القضايا التاريخية والمنهجية التي يطرحها تاريخ الزمن الراهن بالمغرب طرح تاريخ الزمن الراهن في المغرب إشكالات تاريخية و منهجية جوهرية، فأغلب كتابات الباحثين المغاربة اعتمدت على الدراسات النظرية حول الموضوع، خاصة التي تنتمي إلى المدارس التاريخية الأوربية، و حاولت مراعاة خصوصيات تاريخ المغرب الراهن. فقد ساهمت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في تنبيه الباحثين المغاربة إلى أن تاريخنا السياسي الراهن لم يقرأ بعد بما يكفي من الموضوعية و الرصانة، و لم يقع بحث جدي في الديناميات العميقة التي صنعت وقائعه . لكن الزمن الراهن بالمغرب يطرح قضايا تاريخية يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي، و يطرح قضايا على مستوى مناهج الكتابة التاريخية و مصادر البحث في الزمن الراهن و العلاقة بين التاريخ و باقي حقول العلوم الإنسانية الأخرى، إضافة إلى العلاقة الجدلية بين التاريخ والذاكرة. فعلى مستوى القضايا التاريخية، تطرح مسألة العلاقة بين فترة الحماية و الزمن الراهن، فالمعالجة التاريخية لفترة الحماية حاسمة لأنه من الصعب منهجيا و معرفيا، الانتقال إلى التاريخ الراهن للمغرب دون المرور بمحطة الحماية التي لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، بل من الضروري دراسة مختلف القضايا التي تطرحها، لذا فدراسة هذه الفترة حاسمة نظرا لارتباطها الوثيق مع ما عرفه المغرب من تطورات في المرحلة اللاحقة، إضافة إلى أن العديد من الإشكاليات و المواضيع ظلت دون اقتحام، الشيء الذي يمكن أن نجزم معه أننا مازلنا بعيدين كل البعد عن الإحاطة بهذه المرحلة إحاطة شاملة تمكننا من المرور إلى التاريخ الراهن بكل اطمئنان. إن إشكالية الانتقال المعرفي والمنهجي من الحماية إلى الاستقلال، تعني الانتقال من التاريخ إلى الذاكرة القريبة، فاقتحام الزمن الراهن و البحث في قضاياه يعني فك الارتباط بين التاريخ و السياسة، و هي إشكالية مرتبطة بمجمل الأحداث و الوقائع التي عرفها المغرب خلال العقد الأول من استقلاله و التي لعبت دورا حاسما في تحديد مساره خلال الفترة الراهنة. فقد كان من سمات هذه المرحلة الصراع حول السلطة و النفوذ بين الفاعلين السياسيين على اختلاف مواقفهم و قناعاتهم، الشيء الذي طبع الفترة بالاصطدامات و تصفية الحسابات، مما يدفع الباحث إلى طرح إشكالات تاريخية: فكيف كانت الخيوط التي ربطت بين مكونات الحركة الوطنية بأحزابها و خلاياها المسلحة و تنظيماتها النقابية , ثم كيف ظهرت هذه العلاقات الواهية بعيد الاستقلال حين سعت جهات إلى احتكار الوطنية و المقاومة و إقصاء الرأي الآخر و نسف نضالاته كخلايا المقاومة المسلحة و حزب الشورى والاستقلال و الحزب الشيوعي المغربي . و لماذا لم ينتج المغرب نخبة مغربية قادرة على فرز حركة وطنية أكثر حداثة وجرأة ؟. إن الباحث في تاريخ المغرب الراهن يواجه دائما صعوبة المرحلة و التي تظهر من خلال إشكالياتها المتعددة، من قبيل : لماذا لم يحسم المفاوضون المغاربة مسألة الاستقلال و الوحدة الترابية في حدودها التاريخية خلال لقاءات إيكس ليبان و أثناء المفاوضات المغربية الإسبانية ؟ ثم إلى أي حد يمكن تحميل الاستعمارين الفرنسي و الإسباني مسؤولية ما عرفه المغرب المعاصر و الراهن من أزمات و انتكاسات ؟ إن البحث في تاريخ المغرب الراهن يعني البحث عن سبل مواجهة التحديات التي تواجهها البلاد نحو الديمقراطية و الحداثة و العدالة الاجتماعية و الوحدة الترابية، أي البحث عن الأجوبة الإستراتيجية لتجاوز التحولات المعاقة التي يعرفها المجتمع المغربي، خاصة الانتقال من التقليد إلى التحديث ثم الحداثة، و هكذا فمن الإشكاليات التاريخية التي يطرحها الباحث هي السؤال الثقافي الكبير: لماذا تتردد الأنتلجنسيات المغربية التي تتمثل نفسها حداثية في العبور إلى العصر عبر تبني الحداثة كثقافة و سلوك اجتماعي مجسد لمواطنة مغربية ؟ و لماذا تستمر في استنباط دونية شقية اتجاه الأنتلجنسيات الغربية ؟ فالحاضر في المغرب الراهن بقوة هو البعد المادي للحداثة أي التحديث، أما الحداثة كتصور ثقافي للكون و كممارسة اجتماعية فهامشي. لذلك استطاعت المحافظة كثقافة إعادة إنتاج نفسها بإدماج التحديث في منظومة قيمها بعد أن كانت ترفضه و تقاومه في بداية القرن العشرين (الموقف من التلغراف، السكة الحديدية...). هذا المعطى يدفع الباحث إلى صياغة إشكالية مركزية هي: لماذا لم تتوفق الأنتلجنسيا المغربية الوطنية و الحداثية في إحداث قطيعة مع المحافظة كثقافة و سلوك سياسي ؟ و لماذا تصاب في مسيرتها من هامش الحقلين الثقافي و السياسي نحو مركزيتها بالارتباك والتردد ؟ الشيء الذي ينسيها منظومة قيمها الحداثية و تساهم بذلك في إعادة إنتاج المحافظة. فمن التعقيدات التاريخية التي يفرضها البحث في الزمن الراهن كونه يناقش قضايا مازالت فاعلة في الواقع السياسي المغربي، فالتاريخ الراهن يطرح سؤال بناء الدولة الوطنية و الصراع السياسي بين فصائل الحركة الوطنية حول كيفية تقييم مرحلة النضال من أجل الاستقلال و تحديد الأولويات والأهداف للمجتمع الجديد بعد الاستقلال، و طريقة تدبير المرحلة الجديدة سياسيا، و العلاقة بين أحزاب الحركة الوطنية و المؤسسة الملكية . رغم أن السؤال السياسي يظل حاضرا بقوة في الزمن الراهن، فإن على الباحث أن يطرح أيضا السؤال الاجتماعي و الاقتصادي لمعرفة القضايا الاقتصادية و الاجتماعية للزمن الراهن بالمغرب: فهل كانت حقبة الحماية قوسا في التطور التاريخي المغربي، سرعان ما جاء الاستقلال ليغلقه و تستمر البنية الاجتماعية و السياسية و الثقافية على ما كانت عليه فيما قبل؟ ، أم أن المرحلة الاستعمارية تنغرس في التطور العام للمجتمع المغربي بكيفية لا يمكن معها تجاهل آثارها العميقة في كل مناحي الحياة ؟ ، و ما هو عمق التغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية في مستوى الأسرة و العلاقات بين الجنسين و حضور المرأة في الفضاءات العمومية ؟ و أية علاقات مستجدة مع الآخر في مستويات اللغة و اللباس و المأكل و الممارسات الدينية ؟ و ما الذي حققه المغرب المستقل من أجندة التحديث الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي على مدى العقود الستة من استقلاله ؟ . ساهم تاريخ الزمن الراهن في المغرب في اتساع الدراسات التاريخية حول الموضوع و تطورت منهجيات الكتابة التاريخية، و بات الباحث المغربي في التاريخ الراهن يواجه تحديات كبيرة على المستوى المنهجي و المعرفي، بالإضافة إلى عوائق ذاتية و موضوعية أعاقت أشغاله في حقل الزمن الراهن، و يمكن تحديد كل هذه المعطيات في النقط التالية : أ . مصادر تاريخ الزمن الراهن بالمغرب : أدى الانفراج السياسي بالمغرب إلى ظهور كتابات و شهادات عديدة حول المختفين و المختطفين و الانتفاضات و المحاولات الانقلابية، و حول ظروف الاعتقالات التي تعرض لها اليساريون في الستينات و السبعينات من القرن الماضي، كل ذلك جاء على يد المضطهدين و الضحايا، في حين غابت وجهة نظر المضطهدين و المسؤولين عن الانتهاكات، لذلك فإن الصورة غير مكتملة ما لم تتوفر الوثائق التي تستلزم القراءة المتأنية و تسمح بالمقارنة و الاستنتاج. أضف إلى ذلك مسألة مصداقية الوثائق غير المحايدة في تدخلاتها، فإلى أي حد يمكن تصديق ما صدر عن الأجهزة البوليسية في مخافرها، الشيء الذي يطرح البحث في الأدوات المنهجية التي تمكن من استغلال كل هذه الآثار دون الانفصال عن هوية التاريخ . فالإحاطة بمواضيع الزمن الراهن تتطلب تتبعا دقيقا لمجمل ما كتب خلال هذه الفترة، فإلى أي حد تمت الإحاطة بما كتب في الجرائد و المجلات الصادرة في هذه المرحلة ؟ و إلى أي حد تم استغلال المذكرات الصادرة خلال هذه الفترة، أضف إلى ذلك ما تزخر به الجريدة الرسمية من نصوص و تشريعات، إضافة إلى جرائد المرحلة، أما الرصيد الوثائقي فيتطلب مجهودا ماديا و معنويا من الباحث في غياب أي دعم مؤسساتي، خاصة و أن معظمه مازال محفوظا في مراكز الأرشيف الأجنبية، علما أن الكثير من الملفات محاصرة بقانون يحدد زمن السماح بالاطلاع عليها . ب- مشكل الأرشيف : لم يعمل المغرب على استنساخ أرشيفه أو استرجاعه في الوقت الذي يتوفر فيه على مركز وطني خاص بالأرشيفات المغربية، كما أن الدولة لم تعمل على تجميع ما بحوزة المؤسسات و الأشخاص من أرشيفات، الشيء الذي جعل الكثير منها معرضا للضياع و التلف، خاصة وثائق عائلات القواد، و أرشيفات البلديات، و الشركات، و المستشفيات و الموانئ، و غرف التجارة و الصناعة و الفلاحة، و ما بحوزة الهيئات السياسية و النقابات. و إذا كانت هيئة الإنصاف والمصالحة قد تمكنت من لملمة شتات بعض الوثائق المتعلقة بما يعرف في تاريخ المغرب الراهن بسنوات الرصاص والانحباس السياسي، فإن الكشف عن هذا الأرشيف مازال بعيد المنال، خاصة وأن الدولة وضعت العراقيل للمؤرخين أمام الأرشيفات أو تم تدميرها لإتلاف شواهد الماضي. ج- العلاقة بين التاريخ والذاكرة : فالذاكرة الجماعية هي ما ينتجه شعب معين في حقول مختلفة من رمزيات مادية و معنوية، إلا أن هذه الذاكرة قد تكون تحت وصاية سياسية أو دينية، لذلك فإنها تستحضر أحداثا دون أخرى و تقدم شخصيات و تؤخر أخرى، على عكس الذاكرة التاريخية التي ينتجها المؤرخون تحت سلطة العلم و الولاء للمعايير