ترتبط دولة الحق والقانون في الممارسة الدولية، عادة، بوجود مجموعة من المؤشرات؛ من قبيل ترسيخ الممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وفصل السلطات وتكريس قوة القانون والحكامة الجيدة وتمكين المرأة وفتح آفاق واسعة أمام المجتمع المدني.. ومما لا شك فيه أن الاهتمام بحقوق الإنسان وتعزيزها في شموليتها(المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..)؛ يعد مدخلا مهما على طريق إرساء دعائم هذه الدولة المنشودة؛ بالنظر إلى تأثيراته على مختلف المجالات الحيوية الأخرى. وفي هذا الإطار وضمن التطورات التي شهدها المغرب في مسار حقل حقوق الإنسان وما سمي ب«مسلسل الانتقال الديمقراطي» منذ منتصف التسعينيات، تم إحداث هيئة المصالحة والإنصاف لتأمين طي صفحات قاتمة من تاريخ المغرب الحديث. حيث عهد إلى أحد ضحايا هذه الانتهاكات برئاستها، الأمر الذي أضفى على التجربة دلالة رمزية مهمة. شهد المغرب، خلال العقد الأخير، حركية مهمة، استهدفت تعزيز حقوق الإنسان في سياق تفاعل إيجابي مع المتغيرات المحلية المرتبطة بتنامي مطالب المجتمعين السياسي والمدني في هذا الاتجاه، ومع التحولات الدولية الكبرى التي أفرزها انهيار المعسكر الشرقي وما رافق ذلك من تزايد للاهتمام الدولي بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وهكذا وفي سياق تكييف المنظومة القانونية والمؤسساتية الداخلية مع المعايير الدولية المتعارف عليها في مجال حقوق الإنسان الذي نصت عليه ديباجة الدستور المغربي لسنة 1996، تم إحداث مجموعة من المؤسسات (المحاكم الإدارية، المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وزارة خاصة بحقوق الإنسان، مؤسسة الوسيط، ديوان المظالم وهيئة التحكيم..). وصدرت العديد من النصوص والتشريعات القانونية التي تصب في هذا الاتجاه كمدونة الشغل ومدونة الأسرة.. وفي ظل هذه الظرفية أيضا، قامت السلطات المغربية بالتصديق على مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المرتبطة بهذا الشأن، وباتخاذ مجموعة من التدابير التي استهدفت الحسم مع ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب منذ استقلاله، حيث تم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين كما سمح للعديد من المنفيين بالعودة إلى أرض الوطن.. وكتتويج لهذه الجهود أيضا، تم إحداث هيئة المصالحة والإنصاف بأمر ملكي بتاريخ 7 يناير 2004 كخطوة مهمة من أجل طي صفحات مؤلمة من تاريخ المغرب المستقل؛ وكمدخل لبناء مجتمع «حداثي» وتوفير شروط مناسبة وملائمة «لانتقال ديمقراطي سلس». كلفت اللجنة التي شكلت من نخبة من الناشطين والمناضلين الحقوقيين والمعتقلين السياسيين السابقين، بمهمة مقاربة سياسية للملفات المرتبطة بالانتهاكات الجسيمة التي شهدها المغرب ما بين سنة 1956 و1999، تكفل رد الاعتبار إلى الضحايا وتمكن المتضررين من تعويضات مادية، وطلب منها أيضا تقديم مجموعة من الخلاصات والتوصيات والاقتراحات القانونية والإجرائية، في سبيل الحسم مع هذه المرحلة لتجاوز وتلافي وقوع نفس الأحداث في المستقبل. وتدخل هذه التجربة في إطار ما يعرف دوليا بالعدالة الانتقالية التي تؤمن تحولا سياسيا مرنا وهادئا، وتسمح بمصارحة الذات والتاريخ والعمل على تلافي التجارب القاسية في المستقبل. وتحفل الممارسة الدولية بتجارب متباينة في هذا السياق، كما هو الشأن بالنسبة إلى البيرو أو بعض دول أوربا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وتظل تجربة الهيئة التي ترأسها «ديسمون توتو» في جنوب إفريقيا، التي اجتازت سنوات صعبة وقاسية من نظام الأبرتايد، من بين أهم وأرقى التجارب النموذجية في هذا المجال. وتستأثر التجربة المغربية بمجموعة من الخصوصيات، فإذا كانت الوظيفة الأساسية لمعظم اللجان التي شكلت أو تشكل في مثل هذه الحالات تكمن في خلق معبر مناسب لتجاوز صعاب الماضي والولوج إلى واقع سياسي جديد، ففي المغرب تمت مقاربة الملفات في إطار نفس النسق السياسي والدستوري والإداري.. كما أنه وعلى خلاف مجموعة من التجارب الدولية في هذا الشأن؛ والتي تم الحسم فيها مع مراحل قاسية من