إن انتخاب رئيس، ينتمي لجماعة الاخوان المسلمين و كذا التحايل على الدستور من طرف الجيش، قد أثارا الخوف تجاه توقع الأسوأ بخصوص مستقبل مصر. مع ذلك، بالنسبة لعلاء الأسواني، روائي ملتزم جدا بقضية الثورة وكذا الباحث هنري لورنس أستاذ في مؤسسة ‹›كوليج دو فرانس» وعارف دقيق بواقع الشرق الوسط، فإن المسار الديمقراطي الذي دشن سنة 2011، يمثل طريقا غير قابل للرجوع إلى الوراء. لقد وقعت الثورة، وهي في سعي مستمر ، هذا ماينبغي الاحتفاظ به في عقولنا غداة الانتصار الانتخابي للإخوان المسلمين في مصر، واستفزازات السلفيين التونسيين التي تهدد تحققات الربيع العربي. ولكي نأخذ نسبيا مساحة حيال تطور الأحداث، هيأنا حوارا بين علاء الأسواني وهنري لورنس. الأول، صاحب العمل الشهير «عمارة يعقوبيان» (2006). وأحد المثقفين الأكثر ارتباطا بالثورة المصرية، والذي كان يخاطب كل يوم مليوني مصري، احتشدوا وسط ساحة التحرير.أما الثاني، فيعتبر أ حد المتتبعين الدقيقين لمايجري في العالم العربي. علاء الأسواني، يقدم شهادة بصوته العميق والمؤثر عن حقيقة الهزات الجارية. أما لورنس، فيوظف تحليلا عقلانيا لفهم الوقائع. لكن الإ ثنان، يتفقان حول الأهم كي يعلنان إلينا ، أنه بالتأكيد لم نلامس بعد أي شيئ، والمستقبل يضمر ربما الأفضل. علاء الأسواني : انتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية، تم تحت مراقبة جيش يملك دائما زمام السلطة. ينبغي فهم، أن الإ خوان المسلمين يشكلون حالة نادرة على مستوى الانتهازية السياسية. فمنذ ظهورهم سنة 1928، لم يتوانوا عن بيع أنفسهم للسلطة لقاء الظفر بآلاف الامتيازات، قبل أن يلقى بهم في المزبلة لما تنعدم فائدتهم. هكذا، كان وضعهم مع فاروق وناصر و السادات. حاليا أيضا، لم يترددوا في الرهان على مصلحتهم، ضدا على مصلحة ثورة لم يساهموا فيها. مع ذلك، أعتقد أن المشكلة لاتكمن أساسا في الإسلاميين بل العسكريين. هم الذين، يرسمون اللعبة ويعيدون صياغة قواعد الدستور، وفق مايحلوا لهم. ظننتهم بداية ، أنهم سيعملون مافي وسعهم كي ينجحوا أحمد شفيق الوزير الأول السابق في عهد مبارك ، الذي تلاحقه مع ذلك خمسة وثلاثين سنة فسادا، ونترقب جميعا محاكمته.غير أن، انتصار الإخوان المسلمين، يبرهن بالتأكيد على جوهرية استبعاد النظام القديم.لا شك أنها مرحلة مهمة، فالإسلاميون بوعودهم الوهمية، سيتحملون عبء سطة لن تتأخر في الإساءة إلى سمعتهم. هنري لورنس : نعم، فراغ شعار «الإسلام هو الحل» سيتجلى أخيرا بشكل واضح، لحظة مواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية. فالحكومات الجديدة التي أفرزها الربيع العربي، اصطدمت على الفور بالواقع. لقد كانت سنة 2011 مسرحا لثورة حقيقية، بيد أنها تختلف جذريا عن ماوقع سنة 1789 في فرنسا أو 1917 في روسيا، مادامت لم تستند على أي مشروع طوباوي، بل ولم تسائل من جديد عادات المجتمع وأبنيته. لقد عشنا في واقع الأمر ماأسميه «ثورة محافظة». يتعلق الأمر، بخلق التوافق لأول مرة بين المجتمع والسلطة. تمثل الشعار الأساسي،في «الشعب يريد !». وبما أن المجتمعات العربية إسلامية، فنجاح الإخوان المسلمين والإسلاميين بشكل عام، يستند أولا على هذا التوافق غير المسبوق بين الشعب والدولة. دون نسيان ،أن الإسلاميين شكلوا المعارضة الأساسية لمبارك، والذي اضطهدهم. إنها إذن لحظة تنتمي ل» الإ خوان المسلمين» . لكنها