العلمية، و لا تتحقق هاته الأخيرة إلا بوجود مسافة معقولة بين السلطتين السياسية و الدينية من جهة، و السلطة العلمية من جهة أخرى . لكن رغم ذلك فالذاكرة تطرح عدة سلبيات منهجية، منها: * التوظيف السياسي للذاكرة من طرف الفاعل السياسي. * الذاتية و سلك طريق العاطفة، بينما يطمح التاريخ إلى أن يكون علما تطبعه الموضوعية و التجرد، أما صاحب الذاكرة فينظر إلى الحدث من الداخل، بينما المؤرخ يحاول أن ينظر إلى الحدث من الخارج. * الذاكرة انتقائية: لأن الإنسان لا يتذكر إلا ما يرضيه و يسدل رداء النسيان على ما لا يرضيه. * اعتماد الذاكرة على صورة الماضي في المخيلة، بينما يعتمد المؤرخ على التعليل و التفسير في محاولة لفهم الماضي. * الصراع بين الدولة و الهيئات السياسية والحقوقية على توجيه استعمال الذاكرة الجماعية. ?د- العلاقة بين التاريخ و العلوم الإنسانية (من يكتب التاريخ الراهن) : إن مسؤوليات المؤرخ تحتم عليه فرز الذاتي عن الموضوعي، و الخيالي عن الواقعي، و التحقق من الأزمنة و الأمكنة، و الأشخاص و الوقائع، لكن تناول التاريخ الراهن من طرف علوم إنسانية أخرى كالأنثروبولوجيا، و العلوم السياسية، و علم الاجتماع، و الصحافة، يفرض على المؤرخ التدخل الحذر، لأنه هو المؤهل معرفيا و منهجيا لكتابة التاريخ الراهن، أما العلوم الأخرى فإن ما بحوزتهم من معارف و أدوات منهجية لا يسعفهم ببناء ذلك القدر المطلوب من المعرفة بذلك التاريخ . هذا النقاش يحيل الباحث على العلاقة بين التاريخ و الصحافة، فمقاربة الصحافي تختلف عن مقاربة المؤرخ في معالجة القضايا و الأحداث التاريخية، فالصحفي ينحو نحو الأحداث و القضايا التي تشكل حيزا هاما في اهتمام المجتمع، و كلما كانت هذه القضايا حلقة من حلقات الصراع السياسي، كلما تحولت إلى مادة خبرية أهم ما فيها هو إثارة الانتباه والتفرد بالنشر، و هذا مكمن ضعف المعالجة الصحفية للحدث التاريخي . يمكن القول أخيرا، أن الدراسات التاريخية هي انعكاس للعلاقة بين المؤرخ و حركية المجتمع و سيرورته و حاجته الملحة إلى التاريخ من أجل الانكباب على الأسئلة الجوهرية للفترة الراهنة. فالحاجة ملحة لتاريخ يخترق الحاضر و يطرح أدوات منهجية بديلة و يعالج إشكاليات جديدة و يعيد الاعتبار للذاكرة، لذا فإن اقتحام فترة التاريخ الراهن بالمغرب تدفع إلى التساؤل حول إشكالية تعامل الباحثين مع المادة التاريخية و تحركهم في فضاء خاضع للضوابط الأكاديمية. فهل يمكن اعتبار البحث في قضايا تاريخية معينة، عملية علمية صرفة معزولة عن المحيط الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي، و عن حاضر يفرض نفسه بأشكال مختلفة في عمليات الفحص و التأويل و الكتابة، أو بعبارة أخرى هل لدى الباحثين وظيفة اجتماعية تجعلهم ينجزون بحوثهم دون الانفصال عن انشغالات و هموم المجتمع الذي ينتمون إليه. من هنا يمكن للمؤرخ أن يؤرخ تاريخ الزمن الراهن للمغرب، و لكن بمقاربة تتوخى الكشف عن الجذور التاريخية، و بذلك يكون التاريخ راهنا، وفاعلا في التحول البنيوي للمجتمع. * باحث في التاريخ الراهن