ليس هناك من شك أن الخلفية التي كانت تؤطر السفارة البريطانية عبر مجلسها الثقافي في فتح النقاش حول الإسلام كانت في جزء كبير منها سليمة، فبريطانيا تعرف تحديا ما فتئ يتزايد في السنوات الأخيرة الماضية، فبريطانيا تؤوي العديد من رموز التيارات الراديكالية، ولم تستطع أن تتخلص من ظاهرة أبو حمزة المصري إلا بعد استراتيجية طويلة انتهت في الأخير إلى الاستعانة بالتيار الوسطي مجسدا في ''الإخوان المسلمون'' في لندن من أجل محاصرة ظاهرة الغلو والتطرف. ولذلك ما من شك أن جزءا من أهداف السفارة البريطانية يرتبط بفتح نقاش حقيقي حول الإسلام لمعرفة إمكانات الاجتهاد في رسم صورة لإسلام غير متعارض مع الحداثة، إسلام مناهض للغو والتطرف. بيد أن المدخل لفتح هذا الحوار، كان يتطلب الوعي أولا بمكونات النخبة العلمية المتعاطية مع الظاهرة الدينية ومع كل المقاربات المطروحة في الساحة البحثية والدراسية. الذي حدث في هذه الندوة، أن تيارا غالبا كان هو السائد، إذ كان التمثيل الغالب والمهيمن للقراءة العلمانية التي تمضي في كثير من مقارباتها عكس المطلوب والمرجو بريطانيا، إذ تتبنى هذه المقاربات في خلفياتها وأبعادها مقولة تجاوز النص، باسم تاريخية النص الشرعي أحيانا، وباسم السياق أحيانا أخرى، وأحيانا أخرى باسم التأويل ومفهوم النص. تكمن معاكسة هذه المقاربات العلمانية للأهداف البريطانية في كونها لا تقدم الواقع الحقيقي للنخب الدينية في المغرب، بل تقفز على سوسيولوجيا هذا الواقع، وتتعاطى مع المرجو علمانيا (تكوين ثقافة عامة داخل المحيط متجاوزة للنص القرآني)، وليس مع حقيقة الواقع الديني، والمقاربات التي تعتمدها النخب الدينية في تعاطيها مع النص القرآني وتفكيك بنية تعاطي تيارات الغلو مع النص الديني وتوفير شروط تجاوزه واختراقه. الواقع الموجود على الأرض، والذي تدعمه الدراسات السوسيولوجية، هو أن الدين يشكل مكونا أساسيا في هوية المسلمين، وأن له دورا مركزيا في صياغة حياتهم ومواقفهم اليومية (بيو، كالوب..) وأن النخب العلمانية بتطلعاتها لا تمثل إلا أقلية داخل المجتمعات العربية (كارنيجي) ومن ثمة، فإن الرهان على النخب العلمانية، أو على القراءات العلمانية للإسلام، لن يكون خادما لهدف فهم الإسلام ومحاولة فهم محددات الظاهرة الإرهابية في الغرب وشروط تكوينها وجذورها الإيديولوجية وصلة كل ذلك بالإسلام كدين ومنظومة ثقافية. كل هذا، يطرح ضرورة أن يعيد البريطانيون تقييمهم للموقف، وأن يتأكدوا أن القراءة العلمانية للإسلام لن تعينهم كثيرا على فهم الإسلام ولا على فهم الظاهرة الإرهابية، وأن بحث هذه القراءة عن استرضاء الغرب عبر التأكيد على مركزية مرجعيته، وقراءة الإسلام على شرط هذه المرجعية، قد يكون له فائدة سياسية، لكنها في المحصلة لن تكون إلا فائدة محدودة ووقتية، لأن تيارات الغلو التي تتنامى داخل الغرب تسير عكس هذه القراءات الاسترضائية مما يتطلب استدعاء نخب أخرى ليست بالضرورة علمانية لتقديم قراءتها للإسلام والعلاقة التي تحكمه بالغرب والتحديات التي ترتسم على هذا الإطار. لقد كان ينتظر في هذه الندوة أن تضم وجوده يمثلون مدارس فكرية معروفة في تعاطيها مع المرجعية الإسلامية: مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي والتي يقودها كل من الدكتور طه جابر العلواني والدكتور عبد الحميد أبو سليمان.. وحضورها قوي في أمريكا على وجه الخصوص، ومدرسة التيار الوسطي الكبير الذي لا تخفى وجوهه ورموزه مثل الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم ولا يخفى حضورها وأثرها الوازن على مجموع الشرائح الشعبية في الوطن العربي. لكن يبدو أن التأطير العلماني ضاقت به التعددية إلى درجة إقصاء قراءات هذه المدارس وغيرها، وهو ما يؤثر بدون شك سلبا على أهداف الندوة وتطلعاتها. بكلمة، كنا ننتظر من الأستاذ الفيلالي الأنصاري، الذي تكفل بتنظيم الندوة، أن تلجئه خلفيته العلمانية إلى تجسيد قيم الاختلاف بما يعنيه من فتح المجال لقراءات أخرى غير القراءة العلمانية التي عادة ما يؤثتها بحضور اللون الراديكالي فيها (التونسي) المتسم بتغييب البعد الأكاديمي والمنهجي والانجرار إلى الشعبوية. الأمل، أن يتفطن البريطانيون إلى أن فهم الإسلام والمعرفة الحقيقية بأبعاد الظاهرة الإرهابية لا يمكن أن يتم بإقصاء القراءات الأخرى، وأن العلمانية الحقيقية هي التي تدفع إلى تجسيد التعددية وضمان حق الاختلاف، وهو ما كان حضوره باهتا إن لم نقل منعدما في الندوة.