ربما تفيدنا كثيرا إعادة قراءة مؤلف «جيرمينال»، للأديب الفرنسي إميل زولا، وهو المؤلف الذي وصف وحلل وشخّص الثورة الأولى في أحد مناجم الفحم في شمال فرنسا، والتي كانت الشرارةَ الأولى لسلسلة طويلة وعنيفة من ثورات العمال في فرنسا نهاية القرن ال19. ما يفيدنا في هذه القصة ليس طبعا الحدث السياسي والتاريخي بعينه وإنما ذلك الوصف الإنساني والسيكولوجي والأدبي الرائع الذي وصف دورة الثورة وسلوكها الفردي والجماعي ومكوناتها، الممتزجة ما بين نبل الحدث وقبح الأحداث... حيث اختلطت وتختلط -في كل الثورات- إرادة الحرية والقدرة على التدمير ويمتزج الهدم بإعادة البناء وتغرف الأخلاق ألوانها الوطنية الجديدة بعد الفراغ الوجودي والميتافيزيقي وتمتلئ السعادة بالحزن ويرتشف الأمل من ينبوع الخوف... ليست إحالتي على إميل زولا من وحي الاعتباطية وإنما هي لرجوع ضروري إلى الأدب، لأن لحظة الثورة أدبية في وقعها، وهناك شيء من الشاعرية عبّرت عنه كل الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع الأنترنت عن ثورتي تونس ومصر، وصور كل ما يجري في العالم العربي، حيث تعابير وتقاسيم ملامح الثوار تفيد بشيء لا عبثي إطلاقا وإنساني إلى درجة كبيرة، وهي الرغبة في الحرية. ولا يفيد الاقتصار على وسائط الإعلام الإخبارية واقع الإحداث الحقيقية، في عمقها التاريخي والإنساني، حتى ولو كانت التغطيات حية ومباشرة، لأننا نشتاق إلى معرفة ما عاشه الإنسان التونسي والمصري اللذين كانت ثورتهما انعتاقا سياسيا بوقع نفسي كبير. وهو الوقع الذي سيكون بمثابة الطين الذي يبني به الإنسان التونسي نفسه على ركائز الثقة في الذات وفي المستقبل، حيث إن أهم محصلة للثورة هي الإحساس الفردي والجماعي بمسؤولية امتلاك الحاضر والمستقبل، مع الإحساس بوخزات التحديات وملذات رفعها بشكل جماعي وديمقراطي. ولم أتملاك نفسي عن التعبير عن إعجابي بوصف بسيط وحكيم لأحد سكان أرياف منطقة «سوهاج» في مصر، عندما قال إن النيل، بعدما يهدم بهيجانه كل شيء من حوله، يترك للمصري الفلاح البسيط مخلفات الطمي، ليعيد ترتيب زراعته حتى تستمر حياته... وأظن أنه سيبقى للنيل نفس البعد الطوطمي (Totémique) كمركب رمزي ووطني قوي يفيد لإعادة بناء مصر بعد الثورة وانتهاء آخر حلقة من مرحلة حكم الضباط الأحرار. خلال المناظرة التي أجرتها جريدة «لوموند» الفرنسية في عددها ليومي 20 و21 فبراير (عدد 20553) حول ما أصبح المؤرخون يسمونه «الربيع العربي»، بعد ثورتي تونس ومصر وامتدادهما إلى العديد من الدول العربية، تمت دعوة ثلاثة مؤرخين فرنسيين، وهم سيلفي أبريل وبيير هاسنير وهنري لورنس. إلى مناظرة استندت على التحليل التاريخي المقارن لأهم الثورات التي عرفها التاريخ السياسي، بدءا من ثورة 1848 ومرورا بثورة 1988 وسقوط جدار برلين وانتهاء بثورة يناير وفبراير 2011 في تونس ومصر. لن أشير إلى مجمل ما دار من نقاش فلسفي وتاريخي حول مفهوم الثورة وأبعادها السياسية وما ترتب عنها طيلة العهد السياسي الإنساني الحديث (منذ الثورة الفرنسية إلى