ليست إلا مرحلة من تطور سيتواصل امتداده بلا توقف. علاء الأسواني : بخلاف أغلب أصدقائي المثقفين، كنت مقتنعا أن مصر ستعرف ثورة. لكن حينما حدثت، تملكني الاندهاش ! لقد دعا بعض الشباب إلى التظاهر في ساحة التحرير خلال ذلك اليوم أي : 25 يناير 2011. وقلت مع نفسي، سيكون الأمر كالمعتاد مجرد تظاهرة صغيرة. لذلك، قبل أن أذهب إلى عين المكان ارتأيت أولا الانكباب على إ نهاء فصل من روايتي الجديدة. لكن، عندما وصلت الساحة مع بداية المساء، لم أصدق مارأيت : تقريبا، تجمع لما يناهز مليوني مصري ! مع الساعة الواحدة صباحا، أقدمت الشرطة على رش الساحة بالغاز.التجأت صحبة ثلاثين من الشباب إلى الاختباء داخل فناء عمارة، وقلت لهم : ((لقد كانت تظاهرة جيدة، لنلتقي ثانية غدا لكن في مكان غير ساحة التحرير،كي نموه الشرطة )). غير أنهم اعترضوا على كلامي بحدة : ((لا، لن نعود إلى منازلنا، سنظل هنا ! )). بل،تناول أحدهم الكلمة : ((أبلغ من العمر 29 سنة،أنا عاطل عن العمل،وليس في مقدوري الزواج.أنا، بلا قيمة تذكر ومستعد للموت في سبيل الإ طاحة بمبارك)).ثم انفجر نحيبا. حينئذ، أدركت بأنها ثورة، وكل شيئ أضحى مهيأ كي يأخذ أقصى احتمالاته. هنري لورنس :مثل باقي الجميع، لم أكن أترقب شيئا.كمؤرخ،عجزت عن التكهن بالمستقبل .بالتالي ماذا أفعل في الجامعة، وينبغي أن أكون في البورصة. تبقى الإشارة، أني علقت في مناسبات عديدة على التقرير الأخير لبرنامج الأمم المتحدة?حول التنمية في العالم العربي الصادر سنة 2009. سواء تعلق الأمر، بنسبة الأمية أو الانخفاض المفاجئ لمعدلات الولادات? ابتداء من سنة 1995، وتطور البنيات المجتمعية وارتفاع مؤشر التنمية البشرية ? كلها معطيات أظهرت غياب أي تنافر بين المجتمعات العربية والديمقراطية. بل هناك هوة? بصددالاتساع بين الدولة /المجتمع والأنظمة السياسية. لهذا?فإني أشبه الربيع العربي بزلزال جيولوجي : لقد تراكمت المواد الطاقية? وبقيت تحت ضغط شديد ثم تحررت فجأة. لذا?جاءت تضحية التونسي محمد البوعزيزي، بمثابة الهزة الارتدادية القوية التي خلقت مفعولا أوليا? أدى إلى سلسلة تفاعلات جرفت كل شيئ في طريقها. لكن حتى أكون صادقا وعلى غرار أغلب التحليلات، فإني أموضع مسألة الارتقاء الديمقراطي، في أفق سنة 2030. علاء الأسواني : إنه حظ كبير، أن تعيش ثورة. هي تجربة فريدة وخالدة. سالفا? حينما كنت أتكلم عن الموت، لم يتجاوزالمفهوم بالنسبة إلي إمكانية مجردة وفكرة بعيدة الخطر.لكن، خلال ثلاث مناسبات، شاهدت أشخاصا يموتون أمامي. ذلك أن قناصة مبارك كانوا يطلقون الرصاص عشوائيا أثناء الليل يكتسحون الساحة بأشعة الليزر-صوب الرؤوس.مع هذا السياق ينتقل الموت من مستوى الفكرة إ لى شيئ تعيش معه. وأتساءل : لماذا الأشخاص، عوض التراجع يواصلون زحفهم أكثر فأكثر؟لم يكن وضعا عاديا. لكن ذات يوم، حينما عدت إلى عيادتي باعتباري طبيبا للأسنان حيث أعقد كل ظهيرة ندوة صحافية صادفت مقالة نفسية نبهتني إلى أنه في خضم ثورة ما تحل النحن محل الأنا بحيث يتوقف الشخص عن الاهتمام بأمنه الذاتي ويعيش مثل عضو داخل جماعة .الحقيقة الوحيدة التي تصير معتبرة لديه، تتجه نحو الاهتداء بالحركة الثورية إلى غايتها. لقد استعملت دائما كلمة «شعب» لكن فقط خلال تلك الثمان عشرة يوما فهمت دلالتها الجوهرية .