بعدما تناولنا في السابق موضوع التأسيس «المتعالي» لحقوق الإنسان الكونية على كل الثقافات والحضارات باستحضار الفرضيات الفلسفية الثلاث كمنتوج لأبحاث عالمين وازنين وهما نيوتن وروسو: «التطابق بين نظام الطبيعة ونظام العقل»، و»حالة الطبيعة» و»العقد الاجتماعي»، نعود من خلال هذا المقال للحديث عن الديمقراطية والحق في المشاركة الشعبية الواسعة في بلورة القرارات والبرامج وتنفيذها وتقييمها في كل الثقافات. ففي المجتمعات الإسلامية على الخصوص لا يمكن أن تكون آلية «الشورى» أو «الاستشارة» الواسعة، كقيمة إنسانية تهم الفرد والجماعة، إلا دعامة ثقافية قوية للحكامة الجيدة وركيزة أساسية لتقوية أواصر التضامن والعمل الجماعي في المجتمع. ومن أجل مناقشة هذا الأمر، سنقوم من جهة باستحضار القيم الأساسية للمرجعية الإسلامية في هذا الشأن، ومن جهة أخرى بمحاولة تقييم أولي لتفعيل الحكامة في بلادنا في عهد الحكومة الحالية. قبل ذلك، نود أن نذكر القارئ أن الحق في الحرية والمساواة في كل الثقافات، وما تفرع عنهما من حقوق وواجبات، كان دائما مبدأ قارا في تمثلات الناس وكان النضال من أجل تطويره مستمرا. وموازاة مع هذا الواجب النضالي الإنساني، عاشت الإنسانية وستعيش خلافات واجتهادات سيتمخض عنها باستمرار تطورات يجب أن تجسد الإرادة في تجديد مقومات العيش المشترك (تجديد «العقد الاجتماعي»). وفي إطار هذه التطورات، التي ستتمخض عن تفاعل المجتمع مع ما استجد من قضاياه المصيرية المطروحة، سيبقى التقارب ما بين «الحقوق الطبيعية» أو «الحقوق الفطرية» و»الإرادة العامة»، التي لا يمكن أن يحركها إلا المصلحة المشتركة والخير العام، محكوما بحركات مد وجزر، حيث كلما تقوت الروح النضالية الصادقة، وكلما ارتفعت القدرة الابتكارية والإبداعية للحكومات المنتخبة ومختلف المؤسسات التمثيلية الرسمية وغير الرسمية في المجتمع، كلما تقلصت المسافة بينهما، وكلما اقترب المجتمع من تأصيل الديمقراطية والمبادئ الفلسفية لحقوق الإنسان الكونية في ثقافته ومعيشه اليومي. هذا، فقد ورد في المرجعية الإسلامية أن خلق الإنسان وإنزاله إلى الأرض ليعمرها، كان أساسه هو دفعه إلى الاجتهاد واستغلال طاقاته العقلانية من أجل اكتشاف الطبيعة وتطوير أسس العيش المشترك في الدنيا، تطوير لا يمكن أن يستمر إلا في إطار نظام مدني، بحقوق مدنية، يجسد مستوى الوعي المجتمعي بمتطلبات العيش المشترك المتجددة والحاجة إلى تطويرها باستمرار. وهذا المطلب أصبح منذ بداية الحياة في الأرض رهانا سعى الإنسان ويسعى دائما إلى تحقيقه بالنضال والعلم. وفي هذا الصدد، ورد في كتابات المرحوم محمد عابد الجابري أن المبدأ الذي تحكم في خلق الإنسان ونزوله إلى الأرض كان أساسه «تعاقد» أو ميثاق التزم من خلاله الإنسان أن لا يعبد إلا خالقه (الله سبحانه وتعالى) مقابل تكريمه واستخلافه في الدنيا (خليفة الله في أرضه). فالآيات المتعلقة بهذا الموضوع تمت تسميتها بآيات «الميثاق» والتي نذكر منها الآية الشهيرة «وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا». كما قام سبحانه وتعالى بنفس الشيء مع الأنبياء والرسل حيث قال: «وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما». وبتأسيس رباني لهذين الميثاقين، بحقوق وواجبات، انطلقت الحياة على الأرض، انطلاقة كان أساسها اعتراف الإنسان بشهادته على نفسه بربوبية الله وحده لا شريك له، وبهذا الشرط يكون قد تنازل لله عن حقه في عبادة أية آلهة أخرى كالأصنام، والكواكب،والملائكة،...