اليوم)، لكنْ يبقى أهم ما جاء في هذه المناظرة هو الإشارة إلى السمات المشترَكة لكل الثورات السياسية الحاسمة، فإلى جانب الإقرار بأهمية دورة وحركية التاريخ السياسي -على منهاج ابن خلدون- بوصول كل نظام إلى مرحلة الاكتمال والتسلط، بالوصول إلى مرحلة النكوص والاضمحلال، من جراء وقوف كل حركية في إبداع وتفنن وتوازن السلطة، تم التذكير بمدى رونق وراهنية التحليلات المادية الجدلية التي لم تكن الفلسفة الماركسية سوى أحد تمظهراتها، وهي التحليلات التي تفيد ب«حركية التاريخ، بالاستناد على حركية الجدل ما بين دورة الإنتاج ودورة السلطة، حيث يدفع السعي إلى التوسع في امتلاك مواقع الإنتاج إلى اكتساح العالم السياسي، وهذا حال البورجوازيات الناشئة التي كانت تواقة إلى رفع الحصار الاقتصادي والسياسي عليها، وهي الطبقات التي مولت وأطّرت، فكريا وسياسيا، أشد الثورات بطشا بالعالم الفيودالي الأوربي توفر كل نظام شمولي على متناقضاته الداخلية، وهو ما يفيد من الناحية البنيوية -على حد تعبير ميشيل فوكو- بوجود مقومات تغيير داخلية. وكم يكون التغيير صداميا واستئصاليا عندما لا تتوفر هذه الأنظمة الشمولية على وعي ذاتي بمتناقضاتها الداخلية، لكي تحتويها، وهو ما يفسر كذلك رجوع بعض الأنظمة الشمولية «الذكية» إلى إعادة توازنات دقيقة ومحدودة، لإعادة ترصيص هذه المتناقضات الداخلية. لكن، وحتى لا نتوغل كثيرا في الشروح ذات النفحة الماركسية، تبقى أهم خلاصة خرجت بها المناظرة هي التي قدمها هنري لورنس، والتي تناولت المعنى الإنساني لهذه الثورات، حيث أكد أن العوامل المشترَكة والحاسمة ما بين ثورتي 1848 و1989 وثورات 2011 هي إحساس الشعب بعدم الانتماء إلى نظامٍ فقَد كل مصداقية وطنية وأخلاقية، وهو نفسه الإحساس الذي تم تقريبا التعبير عنه باللافتات والجداريات التي زينت جدران تونس ومصر، والتي كان توجهها واحدا، هو رحيل «الرئيس» وإسقاط نظامه الفاسد. ليس يهم كيف وصل ومن «همس» في آذان الشعبين وما هي قرائن وصكوك الاتهام... المهم هو وصول مصداقية النظامين الرئاسيين المخلوعين إلى موتهما (ربما الذاتي) بعد أن استنفذا كل أشكال الشطط والفساد والتسلط. الإيديولوجيا ودورها في تحريك الوعي لا أشاطر كثيرا رأي من يقف موقفا مضادا ومعارضا للإيديولوجيا وينفي دورها في تحريك الوعي بالثورة، فكل الكتابات التاريخية والفلسفية التي تناولت البعد السياسي لمفهوم الإيديولوجيا وقفت أصلا عند حتميته التاريخية. فالإيديولوجيا هي من يبرر السياسة وممارستها، وبالتالي، تظل محركا فكريا للتغيير والمطالبة به. ونقد الإيديولوجيا -كما نقد التاريخ- لا يشفع في تصفيتها وعدم الاعتراف بوجودها، لكن النقد الإيديولوجي، بالمقابل، يعطي معنى للسياسة في بعدها المناوراتي والتكتيكي. ومن لا «يغربل» الممارسات والخطابات السياسية على محك الإيديولوجيا، فإنه كمثل من يأكل في طبق لا يرى مكوناته... فقبل الانتقال إلى التعرف على المعالم الإيديولوجية لما يقع اليوم ضمن «الربيع العربي»، علينا الوقوف -ولو قليلا- عند ما