لقد توحد بساحة التحرير. هنري لورنس : هناك شعار ناصري تردد ثانية صداه في ساحة التحرير.» إرفع رأسك» ! لكنه أخذ دلالة مختلفة : خلال حكم ناصر تعلق الأمر بالكرامة الوطنية في مواجهة الاحتلال الأجنبي .بينما سنة 2011 فقد انطوى على كرامة كل واحد في علاقته بالدولة. علاء الأسواني : كان المصريون مرضى على المستوى الاجتماعي. لأن العيش في كنف سلطة ديكتاتورية يعتبر واقعا مخالف للطبيعة.ولأني طبيب أدرك أن فترة مرضك ستعاني جميع أعضائك اختلالا في توازنها.لكن مع الثورة تجلت الطبيعة الحقيقية المتسامحة للمصريين : لقد ضمت ساحة التحرير أقباطا ومسلمين يحمي بعضهم البعض الآخر وتمكن النساء من النوم في الساحة بكل طمأنينة. في السابق، كنت أتحسر عن عجز المصريين كي يشتغلوا بكيفية جماعية. فجأة رأيتهم ينظمون أنفسهم على مستوى توفير المواد الغذائية والأمن وكذا الإعلام....وبعد سقوط مبارك شرع آلاف الأشخاص ينظفون الشوارع بينما كانوا فيما مضى يلقون بالقمامة كيفما اتفق. مما يعني أننا الآن ننتمي إلى بلدنا ويجب أن تكون نقية. لذلك فالبعد الحالي للصراع السياسي ليس منتهى الأشياء: لقد حدث التغير على مستوى أكثر عمقا. هنري لورنس : أخبرني صديق مؤخرا. أنهم كانوا في خضم ثورة حقيقية ?لأن رفض السلطة قد لامس مجموع المجتمع : العلاقات الأسروية والمقاولات والقرى. بعد أن هدأ شعار «الشعب يريد» أضحى اليوم بوسعهم القول»أمتلك حق». من هنا ظهور فريق لاستباب النظام، لأنه كيف يترجم المعطى الجديد إلى مقتضى سياسي؟ الأمر معقد لكنه تطور مثير بدأ للتو. علاء الأسواني :لقد وجدت نفسي ذات يوم في مواجهة أحمد شفيق خلال ندوة تلفزيونية. خلال لحظة من اللحظات فقد أعصابه وتوجه إلي قائلا :((لكن من أنتم؟)) .السؤال الضمني هو :(( كيف تتجرأ على أن توجه إلي أسئلة؟)).فأجبته : ((أنا مواطن مصري ومنذ اليوم فلكل مواطن الحق في أن يحاسبكم ، لأنكم تشتغلون عنده)). ازداد حنقه . يبدو بديهيا، أني وضعت أصبعي على عمق المشكلة . فيما بعد، سيؤاخذ علي البعض سلوكي :(( إنه في مرتبة أبيك . فكيف سمحت لنفسك مخاطبته بتلك الطريقة؟)). لا. إنه ليس أبي، وينبغي لنا التخلص من هذه الرؤية الرجعية. هنري لورنس :ماتأكد في الواقع، أن الحرية هوية المصريين . لقد امتلكوا بأنفسهم هذه الثروة ، المتمثلة في الديمقراطية ولم تفرض عليهم من الخارج. تشير دلالة الربيع العربي، إلى كونية حقوق الانسان . فهي ليست امتيازا غربيا، أبدعه الأوروبيون فقط خدمة لمصلحتهم الشخصية. وقد فوجئت، وأنا أتابع نمو الرؤى النقدية التي تزايدت أخيرا، ليس فقط في تونس أو مصر، لكن أيضا في بلدان الخليج. إنه وضع جديد كليا ،فلأول مرة بدأنا نسمع خطابا من قبيل : (( ركائز الإسلام خاطئة)). علاء الأسواني : ينبغي إدراك، أن النزعة الاسلامية، بمثابة طعم خارجي. لقد كانت جدتي مسلمة، ورعة، لكنها تصوت لأكبر حزب سياسي خلال حقبتها، وقد كان علمانيا دون أن تتصورأبدا أن الدين يختلط بالسياسة. الإسلام لم يحدد شكل الدولة، لكنه وضع مبادئ عامة للعدالة. ماحدث، أنه بعد حرب 1973 اضطر أغلب المصريين إ لى الهجرة نحو السعودية قصد العمل، بحيث عوملوا مثل كلاب. ولكي يحتفظوا لأنفسهم بقليل من الكرامة، فقد تبنوا الإسلام القروسطي للوهابيين . ثم عادوا ، إلى البلد بمفاهيم رجعية جدا لاسيما فيما يتعلق بالمرأة. لكن من وجهة نظر الثقافة المصرية، فالأمر خال تماما من أي معنى. هنري لورنس : إ لى غاية سنوات 1990 روج