عرفت «المدرسة التاريخية المغربية» تحولا مهما من خلال مواضيعها و مقارباتها و إشكالياتها، حيث برزت في فضاء المعرفة التاريخية المغربية محاولات هامة و جادة لطرق مجالات جديدة في البحث التاريخي: كالتاريخ الاجتماعي، و التاريخ الاقتصادي، والأنثروبولوجيا التاريخية، وتاريخ العقليات، و تاريخ الزمن الراهن؛ الذي يعتبر أحد حقول البحث التاريخي التي بدأ الاهتمام بها من طرف الباحثين المغاربة. لقد ظل تاريخ الزمن الراهن مجالا ترتاده بالأساس دراسات العلوم السياسية، و علم الاجتماع، و الأنثروبولوجيا، و المذكرات، و أقلام صحفية تتفاوت في المهارة و النفس التوثيقي، مما جعل هذه التخصصات هي الأكثر رصدا للتحولات السياسية، و الاجتماعية، و الاقتصادية، و الثقافية، و الذهنية، التي عرفها مجتمع ما خلال تاريخه الراهن. أما المؤرخ فقد بقي اقتحامه لهذه المرحلة محدودا للغاية، خاصة أن تاريخ الزمن الراهن يطرح لحقل البحث التاريخي إشكاليات على مستوى المفهوم، و التحقيب، و المصادر، و البيبليوغرافيا، و المناهج، مع وجود عوائق ذاتية و موضوعية أعاقت اهتمام المؤرخين بدراسة و تحليل تاريخ الزمن الراهن. أما بالنسبة للمغرب، فتاريخ الزمن الراهن، يعتبر مجالا جديدا للبحث التاريخي، ارتبط بالتحولات السياسية التي عرفها المغرب منذ بداية التسعينات و التي تمثلت في الانفراج السياسي و الحقوقي، و تشكيل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان و هيئة الإنصاف و المصالحة، و دخول المغرب لتجربة الانتقال الديمقراطي مع حكومة التناوب سنة 1998، و بداية الحديث عن ما يسمى بسنوات الجمر و الرصاص التي امتدت من 1956 إلى 1999. فأصبح البحث عن ما وقع في زمننا الراهن سؤالا مجتمعيا لمعرفة: ماذا حدث ؟ و كيف حدث ؟ و الفاعلين أيضا في المرحلة، للربط بين ما وقع في الماضي مع ما يعرفه المغرب دولة و مجتمعا من تحولات بنيوية ابتداء من سنة 1912 مع دخول الحماية الأجنبية و الانتقال من التقليد إلى التحديث قبل الدخول إلى زمن الحداثة. هذه التحولات التي عرفها المغرب خلال العقد الأخير من القرن العشرين، دفعت المؤرخين المغاربة إلى الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن، من خلال عقد مجموعة من الندوات و التي كانت عاملا أساسيا لانطلاق ورش تاريخ الزمن الراهن بالمغرب، و ذلك للتفكير و النقاش و تدقيق الإشكاليات و الأطروحات الخاصة بالزمن الراهن، في سياق تساؤلات جوهرية حول وظائف المؤرخ و الإكراهات الجديدة التي تصطدم بها مهامه المعتادة، في محيط وطني و دولي متسم بشتى أنواع المراجعات و التحولات . لذا فكل هذا الاهتمام المغربي بتاريخ الزمن الراهن، يدفع الباحث إلى التدقيق فيه معرفيا و منهجيا لربطه بسياق التحولات المجتمعية و السياسية التي يعرفها المغرب، و تحولات «المدرسة التاريخية المغربية»، على مستوى مواضيعها، و مقارباتها، و مناهجها في البحث في اللامفكر فيه من تاريخ المغرب الراهن . 1. علاقة المفهوم بالتحقيب الزمني : يعتبر مفهوم تاريخ الزمن الراهن من المفاهيم الجديدة التي ولجت حقل البحث التاريخي بالمغرب، و هذا المعطى يضع الباحث المهتم بالزمن الراهن أمام إشكالية التحقيب الزمني لهذه المرحلة، فداخل «المدرسة التاريخية المغربية « هناك توجهان حول تحقيب الزمن الراهن، و هما : التوجه الأول: يعتبر أن التاريخ الراهن بالمغرب يبدأ من سنة 1912، تاريخ توقيع معاهدة الحماية، إلى سنة 1999، و هي سنة نهاية ما يسمى بسنوات الجمر و الرصاص، و بداية الحديث عن العهد الجديد مع تولي الملك محمد السادس عرش المغرب. يعتبر أصحاب هذا التوجه أن سنة 1912 كانت بداية لانتقال المغرب دولة و مجتمعا