يميز الخطاب الإيديولوجي أو عند مميزات البحث و«الاستثمار» في الشرعية. والخطاب الإيديولوجي، ولأنه مشغول بحشد الهمم وتأطير الناس، تجده أكثر التزاما وانضباطا بالبحث في الشرعية. والشرعية موجودة في خطاب الأنظمة وخطاب الثوار معا، وبالتالي فالخطابان إيديولوجيان، ولو كان الأول نقيض الثاني. فإذا كان حسني مبارك وبن علي ونظاماهما قد استثمرا جهدا كبيرا في ترسيخ شرعية «الجندية» والدفاع عن أمن البلاد، باعتبارهما نظامين عسكريين فرضتهما أجندة صراع المعسكرين الشرقي والغربي، فإن الثوار عليهما قد نقبوا واستثمروا في خطاب الشرعية كذلك، فإلى جانب شرعية ما يسمى «إرادة الشعب»، تم تطعيم خطاب الشارع وتغذيته. عند النظر في تطورات السياسة وتفاعلاتها في مرحلة ما قبل ثورة الشباب المصري (25 يناير الماضي) نجد جملة من الإشكاليات التي لم يكن قد تم حسمها بعد، أبرزها مدى شرعية بناء النخبة الحاكمة التي كانت تتم في إطار نخبة الدولة، بمؤسساتها الحاكمة المرتبطة بشرعية ثورة 1952، فخلال العقود الستة الماضية، استطاعت أن تدشن تراثاً للنظام أحادي التمثيل تجرى التفاعلات السياسية داخله بعيداً من أي قوى سياسية أخرى. وقد خلق استمرار هذا الوضع جملة من التقاليد السلبية أوجدت حالة من الاحتقان داخل المجتمع وقادتْه، في النهاية، إلى ثورة الشباب، من بينها: أولاً: إن هذا الميراث خلق شعوراً لدى نخبة الحكم بأن الشرعية هي من تصكها وبأن الدولة، بمؤسساتها ونخبتها، هي من صناعتها وكل من يخرج عن هذا فهو «غير شرعي». ثانياً: تعمد النظام العيش في «عباءة» التنظيم الواحد الذي جاءت به «ثورة يوليو»، حتى مع وجود الأحزاب السياسية التي تعمد في وجودها إلى أن تكون «ديكوراً» بتقييد الإجراءات القانونية والأمنية، فممارسة السياسة والشرعية تتم داخل الحزب الحاكم وما دونها لا يحقق هذه القيمة. وقد ساعد على إخراجها بهذا الشكل ممارساته القمعية، سواء محاصرتها داخل مقرها فقط أو إسقاط مرشحيها في الانتخابات، باصطناع انتخابات شكلية يستخدم فيها التزوير، حسب حاجة التنظيم. ثالثاً: أدت هذه الهيمنة لنخبة الحكم إلى قتل العمل السياسي الفعال، مما ساعد على فراغ وتغييب سياسي استغلتهما، بشكل كبير، التيارات الإسلامية، خصوصاً «جماعة الإخوان المسلمين»، في نشر أفكارها واستقطاب تابعين لها، وباتت وجهاً آخر موازياً للحزب الحاكم المهيمن، في شكل هيمنة دينية وانغلاق رؤيتها وسلطوية الفرد داخلها، سواء كان في محورية دور المرشد فيها أو تأثير القادة التأسيسيين، في عقلية أتباعها، أمثال حسن البنا وسيد قطب. رابعاً: مع بداية القرن الحالي، برزت متغيرات جديدة لم تألفها الدولة الوطنية المصرية، خصوصاً في ما يتعلق بعمليات انتقال السلطة، ففي فترات حكم كل من الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، كان هناك نوع من الاطمئنان النسبي إلى هذا الأمر، بحكم عاملين، أولهما السن، حيث إن عمر الرئيسين في نهاية فترة حكمهما كانت 50 سنة لجمال عبد الناصر و60 سنة للسادات. ويرتبط الثاني بكون الرئيسين