائر المستعمرة، سنة 1947 وعمره بالكاد يتجاوز الخامسة والثلاثين سنة، واكتسب خبرة قانونية وتدبيرية من خلال اشتغاله عضوا باللجنة البرلمانية المكلفة بقضايا الصحة والمرأة والإعلام، وكان في الآن نفسه مشاركا في تنفيذ العلميات الفدائية، ولعل أشهرها عملية بريد وهران سنة 1949، إلى جانب كل من رفيقه الكبير الحسين آيت أحمد، وأحمد بنبلة (الذي سيختلف معه بعد الإستقلال). وظلت ميزته أنه لم يكن عسكريا صرفا، بل رجل نضال سياسي ورجل حوار. وفكره، فكر رجل استراتيجي، لا فكر عسكري يفكر بمسدسه قبل التحليل الملموس للواقع الملموس. لقد ظل تكوينه البكر، الذي تشربه في مدينته "بسكرة"، حيث رأى النور سنة 1912 (13 مارس)، بتاريخها الصوفي وتاريخ رجالاتها في العلم والفقه والسياسة والتجارة (بسبب موقعها الإستراتيجي ضمن طريق الذهب القديمة بين تونسوالجزائر العاصمة، باتجاه بلاد السودان وبلاد الطوارق ومدينة أغاديز القديمة)، ظل ذلك التكوين بئره السرية التي ظل يغرف منها معاني حياة ومعاني سلوك ومعاني رؤية سياسية نضالية، تمتلك الكثير من توابل الذكاء المخلوطة بصلابة الموقف في كل ما هو مبدئي واستراتيجي. بالتالي، فالرجل كان صاحب رؤية، وليس مجرد ما يمكن وصفه ب "حيوان سياسي" تبرر عنده الغاية الوسيلة. ولعل ما رسخ عنده ذلك الوضوح في الرؤية للناس وللعلائق وللمواقف، ما عاشه في مدينته من ظروف اجتماعية قاسية، دفعته إلى أن يحاول المزاوجة (بعصامية نادرة)، بين كرسي الدراسة والعمل لمساعدة عائلته الفقيرة، قبل أن يضطر في ما بعد أن يعمل جابيا في حافلة النقل العمومية بين مدينته بسكرة، وبلدة باتنة القريبة، في ذلك الشرق الجزائري، باتجاه مدينة غدامس الحدودية مع ليبيا وتونس. فشحدت ظروف الحياة في الفتى الذي كانه، وعيا باكرا بالحقوق، مثلما علمته تجربة الحياة العملية، في معمدان إسفلت الواقع، أن لا يتعلق كثيرا بيوتوبيات لا تزيل ألما عن ضرس ولا ترفع عن جبهته عصا الإستعمار وقمعه. وبالعودة إلى بعض كتابات الراحل المغربي، محمد باهي، في مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية بباريس، ثمة إشارات دقيقة إلى معنى ما شكله محمد خيضر، من تجربة خاصة ضمن القادة التسعة التاريخيين للثورة الجزائرية. ذلك، أن ابن مدينة بسكرة، وابن أحد أقدم الأحياء الشعبية بالجزائر العاصمة، يجر وراءه تراكما لتجربة نضالية سياسية حزبية جد غنية، منذ انخراطه الباكر في حزب "نجم شمال إفريقيا" بزعامة كل من الحاج علي عبد القادر، العامل الجزائري الفقيه الذي انخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1924 وأسس مع رفيقه مصالي الحاج، هذه الحركة السياسية الجزائرية، التي ابتدأت عمليا حركة نقابية تشكلت نواتها الأولى من العمال الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا (مهم هنا العودة إلى ما كتبه الباحث الفرنسي روني غاليسو حول تاريخ الحركات العمالية المغربية والجزائرية). وكان ضمن الأعضاء المؤسسين لهذا الحزب الفتي، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، المعروف بالأمير خالد (الحسيني). ثم التحق خيضر، بعدها بستنين، سنة 1937 بحزب "الشعب الجزائري" وهو بالكاد قد أكمل ربيعه الرابع والعشرين، الذي عرف بحزب مصالي الحاج، الزعيم الوطني الجزائري الشهير، الذي خرجت من تحت جبته كل أطياف الحركة الوطنية الجزائرية، التي قادت النضال السياسي والعسكري المفضي إلى الإستقلال سنة 1962، بفاتورة دموية رهيبة. وهو الحزب الذي انتخب عنه خيضر نائبا بالبرلمان الفرنسي بالجزائر. محمد خيضر، الذي حلت هذا الشهر (3 يناير)، الذكرى 46 لاغتياله بمدريد، عاد مجددا إلى واجهة الأحداث ببلداننا المغاربية، بفضل تحرك ابنه طارق خيضر (زارنا هذا الأسبوع بمقر الجريدة