عندما قاربت على الإنتهاء من كتابة هذه السردية التي تستغرق أكثر من ستة عقود ، وتشكّل شريطا طويلا قزحيا فيه كل الألوان من فرح الولادة وألم الفراق وحزن الإستشهاد والموت . . بدأت تعاودني سلسلة الأسئلة التي سبق وأن طرحت عليّ عشرات إن لم أقل مئات المرّات في العديد من الأقطار العربية وخاصة في المغرب ، مثل : لماذا أنت متفائل ؟ هل أنت واثق من أن ثورتكم ستنتصر ؟ هل أنت راض عن عملك في الثورة ؟ . . . الخ . ولكن هذه الأسئلة بدأت تتمحور حول قضية رئيسية مؤدّاها : كيف تنظر لنفسك بعد أن قضيت قرابة الخمسين سنة في دروب وفجاج الكفاح الفلسطيني ؟ وهل أنت راض عن نفسك بعد كل هذا الزمن ؟ هل كانت سيرورتك أكثر فائدة أو أكثر حيوية لو إتخذت مسارا آخر غير الذي اتخذته ؟ . هنا بدأت استعرض المخبوء الذي لم أبح به في صفحات هذا الكتاب ، بدأت أستعيد لحظات الألم التي اجتاحتني أيّام الأحداث الجسام التي تعرّضت لها الثورة وعند غياب العديدين من الأعزّاء موتا أو إستشهادا . وبدأت أستعيد هنيهات الفرح القصيرة والقليلة التي عبرت بي في أجواء عائلية أو نضالية . وبدأت أطرح سلسلة من الأسئلة على نفسي مثل : هل كنت سأكون واصف منصور الحالي ? بما له وما عليه ؟ كيف ستكون أوضاع شعبنا لو لم تنطلق رصاصة الثورة الأولى التي أطلقتها حركة فتح في الفاتح من يناير 1965 ؟ كيف سيكون وضعنا لو لم تقع أحداث أيلول 1970 في الأردن وحصار بيروت عام 1982 ؟ كيف سيكون وضع ثورتنا لو تأخررحيل الزعيم جمال عبدالناصرو استشهاد قادة الثورة العظام أمثال عبدالفتاح حمود وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وأبو جهاد وأبو علي إياد وماجد أبو شراروأبو الوليد وأبو إياد وأبو السعيد ؟ كيف سيكون وضعنا لو أن الأنظمة العربية المحيطة بفلسطين شكّلت ما شكّلته هانوي بالنسبة لثورة جنوب الفيتنام ؟ وكيف سيكون وضعنا لو أن الدول العربية عامة شكّلت ما شكّله الإتحاد السوفييتي والصين الشعبية بالنسبة لثورة الفيتنام ؟ وكيف سيكون وضعنا لو أن العرب كانوا عربا حقّا ومارسوا مايقتضيه ذلك تجاه أشقائهم في فلسطين ، ولو أن المسلمين كانوا مسلمين حقاّ وطبّقوا ما يدعو له دينهم الحنيف في باب الجهاد ؟ أعادتني هذه الأسئلة إلى الأجواء التي يعيشها الإخوة الفلسطينيون الذين عاشوا ما يشبه ما عشته أنا ، فبدأت استعرض الإخوة الفلسطينيين الذين تخرّجوا معي في الكلية أو قبلي أو بعدي بسنة أو سنتين ، فكلهم ? ماعدا من أنخرط في الثورة - مواطنون عاديون تنطبق عليهم مقولة «يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق « ، عملوا موظفين أو في مهن حرة وتزوّجوا وأسّسوا أسرة غالبا ما هي كبيرة العدد واقتنوا بيوتا يعيشون فيها اليوم قانعين مستوري الحال إقتصاديا وربما فوق المتوسط محترمين أو غير محترمين حسب سلوكهم ، ينتظرون ملك الموت لا أكثر ولا أقل . وتذكرت الكثير من رفاق السلاح ممن عاشوا ما يشبه تجربتي في الثورة ، وتذكرت كلمات بعضهم وهم يستعرضون ما وصل إليه حالنا اليوم ، وهم يرون ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وما يفعله بعض القائمين على أمورنا ، وكيف أن بعض هؤلاء الرفاق أخذ يعبّرعن أسفه وندمه على أنه أعطى عمره للثورة قائلا : والله لو كنت أعرف أن الأمور ستنتهي إلى ما نحن عليه اليوم ، لما انخرطت في الثورة ولما حملت السلاح من الأصل .. ولعل هذا هو حال الكثير من الأصدقاء المناضلين في الأحزاب العربية وخاصة الأحزاب التقدمية والقومية والديمقراطية . وأعادتني كذلك لسؤال سمعته من صاحب متجر في مدينة رام الله ، وجّهه إلى أحد سفرائنا السابقين قائلا على مسمعي : كم قصرعندك ؟ وكم مزرعة عندك ؟ وكم عمارة عندك ؟ ولما أجابه السفير بأنه لا يملك شيئا مما سأله عنه قال له : موش معقول ، فإذا كان واحد ممن عمل عندك في السفارة يملك ذلك القصر وتلك العمارة وتلك المزرعة ، فمن المفروض وأنت كنت رئيسه في العمل أن تملك أضعاف ما يملكه . وتذكرت ما قاله لي واحد ممن قادوا قوات الثورة وخاضوا عشرات المعارك في لبنان والأردن وفلسطين ، عندما عاد إلى قريته بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994 ، حيث جاء أقاربه وأبناء قريته زرافات ووحدانا ليسلّموا عليه ، وهمس أحدهم في أذنه أنه لديه العديد من المشاريع الإقتصادية المربحة والتي لا ينقصها إلا التمويل . وعندما قال له أنه لا يملك مالا ، رفض أن يصدّقه ، واعتقد أنه يملك المال ولكنه لا يريد التعاون معه ، ولما حلف له ذلك القائد بأنه صادق فيما قاله ، قال له : بعد كل هذي السنين جاي عندنا وإنت يد من قدّام ويد من ورا ؟ شرد بي خيالي وحاولت أن أنسى شريط السنين التي عشتها في الثورة أو افترض جدلا أنها لم تكن . بدأت أتخيّل نفسي بعد أن حصلت على إجازة العلوم السياسية من كلية الحقوق بالرباط عام 1967 ، عدت إلى الأ ردن حيث لم يكن ممكنا العودة الى الضفة الغربية ، وهناك كان من الممكن أن أشتغل مستشارا قانونيا في إحدى الإدارات الحكومية أو موظفا في وزارة الخارجية أو أفتح مكتب محاماة . وكنت في هذه الحالة بين ثلاث خيارات : إما أن أكون مواطنا ( صالحا ) منضبطا ( ماليش دعوى بالسياسة أو أي شيء ) ، أو أن أصبح أحد أزلام النظام ، أو أن أصبح معارضا فيتم إعتقالي أو إضطهادي مما سيضطرني للهجرة إلى إحدى دول الخليج للعمل هناك ، وهناك كنت سأستفيد من تجربتي السابقة وسأمشي « الحيط الحيط « كما يقولون ، وسأتزوج وأنجب خمسة أو ستة أبناء كما يفعل الناس هناك وقتها ، وسيكون همّي الوحيد كيف أصون أسرتي وأربّي أبنائي وأعلّمهم ، وأساعد أسرتي في الوطن ماديا ما أمكن ، مع الحفاظ على كرامتي ما أمكن . . أي أنني سأكون واحدا ممن يقال عنهم يوم وفاتهم : الله يرحمه كان راجل طيّب ، لم يكن له في العيرولا في النفير، أو كما قال الحطيئة للزبرقان بن بدر : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ثم طرحت على نفسي سؤالا يقول : لو أنني حذفت ما عشته من عمري في الثورة ، ماذا سيتبقّى لي ؟ أزمان طويلة قمت بها بمهام الأكل والشرب واللهو والنوم ، أي أنني أصبحت كما قال أحد الشعراء عندما علم بأن أحد ألأشخاص المسيحيين كان نكرة خاملا وإسمه ‹ حنّون ‹ قد قد عتنق الإسلام فقال فما زاد حنّون في الإسلام خردلة ولا أضرّ النصارى فقد حنّون وهنا ماذا سيكون الفرق بيني وبين من كان يسمّيهم زميلنا أبو قيس رحمه الله بأنهم الذين لن يبعثوا يوم القيامة ، لأنهم لم يكونوا مكلّفين . وعدت أتناقش مع نفسي ، ماذا تريد أكثر كأنسان ؟ عاشرت الكبار والصغار والأعالي والأعالي جدا والأداني ، ودخلت القصور والبرّاكيات ، وعشت مع الأدباء والصحفيين والفنانين والحشّاشين والهيبيين والمجاهدين والأبرار ، وأخذت فرصتك لتقول كل ما تريد وبالشكل الذي تريد تقريبا ، وكان من الطبيعي أن تدفع أحيانا الثمن . فماذا تريد أكثر ؟؟؟ ولكن نفسي كانت تردّ عليّ قائلة : وهل وصلت إلى ما كنت تحلم به ؟ هل حقّقت ما كنت تتوق إليه ويطمح إليه شعبك وما علّقته عليك جماهير أمتك ؟ فرددت عليها بأنني وأنا أعشق التراث العربي الإسلامي أؤمن بعدد من المقولات وأردّدها دائما مثل : ما لا يدرك كله لا يترك جلّه ? فوق جهدك لا تلام ? أنت تريد والله يفعل ما يريد ? ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بمالا تشتهي السفن ? تفائلوا بالخير تجدوه ? وإن غدا لناظره قريب ? إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ? ما ضاع حق وراءه طالب . لقد قضيت قرابة نصف قرن أجتهد في أن أخدم قضية شعبي بكل ما أوتيت من قوة وما امتلكه من ملكات ، وحرصت على أن لا أفعل ما يمكن أن ينعكس سلبا على قضيتي ، حتى أنني عندما كانت تبدر عني بعض التصرفات غير السليمة كنت أعمل المستحيل كي لا يعرف من شهد هذه التصرفات أنني فلسطيني ، ولو كنت أريد أن أصبح ذا مال لما انخرطت في الثورة أصلا وبحثت عن عمل في قطاع عام أو خاص يدرّ مدخولا مجزيا بالنظر لشهادتي في ذلك الوقت ، ولما كنت قبلت أن أتفرّغ بمخصص مالي قدره عشرة دنانيرأردنية في الشهر أو أن أتفرّغ للعمل في الجمعية بأربعمائة درهم مغربي شهريا . ويكفيني أن من ثمار جهدي بجانب جهود إخواني الذين عملت معهم في المغرب أن القضية الفلسطينية أصبحت « قضية وطنية « عند كل النمغاربة ، وأن الطلبة الفلسطينيين الذين ساهمت في رعايتهم يتحمّلون الآن مسؤوليات كبيرة في المجتمع والسلطة الفلسطينية ، ولازالوا يعترفون لنا بالفضل ويتمنّون لو أن المسؤولين الفلسطينيين الحاليين يتعاملون بمثل ما تعاملنا معهم . ووصلت سن التقاعد الوظيفي فتقاعدت ، مع أن الأخ الشهيد أبو عمار كان يقول دائما لبعض الغاضبين الذين يطلبون إحالتهم على التقاعد ( ليس في الثورة تقاعد ، والمناضلون لا يتفاعدون ) ، ومع ذلك لا زلت أعمل وكأنني لا زلت على رأس عملي ، فأستمر في أداء دوري النضالي بكل الوسائل الممكنة ، مع الأخذ بعين الأعتبار عامل السن والقدرة الجسدية . لازلت أفعل ذلك لسببين : أولهما أن الناس الذين تعاونوا وتفاعلوا معي في السابق لا زالوا وسيظلون ينظرون لي كمناضل فلسطيني ، مما يجعلني غير معفي من الإستجابة لأية دعوة نضالية . وثانيهما أنني لا أستطيع أن أعيش بعيدا عن الأجواء النضالية التي عشتها طيلة نصف قرن ، فقد صبغت حياتي وقولبتها ولم يعد بإمكاني الفكاك منها . لقد ذكرت فيما قبل أن والدي قد توفي دون أن يترك لي أية تركة مادية أتقاسمها مع الورثة الآخرين . ولكنني أحسّ بأنه أورثني حركة فتح مع ورثة آخرين ، وأحسّ أنه حتى لو تهاون هؤلاء الورثة أو فرّطوا فإنني لن أتهاون أو أفرّط . فهذه التركة أمانة ، والأمانة قال فيها سبحانه وتعالى ( إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا ) . وأقول لمن يتحسّرون على الزمان الماضي متمثّلين بقول الشاعر ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب أقول لهم : إن كان سيعود يوما واحدا ، فإنني لست بحاجة إليه ولا أتمناه ، لأنني أريده أن يعود أطول زمن ممكن حتى أستطيع أن أواصل ما بدأته . . لعلني أحقّق ما أردته .