كان لديهما نائب للرئيس، وهو ما كان يستبعد أن يحدث فجأة انتقال للسلطة من رئيس إلى آخر... كانت مثل هذه الظروف قد غابت عن الرئيس مبارك، سواء من حيث السن، الذي تقدم فيه، أو من حيث تعمده تغييب منصب نائب الرئيس، مع دفع نجله في مناصب داخل الحزب الحاكم، سواء بإنشاء لجنة السياسات التي كانت هي «الدينامو» المحرك، ليس للحزب فقط، وإنما للتغيرات المرتبطة بالسلطة التنفيذية، من وزراء و مناصبَ أخرى مهمة داخل مؤسسات إعلامية بدأت تأخذ مواقعها من خلال تواجدها فيها، وهي نفس الإشكالية التي نلمسها في «خطاب المقاومة»، الذي قرأه العقيد معمر القذافي، معلنا «ثورته على الثورة»، على محك انعدامية شرعية ثورة الشباب، لأنها لا تساوي شيئا أمام ما تكتنزه «قيمة» النظام من «شرعية تاريخية» مناهضة للاستعمار ومقاومة للغرب وموحدة للقبائل ومحافظة على بترول البلاد... كما أن فتاوي القرضاوي والريسوني وغيرهما من أئمة الإسلام هدفها إيديولوجي أيضا، هو منح الشرعية الدينية للثورة، كورقة حاسمة في تغليب كفة الثورة والثوار على هذه الأنظمة. كما أن قناة «الجزيرة» بدأت تلعب -هي أيضا- على وتر الشرعية، من خلال منح الثورة في ليبيا- وكما فعلته سابقا في تونس ومصر- على شرعية الصورة وشرعية الرأي وتغذية فكر الثورة، للحفاظ على وتيرتها والوقاية من نكوصها حتى تكتمل. الثورة والأنترنت كنتُ، دائما، من بين الذين لا ينجرّون بسهولة إلى اعتبار أن الأنترنت هو الذي قام ب«الثورة» في تونس ومصر وليبيا. وبالفعل، فالأنترنت كانت وسيطا نافعا وحاسما في العديد من الأحيان، لكن فعل الثورة يظل فعلا سياسيا بامتياز وليس تكنولوجيا. وحتى الخطابات والصور والرسائل والدعوات المبثوثة على «فايسبوك» و«تويتر» كانت رسائل وإشارات ذات حمولات سياسية. والأنكى من ذلك هو أن إعادة بناء تونس ومصر اليوم، سياسيا ودستوريا واقتصاديا واجتماعيا، لا يقوم في الأنترنت ولا تحسم فيه صالات الدردشة وإنما يحدث في ردهات المؤسسات السياسية بين الفاعلين السياسيين الإصلاحيين. لقد لعبت الأنترنت دورها «التحريضي» من أجل التحرك والتجمهر، لكن العملية الإصلاحية الحقيقية تبنى على واجهة الوعي السياسي واليقظة الإستراتيجية وليس على واجهة المهارات الإلكترونية في خلق المنتديات و«البْلوغات»... يمكن للشباب أن يتفق على أن يخرج في يوم كذا أمام محطة القطار على الساعة كذا... ويمكن أن يسهل الأنترنت، كثيرا، تنظيم هذه المواعيد وحشد آلاف الشباب للوفاء بالمواعيد، لكنْ إذا غابت الرؤية السياسية لدى الشباب، ستصبح المطالب السياسية حينها «معتمة»، وبالتالي، سيكون فعل الثورة فعلا عرضيا في الزمن. يمكن أن يبلور الشباب خطابا إيديولوجيا منقولا عبر الأنترنت، في إطار تواتر الخطابات وتبادلها ومحاكاتها مع الآخر، لكنْ إذا نقصها العمق السياسي ونقصتها الجدوى والراهنية السياسية ونقصتها الإيديولوجيا -التي تلعب دور تحصين المطالب والخطاب- فإن خطاب الشباب الثائر يتحول إلى كلمات متقاطعة ليس فيها رابط سياسي، وهو ما يجعلها خطابات غير نافذة...