من التقليد إلى التحديث (البعد المادي للحداثة)، قبل الدخول إلى الحداثة كثقافة و سلوك اجتماعي مجسد لمواطنة مغربية. هذا التوجه الأول يؤكد في كتاباته أن الزمن الراهن يقتضي دراسة فترة الحماية، أي تقديم صورة متكاملة لأوضاع المغرب في فترة حاسمة من تاريخه المعاصر، و تتيح فرصة التتبع و إمكانيات المقارنة بين الماضي و الحاضر بمعنى معالجة إشكالية الاستمرارية و التحول و رصد درجات القطيعة مع الماضي و سمات الازدواجية و مظاهر التقارب أو التنافر بين نمطين مختلفين. ففترة الحماية تضمنت أشكال الانقطاع بقدر ما تضمنت جوانب الاستمرارية، و هذا ما يجعل هذه الحلقة حاسمة في معرفة التاريخين المعاصر و الراهن بالمغرب، فأي تقييم موضوعي لفترة الحماية يستدعي مقارنتها بالفترتين السابقة و اللاحقة. التوجه الثاني : يعتبر أن الزمن الراهن بالمغرب يبدأ من سنة 1956: تاريخ الحصول على الاستقلال، إلى سنة 1999: تاريخ نهاية سنوات الرصاص، و يؤكد أصحاب هذا التوجه الثاني أن دراسة السنوات الأولى للاستقلال أساسي لإحراز تقدم ملموس في دراسة الزمن الراهن، خاصة أن المرحلة أشرت على بداية الصراع بين الفاعلين السياسيين لمحاولة التموقع في صراع السلطة و السلطة المضادة لتدبير شؤون الحكم في مغرب الاستقلال، كما كشفت أيضا على توجهات متعارضة في النظرة إلى طبيعة الاستقلال، و كذا الاختيارات المزمع اتباعها في تدبير مرحلة ما بعد 1956 سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا . من هنا يعتبر الباحثون أن مرحلة 1956-1999 جد غامضة سياسيا و تاريخيا، و معرفة تفاصيلها تعتبر مطلبا قويا للمغاربة لمعرفة ماذا حدث في بلدهم منذ استقلالها حتى نهاية التسعينات من خلال الدعوة إلى البحث في الماضي لفهم أفضل لحالتهم الراهنة. 2. السياق السياسي و الاجتماعي لظهور تاريخ الزمن الراهن بالمغرب : تعتبر فترة التسعينات مرحلة حاسمة في التاريخ السياسي الراهن بالمغرب، نظرا لطبيعة المرحلة الانتقالية التي عاشها المغرب سياسيا و اجتماعيا منذ 1990، و تبوأ قضية دراسة التاريخ القريب للمغرب حيزا ضمن اهتمام المؤرخين لفهم الواقع السياسي المغربي الراهن وحيثياته. عرفت هذه المرحلة مجموعة من التحولات السياسية الدولية و الوطنية، حيث انهار حائط برلين و بدأ الحديث عن العولمة و النظام العالمي الجديد، و أصبح سؤال وضعية حقوق الإنسان سؤالا دوليا. و في خضم هذا السياق الدولي وجد المغرب نفسه في وضع المدافع عن نفسه خاصة أنه عاش خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999 صراعا سياسيا حول السلطة بين المؤسسة الملكية و أحزاب الحركة الوطنية، تميز بالاضطراب السياسي و الاعتقالات، و الاختطافات القسرية، و المحاكمات السياسية، و وجود المعتقلات السرية، و نفي المعارضين السياسيين، مما شكل انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان من طرف نظام الملك الحسن الثاني، و لم يعد هناك مجال للتستر عن كل هذه الانتهاكات، خاصة بعد الدور الذي بدأت تلعبه الجمعيات الحقوقية في المغرب مثل: «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان»، و «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان»، و فضح الصحفي الفرنسي جيل بيرو في كتابه: «صديقنا الملك» لانتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب، إضافة إلى قيام منظمة العفو الدولية سنة 1990 بفضح وضعية حقوق الإنسان بالمغرب، و شنها لحملة دولية من أجل ذلك . هذه المستجدات الدولية و الوطنية دفعت الملك الحسن الثاني إلى إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في 8 ماي 1990، و