تاريخها بمقاربة قضائية، فقد اختار المغرب من خلال هذه الهيئة مسلكا آخر قوامه المقاربة السياسية. وهكذا وبعد إحداثها، قامت الهيئة -الإنصاف والمصالحة- بعقد جلسات استماع عمومية (نقلت مباشرة عبر وسائل الإعلام المغربية المرئية) لفائدة الضحايا الذين قدموا ملفات شكواهم، شكلت منبرا للإفصاح عن المشاعر واستجلاء الحقائق للرأي العام (تحدثوا خلالها عن مختلف مظاهر المعاناة وظروف الاعتقال والتعذيب والاختطاف.. التي مروا منها)، حيث سمح لهم، لأول مرة، بالإفصاح عن معاناتهم عبر منابر إعلامية عمومية كشكل بيداغوجي للتوعية والتحسيس بمختلف أنواع التعذيب والانتهاكات التي مورست في حقهم، من أجل الدفع باتجاه بلورة جهود حقيقية تقودها الدولة والمجتمع معا من أجل تلافي تكرار هذه الممارسات. وعملت على فحص آلاف الوثائق في سبيل الوصول إلى الحقائق بصدد مختلف الملفات المرتبطة بالانتهاكات والخروقات الخاصة بمجهولي المصير والاعتقالات التعسفية ومظاهر التعذيب وسوء المعاملة وإطلاق النار خلال أحداث اجتماعية شهدتها البلاد.. قبل أن تتوج عملها بتقديم تقرير حول عملها للعاهل المغربي، حمل بين طياته مجموعة من المعطيات المرتبطة بالانتهاكات التي مورست في حق العديد من الضحايا من قبيل الاختفاء والدفن الجماعي والتعذيب ومعلومات وافية عن سجون ومعتقلات سرية.. مع تلافي توجيه المسؤولية إلى أشخاص محددين، إلى جانب اقتراح مجموعة من التوصيات التي تكفل منع تكرار هذه الممارسات في المستقبل. لقد خلف إنشاء الهيئة مجموعة من ردود الفعل السياسية والفكرية والأكاديمية، وولد نقاشا جديا حول ملف حيوي كاد يطويه النسيان، بالشكل الذي يعكس أهمية هذه المبادرة. وإذا كانت هذه الخطوة قد لقيت -إجمالا- ترحيبا واستحسانا من قبل مختلف الفاعلين داخل الأوساط الفكرية والسياسية والجمعوية الحقوقية المغربية، فقد صاحبت ذلك أيضا انتقادات مختلفة انصبت على ذكر عدد من السلبيات التي رافقت انطلاقتها وقيدتها بمجموعة من الخطوط الحمراء التي حدت من تحركها وفعاليتها: فهي اختزلت مجمل الانتهاكات في الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، وأقصت مظاهر أخرى من الانتهاكات الجسيمة.. ولم تحدد المسؤوليات الفردية عن هذه الممارسات؛ إضافة إلى أنها لم تستحضر الحقيقة في تسميتها. وعلى مستوى المدى الزمني الذي حصرت فيه هذه الانتهاكات (1956- 1999)، لاحظ العديد من المراقبين أن هناك مجموعة من الممارسات التي وقعت منذ 1999 إلى الآن أيضا(الملاحقة القضائية لبعض الصحفيين بسبب آرائهم، استعمال القوة لتفريق المتظاهرين وبخاصة المعطلين عن العمل منهم، اعتقال العديد من الإسلاميين في أعقاب أحداث 16 مايو وتعريضهم لمعاملات سيئة أثناء استجوابهم..). كما أن المدة التي اشتغلت فيها والمحددة في سنة تظل غير كافية، الأمر الذي عكسه بقاء مجموعة من الملفات خارج التسوية. ومن جهة أخرى، كلفت الهيئة بالاشتغال على ملفات تتلقاها بناء على طلبات مقدمة من المعنيين بصدد التعويض عن الأضرار أو البحث عن مختفين.. ولم تتح لها إمكانية إجراء مبادرات بنفسها بشكل تلقائي من أجل البحث والتنقيب في ملفات خارج هذه الطلبات. وإذا كان البعض قد أقر بأن المقاربة السياسية للملفات انتقصت من مصداقية ونجاعة هذه الهيئة، فإن اتجاها آخر اعتبر أن المحاكمات لن تدفع نحو المصالحة المنشودة بل على العكس من ذلك يمكن أن تترتب عنها مظاهر من الفوضى والانتقام. فيما لاحظ آخرون أن اللجان التي تشكل خصوصا في مثل هذه الحالات تكون وظيفتها الأساسية عادة هي: بلورة مدخل مناسب لتجاوز صعاب الماضي والولوج إلى واقع سياسي جديد، غير أنه في التجربة المغربية تمت مقاربة الملفات في إطار نفس النسق السياسي والدستوري والإداري.. بالشكل الذي سينعكس سلبا على استقلالية الهيئة ويفرض مظاهر من التضييق على عملها. وعلى إثر انتهاء المدة المحددة لعمل الهيئة بموجب نظامها الأساسي في 30 نونبر 2005، قدم رئيس اللجنة تقريرا مفصلا للملك تضمن خلاصات عمل الهيئة؛ إلى جانب مجموعة من التوصيات والمقترحات التي اعتبرت كفيلة بتأسيس واقع مستقبلي لا تتكرر فيه مثل هذه الانتهاكات. وعلى