توجد المخابرات الأمريكية وسط إعصار غير مسبوق، منذ أن دخل الرجل الاسود الى البيت الابيض. ولم تعد أقوى مخابرات الدنيا تتوقع ما سيحل بها ، بين ليلة وضحاها. وآخر الاخبار تتحدث عن إعلان وزير العدل الامريكي ، اريك هولدر عن تعيين مدع عام للتحقيق في الممارسات العنيفة التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية الامريكية «السيا» خلال استجواباتها في اطار مكافحة الارهاب، وذلك على خلفية معلومات كشفت في الآونة الاخيرة. وأوضح الوزير في بيان أن «المعلومات التي بحوزتي تبرر فتح تحقيق تمهيدي لمعرفة ما اذا كانت القوانين الفدرالية قد انتهكت في اطار استجواب بعض المعتقلين خارج الولاياتالمتحدة». ومن المنتظر ، حسب الاجندة التي وضعتها وزارة العدل الامريكية أن يختم التحقيق التمهيدي، بتوصيات بشأن احتمال ضرورة اجراء «تحقيق كامل» في الامر دون ان يكون هناك كما يفيد بأن أمريكا ستلجأ الى «القيام بملاحقة (قضائية) تلقائيا إثر هذه التوصيات». وهو ما كان الرئيس الامريكي باراك اوباما نفسه قد استبقه عندما دعا الى التوجه نحو المستقبل عوض الالتفات الى الماضي،معربا عن معارضته الملاحقات القضائية في ملف سياسات مكافحة الارهاب التي اعتمدت اثناء فترة حكم الرئيس السابق جورج بوش. البيت الابيض من جهته دخل المعترك عبر بيان مقتضب جاء فيه «ان القرار النهائي بشأن ما اذا كان أحدهم قد انتهك القانون، اتخذه وزير العدل بكامل الاستقلالية». ويعود الموضوع الى محتويات تقرير عن المخابرات يعود الى سنة 2004 يخص أعمال عنف قامت بها الوكالة المشهورة بحق معتقلين، حيث روى هذا التقرير« كيف هدد عملاؤها» العقل المدبر المفترض لاعتداءات 11 شتنبر 2001 خالد شيخ محمد بقتل أولاده اذا لم يدل باعترافاته». كما جاء في التقرير انه تم تهديد أبرز مدبري الاعتداء على المدمرة الامريكية كول في اليمن عام2000 عبد الرحيم الناشري، بمسدس ثم بآلة ثقب كهربائية قبل ان يلمح له المستجوبون بأنهم قد يغتصبون أمه أمامه. وأشار التقرير أيضا الى محاكاة عمليات اعدام من بين الطرق المستعملة في الاستجواب، والتي نددت بها بالاجماع منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. المسؤولون عن تلك الفترة كان لا بد لهم من يدخلوا المعترك ويقدمون الاسباب التي تشكك في خطوة أوباما. ومن هذا المنطلق شكك نائب الرئيس الامريكي السابق ديك تشيني بقدرات « الرئيس باراك اوباما في السيطرة على أمن البلد بعد فتح هكذا تحقيق». وككل محافظ عنيف، يتخفى ديك تشيني وراء أمن البلد، وككل جزار سابق فهو يربط دوما بين ما قام به وبين مصلحة البلاد، وكأن كل الامريكيين وعلى رأسهم أوباما، لا يحبون أمن بلدهم. وهو في هذه النقطة يشبه أي جلاد صغير في أي بلد عاش كابوس السادية المخابراتية. وكأن شعار الزمن وحده يعد حصانة سياسية واخلاقية ووطنية لمن قام بالانتهاكات، وهو اصلا ما ذهبت اليه نافي بيلاي رئيسة مفوضية الاممالمتحدة لحقوق الانسان التي قالت أنه « ينبغي عدم إضفاء أي حصانة من الملاحقة القضائية بخصوص تعذيب أشخاص يشتبه في ضلوعهم في الارهاب». وذكرت بيلاي في بيان لها أن الخطوة التالية ستشمل تحديد المسؤولية الجنائية لكل من خالف القانون، ودعت الى المزيد من الشفافية بخصوص « أماكن احتجاز سرية وما جرى فيها» وقالت «آمل أن يجرى فحص سريع للمزاعم المختلفة عن اساءة معاملة محتجزين سابقين وحاليين في جوانتانامو وسجون أخرى تديرها الولاياتالمتحدة، واذا ثبتت فيجب أن تشمل الخطوة التالية مساءلة كل من خالف القانون». وهنا ربما قد يأتي ذكر المغرب ، بلادنا التي ورد اسمها في العديد من التقارير، وآخرها ما نشرته التايمز الامريكية من كون « المخابرات الامريكية بنت ومولت