بزنقة الأمير عبد القادر بالدارالبيضاء، ولصدفة الإسم هنا مكرها)، الذي أصدر بيانا يطالب فيه السلطات الجزائرية برفع حيف التهميش عن والده وإنصاف ذكراه وذاكرة فعله الوطنية هناك ببلاد الأوراس. خاصة وأن هناك من المسؤولين الجزائريين، وكذا من خلال بعض المقالات الصحفية، من لا يزال يلح على الإساءة إلى صورة الرجل، من خلال اتهامه ب "سرقة مال الثورة"، وهي التهمة التي لا يستقيم عليها دليل، خاصة وأن تلك الأموال قد عادت فعليا إلى الدولة الجزائرية، بنص مكتوب، سنة 1979، من قبل عائلته، بعد رحيل هواري بومدين وتقلد مقاليد الرئاسة من قبل الراحل الشادلي بنجديد. بل أكثر من ذلك، لا أحد من السلطات القضائية والسياسية والعسكرية بالجزائر، استطاع أن يقدم دليلا واحدا على استغلال الرجل وعائلته بعد اغتياله بوحشية في مدريد، لتلك الأموال في أمور ترتبط بحياتهم الخاصة، بل إن الراحل قد جعل من تلك الثروة المالية، ما كانته دوما، أموالا داعمة للفعل السياسي الوطني الجزائري، وأنه بعد اختلافه مع الرئيس الراحل أحمد بنبلة، وبعده مع الرئيس الراحل هواري بومدين (وفي عهده تمت عملية الإغتيال والتصفية عبر عناصر عاملة بالسفارة الجزائريةبمدريد، كما خلص إلى ذلك تقرير البحث الإسباني. وهو التقرير الذي وضعه على الرف الجنرال فرانكو واستثمره في علاقاته مع بومدين ونظامه)، بعد ذلك الخلاف السياسي الحاد، اعتبر محمد خيضر أن تلك الأموال هي من حق المعارضة الجزائرية وليس من حق القادة العسكريين الجدد للدولة. وأنه بدلا من أن يستثمرها باسمه ولشخصه، أسس بها بنكا خاصا بسويسرا أسماه "البنك التجاري العربي"، نمى من خلاله تلك الثروة المالية لصالح المعارضة الجزائرية. وهو الرصيد المالي الذي عاد كله بقرار من أرملته وعائلته إلى الدولة الجزائرية في نهاية السبعينات، بعد أن فشلت كل محاولات النظام الجزائري لاستعادة تلك الأموال عبر القضاء السويسري، الذي حكم بالقطع ضد الدولة الجزائرية ولصالح أرملة وعائلة محمد خيضر سنة 1974. والمثير في الأمر، أنه إلى اليوم (تفيد رسالة ابن محمد خيضر)، لا يزال ذلك البنك قائما في مدينة زوريخ تحت إسم: "Algerishe Aussenhandels" . مما يؤكد أن الرجل خدم بلده ومواطني بلده حيا وميتا، لأنه مكنهم من مصدر ثروة بجنة الأبناك بأروبا منذ زمن بعيد. الحقيقة، إن سيرة محمد خيضر وذمته السياسية والنضالية نظيفة تماما. ليس فقط، لأن الرجل كان واحدا من قادة الثورة الجزائريين التسعة الشهيرين (أحمد بنبلة، الحسين آيت أحمد، محمد خيضر، العربي بن مهيدي، ديدوش مراد، مصطفى بن بولعيد، رابح بيطاط، محمد بوضياف، كريم بلقاسم)، والذين سيقتل منهم في عهد الإستقلال، في ظروف مأساوية، وفي تصفيات لم يكشف قط عن كامل تفاصيلها كجرائم سياسية، كل من: محمد خيضر (قتل في سيارته أمام زوجته بوابل من الرصاص في قلب العاصمة الإسبانية مدريد)، كريم بلقاسم (تم اغتياله خنقا بربطة عنق في غرفة بأحد فنادق مدينة فرانكفورت بألمانيا)، ومحمد بوضياف (قتل بالرصاص أمام كاميرات التلفزيون في لقاء عمومي وهو رئيس للإنقاذ بالجزائر، بعد أن قضى سنوات طويلة في المنفى بمدينة القنيطرة بالمغرب). وليس فقط، لأنه كان المسؤول عن الشعبة الجزائرية بمكتب المغرب العربي بالقاهرة، هناك حيث اشتغل مع كل من الزعيم علال الفاسي من المغرب والحبيب بورقيبة من تونس، وكان من المقربين من البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي بذات المكتب. وليس لأنه كان أحد القادة الجزائريين الخمسة الذي اعتقلوا بعد اختطاف طائرتهم القادمة من المغرب، بعد لقاء مع الملك الوطني محمد الخامس، في طريقهم إلى تونس (وكان الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي قد أكد لي في لقاء معه، أنه ألح