غرار إحداث الهيئة، خلف التقرير بدوره مجموعة من ردود الفعل تراوحت، في غالبيتها، بين تثمين المجهود واعتباره محطة مشرقة في تاريخ المغرب الحديث، مكن من استحضار صفحات صعبة من تاريخه بغية استخلاص عبر ودلالات منها من أجل المستقبل، وبين اتجاه حقوقي وفكري وسياسي لم يمنعه إعجابه بالتجربة من توجيه بعض الانتقادات والملاحظات إلى هذا التقرير، فقد اعتبر البعض أن مقاربة الهيئة للملفات المعروضة بشكل سياسي ودونما عرض المتورطين في قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على القضاء، بذريعة أن من شأن ذلك تشجيع الحقد والفتنة، هي أمر مرفوض، وأشار رواد هذا الاتجاه إلى أنه كان من الأفضل لو حددت مسؤوليات الأفراد في هذه الانتهاكات أولا، قبل إصدار عفو عام في حقهم لاحقا. إن الهيئة تحركت لفتح الملفات بناء على طلبات من المعنيين فقط وليس تلقائيا، وهذا أمر غير كاف لمعرفة جميع الحقائق، مما يجعل العديد منها مغيبا لدى الرأي العام المغربي ومصير مختلف الملفات مجهولا. ومن ضمن الملاحظات التي أدرجت في هذا الشأن أيضا أن هناك حوالي 30 ألف ملف عرضت على الهيئة ولم يتم فحصها، لكونها جاءت خارج المدة الزمنية المخصصة لعمل الهيئة، بسبب ضعف الإعلام والتواصل مع المعنيين والضحايا أو بالنظر إلى عامل الأمية أو بفعل التحفظ في البداية على عرض الطلب نتيجة لعدم الثقة في مبادرات تقودها الدولة بهذا الصدد.. وأمام تغييب المسؤوليات الفردية في هذه الانتهاكات ووجود حالات كثيرة من الاختفاءات القسرية التي ظلت معلقة.. تكون الهيئة قد قدمت جزءا من الحقيقة فقط. الأمر الذي يجعل ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود، مفتوحا ويتطلب مقاربة أكثر شمولية وديمقراطية. إلى جانب مقترحاتها بشأن جبر الضرر وإنصاف الضحايا عبر تعويض مادي وتأهيل صحي واجتماعي، خلصت الهيئة في تقريرها النهائي إلى بلورة مجموعة من التوصيات التي اعتبرتها ضرورية لبناء الثقة في حكم القانون واحترام الحقوق ولضمان استراتيجية كفيلة بمنع تكرار نفس الممارسات مستقبلا، من قبيل ضرورة: «دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني وقرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة وتعزيز مبدأ فصل السلطات».. وإقرار وتطبيق استراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب، وربط توطيد دولة القانون بنهج إصلاحات في مجالات الأمن والعدالة والتشريع والسياسة الجنائية. حيث أوصت في هذا الشأن ب»الحكامة الأمنية وتقوية استقلال القضاء وإعادة تأهيل السياسة والتشريع الجنائيين التي تقتضي تقوية الضمانات القانونية والمسطرية ضد انتهاكات حقوق الإنسان مع تفعيل التوصيات الخاصة بالكشف عن الحقيقة بالنسبة إلى الحالات التي لم يتم استجلاؤها».. إن التعويض المادي والتأهيل الاجتماعي والصحي للضحايا يظل وعلى الرغم من أهميته مرتبطا بحالات بعينها وغير كاف لتحصين البلاد من تكرار مثل هذه التجارب المريرة، ولذلك فهذه التوصيات، التي صاغتها اللجنة وقدمتها إلى الجهات المسؤولة في الدولة تعتبر بحق أهم ما خلصت إليه لارتباطها (التوصيات) بتمتين الأسس القانونية والإجرائية الكفيلة بتأمين «انتقال ديمقراطي» حقيقي يضمن الحسم النهائي مع كل مظاهر الإساءة إلى حقوق الإنسان. إن تجربة المصالحة والإنصاف التي تعتبر الأولى من نوعها بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي تجربة شجاعة بكل المقاييس سواء على مستوى إحداث الهيئة في حد ذاته أو على مستوى بلورة النتائج والتوصيات التي خلصت إليها، وهي خطوة تاريخية تقتضي بأن يعززها فتح أوراش إصلاحية في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية والقضائية والإدارية.. وفي هذا الإطار، يظل إصلاح المؤسسات القضائية والإدارية لتنسجم وروح ديباجة الدستور المغربي، الذي نص على احترام حقوق الإنسان، مطلبا حيويا وملحا. كما أن التصديق على معاهدة روما المرتبطة بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة يظل بدوره أمرا مطلوبا لتعزيز هذه الحقوق بالوقوف أمام الإفلات من العقوبات والحسم الصارم مع المراحل الماضية.