تم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين و معتقلي سجن تازمامارت في شهر شتنبر - أكتوبر 1991، و إطلاق سراح إبراهام السرفاتي سنة 1993، و عودة الفقيه محمد البصري من المنفى سنة 1995. أما على المستوى السياسي فقد كانت حقبة التسعينات بداية لما سمي فيما بعد بتجربة الانتقال الديمقراطي، حيث بدأ النقاش حول التوافق بين المؤسسة الملكية و أحزاب الكتلة الديمقراطية، و توج كل ذلك بتصويت غالبية مكونات هذه الأخيرة على دستور 1996 باستثناء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، و تم تشكيل حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، برئاسة عبد الرحمن اليوسفي. كل هذه السياقات السياسية ستتطور مع وفاة الملك الحسن الثاني في يوليوز 1999، و تولي ابنه الملك محمد السادس عرش المغرب، حيث ستتأكد رغبة الدولة في إحداث قطيعة مع العهد السابق من خلال الاستمرار في عملية الانتقال الديمقراطي، و التوجه نحو الحداثة، و طي صفحة الماضي، و انتهاكات حقوق الإنسان، فتم الإعلان عن تأسيس هيئة الإنصاف و المصالحة بقرار من الملك محمد السادس، و شكل هذا القرار انعطافا غير مسبوق في رؤية النظام السياسي في المغرب لقضايا الحريات العامة و حقوق الإنسان، و تعبيرا مثاليا عن إرادة تصحيح صورة الدولة لدى مواطنيها و أمام المنتظم الدولي، و إعادة الاعتبار المادي والمعنوي لآلاف المواطنين الذين كابدوا من حقبة القمع لعقود و تلقوا نتائجها الاجتماعية و النفسية المدمرة. ساهمت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في فتح النقاش داخل «المدرسة التاريخية المغربية» حول تاريخ الزمن الراهن، فقد اتجهت توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة خاصة في الجانب المتعلق بالتخصص التاريخي نحو مسألة الأرشيف، و إنشاء مركز لدراسة تاريخ المغرب خلال الفترة ما بعد 1955-1956، و هو الشيء الذي تحقق مع تصويت البرلمان المغربي في صيف 2007 على قانون إطار حول الأرشيف، و تأسيس مؤسسة أرشيف المغرب التي يترأسها الأستاذ جامع بيضا، كما واكب هذه الخطوة إحداث سلك الماستر في تاريخ الزمن الراهن بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط- أكدال، وإحداث دكتوراه في تاريخ الزمن الراهن، و دعم إحداث مركز الدراسات و الأبحاث في تاريخ الزمن الراهن. لم يكن المدخل السياسي هو المدخل الوحيد لبداية الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن بالمغرب، بل إن السياق الاجتماعي كان هو الآخر مدخلا جوهريا لمعرفة حقيقة ما حدث في الماضي لفهم تحولات الحاضر، فقد فتح نقاش مهم داخل المجتمع المغربي حول سنوات الرصاص و تفاصيل التاريخ السياسي لمغرب الاستقلال، و مهما كانت أسباب و أهداف هذا النقاش، فهي دليل على تعطش المغاربة لمعرفة ماضيهم، الشيء الذي يعبر عن وعي تاريخي للمجتمع المغربي، رغم جوانب الألم التي تؤثث بعض فترات الزمن موضوع النقاش، و تظل إثارة قضايا الماضي الأليم جزءا من التحضير للمستقبل. إن النقاش الجاري الآن حول قضايا تاريخية و سياسية وطنية، يعكس حضور المجتمع بكل مكوناته في مرحلة جديدة، فالنقاش حول الزمن الراهن يعلن بطريقة مباشرة و غير مباشرة عن انخراط جماعي و بصوت مسموع في تقييم مرحلة تاريخية قريبة جدا و النبش في الذاكرة الجماعية للمغاربة و الحفاظ عليها. فالانفراج السياسي في المغرب و تجربة جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها هيئة الإنصاف و المصالحة، أكدت الدلالة الاجتماعية للتاريخ الراهن و ضرورة إلغاء الحواجز بين الفضاء الأكاديمي و المجتمع المدني الذي بات يهتم أكثر فأكثر بتدبير و معالجة قضايا تتعلق بالماضي.