على القادة الجزائريين بالسفر عبر القنوات التقليدية للعبور إلى تونس، حيث كان يرتقب تنظيم لقاء مغاربي يحضره المغفور له محمد الخامس والرئيس بورقيبة والقيادة الجزائرية للثورة لإطلاق تنسيق مغاربي غير مسبوق، أي عبر مدريد ثم روما ومنها لتونس العاصمة. لكن بن بلة ورفاقه أصروا على تلك الرحلة، التي تمت بطائرة تابعة للخطوط الجوية "أطلس" وكانت المخابرات الفرنسية لا تزال ذات نفوذ معلوماتي في ردهات تلك الشركة، مما سهل معرفة أسماء الركاب وساعة الرحلة ومسارها، فتدخلت طائرات عسكرية فرنسية فأجبرتها على النزول بمطار الجزائر العاصمة). وأن محمد خيضر بقي في الإعتقال مع رفاقه الأربعة، حتى اتفاقية إيفيان المعلنة لاستقلال الجزائر... ليس كل ذلك وحده ،ما يشفع للرجل بوطنيته وصفاء ذمته، بل أيضا إصراره على المواقف المبدئية للبناء المؤسساتي للدولة الجديدةبالجزائر، على أسس سياسية ديمقراطية كاملة، وليس على أسس الإستفراد العسكري بالسلطة. وهذا أمر لم يتقبله الجناح العسكري من الثورة الجزائرية منه أبدا. بل إن الخلاف سيتعمق بين الجناح السياسي للثورة بزعامة محمد خيضر بصفته كاتبا عاما لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وبين الجناح العسكري بزعامة بن بلة، مما سيدفع خيضر إلى الإستقالة من منصبه السياسي يوم 17 أبريل 1963 وهاجر من حينها إلى أروبا. وسنة واحدة بعد ذلك أعلنت القطيعة النهائية بين الرجلين وبين التوجهين، وبالضبط في شهر يوليوز من سنة 1964، حين أعلن محمد خيضر وضع الأموال التي كانت في عهدته بصفته السياسية الحزبية السابقة، تحت تصرف المعارضة الجزائرية الوليدة والجديدة. وبعد أن اتهم الرئيس بن بلة، رفيقه في النضال زمن مواجهة الجبروت الفرنسي، باللصوصية، عاد يوم 3 ماي 1965، ليعلن في تصريح رسمي أسابيع قليلة قبل أن يطيح به في انقلاب عسكري الهواري بوخروبة بومدين في شهر يونيو من نفس السنة، أن رفيقه محمد خيضر حاز تلك الأموال لغايات سياسية وليست فردية، مما فسر على أنه بداية لتقارب جديد بين الرجلين. في السنوات الأولى لحكم هواري بومدين، نجحت المعارضة الجزائرية (الجماعة السياسية لجبهة التحرير الوطني) في أن ترص صفوفها وتتقوى، عبر آلية تواصلية مع الداخل، وتمكنت من تنظيم واحدة من أكبر عمليات الهروب من السجن للمناضل الجزائري الوطني والتقدمي الحسين آيت أحمد، ولم يكن من وراء العملية كلها سوى محمد خيضر، مما عزز من صفوف تلك المعارضة السياسية، فكان أن اتخد القرار لتصفية الرجل ونفذ الأمر يوم ثالث يناير 1967 بمدريد. وحسب رواية زوجته التي كانت إلى جواره بالسيارة، التي ركباها للحظة فقط، فقد جاءه مواطن جزائري وألح في طلب نزوله ليكلمه في أمر مستعجل، لكن محمد خيضر فضل أن يحدد له موعدا في ما بعد، وبعد نقاش قصير، اتضح للجهات المنفذة أن الرجل لن ينزل من سيارته، فأخرجت المسدسات وأفرغت بعنف في كامل جسده أمام أعين رفيقة حياته.. وبعد تنفيذ العملية، كان لابد من العمل على تلويث صورته الناصعة في ذاكرة أجيال الجزائريين، فتم تناسي كل علامات الشرف في مسيرته النضالية التي انطلقت منذ 1934، ولم يجدوا غير قصة المال الذي رفض إعادته للجماعة العسكرية الحاكمة ووضعه تحت تصرف المعارضة السياسية الجزائرية، كي يلطخوا صورته عند عموم الجزائريين. وحتى بعد أن طويت الصفحة في عهد الرئيس الشادلي بنجديد، بأن أعاد الرجل (ميتا) عبر عائلته بنكا لبلده، لا يزال هناك من يخرج في الناس ليلطخ صورة الرجل (الوزير الأول السابق بن فليس كمثال)، مما جعل عائلته تقرر مطالبة الدولة الجزائرية بالإنصاف. لأنه لا يمكن قتل الرجلين مرتين. أولا من خلال استجلاء كامل الحقيقة في عملية تصفيته واغتياله وثانيا من خلال إنصاف ذاكرته الوطنية والنضالية النظيفة.