الإخوان المسلمين، لرؤية تناهض الحداثة، والتي بحسبها فالقيم الديمقراطية ترتبط بمؤامرة غربية ، في إ طار أهداف الحملات النابولية التي تتوخى تقويض الثقافة العربية الأصيلة. والحال، إذا كان هذا الخطاب لازال يتقاسمه الجيل القديم، الذي تنحدر منه أغلب الرموز الحالية، فقد تراجعت هيمنته شيئا فشيئا. لأن أغلب المفكرين الإسلاميين، انخرطوا حاليا في محاولة التوفيق بين الإسلام والحداثة. بوسعهم، في هذا المجال الاستناد على عمل إصلاحيي نهاية القرن التاسع عشرة، مثل محمد عبده، الذين أنجزوا قبل ذلك انتقال السياسة المعاصرة إلى صيغ الإسلام. لكن مرة أخرى، فالأساسي هو : « الشعب يريد». ضرورة ، ينبغي أن يجيب عنها الحكام، كيفما كانت ألوانهم وأطيافهم. واقعيا إذا كان الانطلاق الاقتصادي، يمر عبر السياحة ، فلا يوجد إذن من خيار ثان غير التساهل مع محلات بيع الخمر والسماح للنساء، كي يخرجن إلى الشارع بأذرع مكشوفة. في تونس كما مصر ، لاتعتبر الشريعة مطلبا راهنا. استفزازات السلفيين، يمكنها بالأحرى أن تلزم الإخوان المسلمين المتواجدين في السلطة، على إعادة تمركزهم. علاء الأسواني : كنت في الواقع مندهشا جدا، لما استدعاني الإخوان المسلمين كي أتكلم عن روايتي « شيكاغو››(2007). استعصى علي، تخيل أن الأمر يتعلق حقا بالأدب.غير أنه، حقا كذلك. لقد كانوا أبناء شخصيات تنتمي لتيار الإخوان المسلمين :هم ، لم يختاروا قدرهم . آمنوا بالرؤية الليبيرالية، وبالفعل تعاشر كثير منهم معنا في ساحة التحرير. هنري لورنس : لكي نحيط جيدا بالربيع العربي،يتحتم علينا التوجه إلى المستقبل. لأن التاريخ يعلمنا،أن الأحداث الجوهرية تشكل الذاكرة الجماعية لجيل بأكمله. نستحضرماي 1968 الذي لازال إلى الآن يثير السجالات. وهذا هو الجوهري. فالجيل الذي خلق الثورة العربية، سيبقى إلى غاية 2050. ستكون هناك ارتدادات ومقتضيات متعارضة، ثم مسارات سريعة، لكنها ستحيل دائما على تجربة 2011. لقد ميز»بيغي» فيما يخص قضية دريفوس Drefusبين الرمزي والسياسي. الصراع من أجل العدالة، يمثل الرمزي الذي تدهور حتما مع السياسي. لكن الرمزي لا يختفي قط. لديكم دائما قدامى قضية دريفوس، كإشارة فقط لهذا الموضوع. علاء الأسواني : أنا متفق . إذا ناضلت وحزنت جدا، فلأنه بدا لي أن الثورة المضادة قد قضت على الطموح الثوري لسنة 2011. مع ذلك، يأخذ تفاؤلي الشديد مدى طويلا. المهم حدثت النقلة ،وما يتجلى حاليا من خوف حيال التغيير يعتبر أمرا واردا . إن الثورة، تنتمي إلى المستقبل. هنري لورنس : نقطة أخيرة، يبدو لي على الأقل أن التعتيم يحتل لدينا أيضا مساحة كبيرة . نعيش حاليا في أوروبا وأمريكا الشمالية انتشارا واسعا لأسلاموفوبيا مرعب ، بحيث أظهر الربيع العربي في قسم منه خطأ تلك الأطروحات . ولكي نعبر عن هذا التصور بطريقة أخرى، نقول أن يناير 2011 قد محا شتنبر 2001. فاعتداء إسلاميي القاعدة ضد القوة الغربية الأولى، كان قد أشعل في المقابل حربا ضد الارهاب، والتي هي مثل كل حرب على الارهاب خلفت خسائر بشرية أكثر من الارهاب نفسه. لكن الربيع العربي، أشارإلى نهاية هذه الوضعية، وبيّن أن المسلمين في غير حاجة إلى ذلك ،فهم قادرون على الصراع من أجل الحرية وليس عدمية التحطيم.وربما سيتفق المؤرخون ذات يوم ،على أن القرن الواحد والعشرين ابتدأ فعلا،ليس مع الاعتداء على مركز التجارة العالمي، لكن مع الربيع العربي.