إلخ. ومن أجل إبلاغ بني آدم بطريق الهداية والفلاح مقابل تنازلهم عن «حقهم الطبيعي» في عبادة ما شاؤوا مقابل استخلافهم في الأرض، سيكلف الله رسلا وأنبياء بهذا المهام (مهام التأطير والتنوير). بهذه المنطلقات القارة في حمولتها الإسلامية الرمزية، كان المغاربة يعتقدون أنهم سيتقدمون في مسار دعم المكتسبات السياسية في عهد الحكومة الحالية التي يترأسها حزب العدالة والتنمية. فبعد مرحلة التوافق من أجل إنقاذ البلاد من السكتة القلبية (وكان رئيس الفرقة الطبية المنعشة والمنقذة المقاوم عبد الرحمان اليوسفي)، طمح المغاربة بتصويتهم على حزب العدالة والتنمية، على أساس معاركه ومواقفه السابقة، إلى تحقيق الاستمرارية في دعم المسار الديمقراطي بمنطق سياسي جديد يساهم في تأصيل الحق في الحرية والمساواة كأساس لتنظيم العيش المشترك، وتحويل «الاستشارة» (كمرادف للشورى في الثقافة الإسلامية) إلى دعامة ثقافية لدولة الحق والقانون، ولتطبيق الحكامة الجيدة في السياق الثقافي المغربي الحالي، وإلى أساس لتطوير العلاقة ما بين «الحقوق الطبيعية» للإنسان و»الإرادة العامة»، ولتقوية التماسك بين المؤسسات والتنظيمات التمثيلية للمجتمع. عبر المغاربة على انتظاراتهم هاته وهم يعلمون أن الحكامة الجيدة، كمنطق تدبيري راسخ في ثقافة شعوب الدول المتقدمة، تأصلت في الممارسة السياسية لشعوبهم من خلال توسيع الاستشارة والمشاركة والتفاوض والتواصل القوي للحكام مع كل الشرائح المجتمعية في كل ما يتعلق بتدبير الشؤون العامة أو الخاصة. وفي هذا الشأن، عندما يتم استحضار المرجعية الإسلامية، بنصوصها القرآنية وأحاديثها النبوية، يتضح بجلاء كذلك أن التعامل مع مختلف القضايا في سياقنا الثقافي يتطلب موضوعيا تفعيل القيم والمبادئ السالفة الذكر والسعي لتأصيلها شعبيا كما هو معمول به في الثقافات الأخرى. فالشورى في الإسلام حق قرآني للأمة وعليها أن تمارسه بالطريقة الأكثر نجاعة، وبما يتطلبه العصر، فهي واجبة على الحاكم وحق للمحكومين، ويجب أن تتم اليوم عبر كل من له صفة تمثيلية. إنه حق مفروض لارتباطه بالحق في الاختلاف، والالتزام بها، كإحدى الصفات الجوهرية عند المسلم، له نفس المرتبة دنيويا كاجتناب الكبائر والقيام بالواجبات. ومن الآيات التي نزلت في هذا الصدد، والتي فرضت الشورى وحرية المعتقد كحقين للأمة (الاعتقاد بالإقناع والاقتناع )، نذكر: * «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله». * «فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون». * «وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». * «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر». * «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ». * «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».