بالرغم من الإرادة المعلنة من جانب الإسلاميين المغاربة بالتعرض للإبداع و الحرية الثقافية، فليس هناك لحد الآن، ما يضير حزب العدالة والتنمية منذ ترؤسه للحكومة. فالحانات لا تزال مفتوحة، والمطاعم لا تزال تقدم الكحول لزبنائها دون التحري عن دياناتهم، و الأسواق الكبرى تبيع المشروبات الكحولية للمسلمين أكثر من غيرهم، في المدن الصغيرة كما في كبريات المدن. والمهرجانات ما زالت تنظم في مواعيدها، والفتيات غير المحجبات لم يتحجبن بعد. لا شيء تغير إذن تحت شمس الله. ففيما كان المعتقد هو أن الإسلاميين مستعدون لإسقاط أي رمز من رموز الحداثة، بواسطة مرسوم استعجالي، لم يقوموا بأي شيء من ذلك. إلا أن المشكل ليس بهذه البساطة. لدى وصولهم إلى السلطة، كانت الثقافة، في جانبها الإبداعي، في حالة موت سريري. فعلى كافة المستويات، كانت تبدو في احتضار طويل.كل المهرجانات - التي يتوهم البعض بأنها دليل حياة ثقافية مزدهرة - ليست ثمرة تفكير إبداع محلي. فبالإضافة إلى زيفها، فهي مدينة بحياتها إلى رعاية كبار مسؤولي الدولة الذين يستفيدون منها إعلاميا لتحسين موقعهم داخل القصر. أما بالنسبة للباقي، أي الإنتاج الأدبي والمسرحي والموسيقي والسينمائي ،فإنه يظل رديئا، مما يدفع البعض إلى عدم التردد في الحديث عن تراجع ثقافي من وجهة نظر كمية، مقارنة مع سنوات السبعينات، في حين أن الجامعات اليوم تغطي كافة التراب الوطني. في الإبداع كما في الاحتجاج، نلاحظ الضعف الكبير الذي يطبع الحركة الثقافية بالمغرب. فإحدى نقط ضعف حركة 20 فبراير مكمنها هنا. فغياب مشروع مجتمعي مصاغ بوضوح من طرف النخبة الشابة ،يعبر ببلاغة عن عجز هذه الأخيرة في تصور مستقبل، وإعداد نموذج منسجم مع الحداثة التي يطمح إليها المجتمع. فالإسلاميون ليسوا هم سبب هذا العطب الثقافي، الذي طبع الربيع المغربي، الأقل قوة من الربيع التونسي أو المصري. بل إن الإسلاميين، على العكس من ذلك، هم نتيجة هذا العطب الثقافي. فالأمية الثقافية خدمت قضيتهم وسهلت صعودهم. وأصل هذا العطب هو الاغتيال الذي تعرضت له المدرسة من طرف الجماعات المهيمنة، ومن ضمنها حزب الاستقلال، بدعوى تعريب و»مغربة» المدرسة والثقافة. فمنذ ذلك الحين تحولت المدرسة العمومية، إلى شبه «غيتو» لأطفال الطبقات الشعبية، وتعززت صفوف الأميين الذين شكلوا الكتلة الناخبة للإسلاميين . فالتخريب المتعمد لهذه المدرسة هو الذي تسبب في الإفلاس الثقافي بالمغرب. من المحقق أن الإسلاميين قد استغلوا باستمرار الجانب الثقافي عن طريق شيطنة الانحرافات العلمانية و»الشيطانية» من أجل تجميع الأصوات. لكن المفارقة هو أنهم لم يمضوا قدما بعد وصولهم إلى الحكم. فهم يواصلون اتباع سياسة «الكي والبخ» واستعمال التهديد تارة والتسوية تارة أخرى، كلما ظهر حادث يمكن أن يتحول إلى خطاب حامي الوطيس. لكن عملهم مدروس الجرعات، فهم يتدخلون بشكل دوري وبمختلف مستويات الهرم الحزبي، وبنبرات مختلفة: فالمسؤولون الحزبيون الأعلى يبدون متسامحين بينما تكون خرجات المناضلين الأقرب إلى القاعدة، متسمة بالتأليب ضد أقل مبادرة قريبة من العلمانية أو الحداثة معتبرينها تجذيفا. لقد فهم قادة الحزب جيدا ضرورة احتلال المواقع بسلاسة، مع حرصهم على تضخيم كتلتهم الناخبة بأقل الخسائر. ويبدو التكتيك بسيطا: البقاء إلى جانب القطاع الثقافي واستعمال الوعظ والتهديد، مع الحرص على عدم المواجهة العنيفة أو المباشرة لتفادي الاصطدام بالرجال الأقوياء في النظام، أو المغامرة في اتجاهات لا يتحكمون فيها. فحزب العدالة والتنمية يعلم حاليا عدم شعبية الإصلاحات التي تنتظره في الساحة الاقتصادية ،و لذلك فإنه يجعل من الفضاء الثقافي فرس الرهان لكي يروج للنقاء الثقافي والعودة إلى الأصول. محمد الناجي مجلة «جون أفريك» 24-30 يونيو 2012