بناء معتقلات سرية لحسابها» تولت فيها الاجهزة المغربية عملية استنطاق الارهابيين المحتملين. لا شك أن ما يسترعي الانتباه أولا وآخرا في لجدل الدائر اليوم حول اجهزة المخابرات هو ما يتعلق بدور العقل المدبر لأحداث 11 شتنبر ومركزه في هذا النقاش. فهذا الرجل، محمد الشيخ دبر عملية تفجير داخل التراب الامريكي خلفت أزيد من 3 الاف ضحية، وتعد أكبر ضربة في تاريخ بلاد العم سام، فاقت في مدلولها وقوة صدمتها ضربات اليابانيين في هاربور الشهيرة، إبان الحرب العالمية الثانية. وبالرغم مما يلخصه من مشاعر الحقد والضغينة والعنف المشروع ضده في نظر الامريكيين عموما وعائلات الضحايا خصوصا، فإن ذلك لم يمنع الدولة من أن تعتبر ما تعرض له موجبا للمساءلة. فقد هددوه بقتل ابنائه، هددوه ولم يقتلوه كما قتل هو أبناءهم، ومع ذلك فإن العنصر الانساني والجانب الحقوقي الذي يعد إرث امريكا في تاريخ القرون الاخيرة، لم يلعب لصالح الضغينة ولصالح الانتهاكات، أو لفائدة الحساب الشوفيني أو توازن القوى ، كما يريد بذلك ديك تشني. وهو إرث تسعى كل الدول التي تنتمي اليه لأن تحتفظ به بالرغم من كل الاعاصير. فبريطانيا نفسها اعتمدت الجانب الصحي والانساني لرجل يحتضر ، متهم بقتل العشرات من ابنائها، ومع ذلك سمحت له بالموت بالقرب من أهله ، بعد أن منعته عائلات بريطانية من الموت في بيوتها أو بين اهلها، وعوضها عن ذلك بقبور في الهواء ، وفوق المحيط!! ما يسترعي الانتباه ثانيا أن الدول ، كالانهار تعود الى مجراها الاول دائما، وامريكا الان تناقش الموضوع وتعرضه على الفضاء العمومي ككل شئ يهمها. وبالرغم من كل الاحتمالات، فإنها لم تدس رأسها وسط الجثث والذكريات الحزينة وتعلق سؤال المسؤولية السياسية والاخلاقية في تدبير الازمة والصدمة. ونحن اليوم في عز اصلاح القضاء، وفي عز الحديث عن تكريس استقلاليته ، لابد أن نطرح على مؤسساتنا وعلى انفسنا هذا السؤال المتعلق بالفعل بالقوة الاخلاقية والمؤسساتية لهذا القطاع في متابعة كل الاختلالات. لقد سبق للمغرب أن التحق بركب الدول التي جرمت التعذيب والتي قطعت، في نصوصها وفلفسة حقوقها مع اللاعقاب، وكانت تلك خطوة مهمة ابانت أن البلاد قادرة على تجاوز مخاوفها، على المستوى التشريعي على الاقل. ونظرت الدولة بعين مفتوحة للغاية الى ماضيها، وجزء مما صنعته السياسة الجنائية بأدوات الاجهزة الخارجة عن أية مراقبة. وبعد أن رأت صورتها بالابيض والاسود، فتحت الصفحة ثم كان تقرير هيئة الانصاف والمصالحة، وكان اهم ما جاء فيه توصيات خاصة بالحكامة الأمنية، ومنها حكامة الجهاز المخابراتي.... وللأسف لم نتقدم على هذه الواجهة، غير أن ما لا يمكن إغفاله هو أن دينامية المصالحة انضافت إليها اليوم دينامية إصلاح القضاء، وبالتالي التقت روح التقرير الصادر عن الهيئة، وما تبعه من مسودة تقدم بها المجلس الاستشاري لحقوق الانسان حول الحكامة الامنية، مع روح الاصلاح القضائي، والتي لا بد أن تكتمل لكي يكتمل البناء المؤسساتي المادي والروحي لدولة الحق والقانون. لقد أُصبنا كما اصيبت أمريكا بشظايا الارهاب، وكانت لنا معالجتنا الأمنية، والتي لها ما لها وعليها ما عليها، لكن الاساسي فيها أن الموجة لم تنسحب على كل التيارات المنتسبة الى الاسلام الاصولي بالرغم من كل «الاغراءات» الكامنة والموروثة عن الفترة السابقة، التي كانت تجعل الدولة تعاقب الجميع كل اطياف اليسار تعاقب اذا ما كان فصيل واحد فيها صارعها )!! لا يمكن أن ننطلق من حادثة امريكية لكي نطلب من نهر سبو أن يصب في المسيسيبي، ولا أن نطالب تاريخنا الخاص بأن ينضج بسرعة على نار مقارنة صحفية، لكن الذي لا بد منه، سيكون، وعليه، لا بد من ربط التطور المؤسساتي للقضاء بمراقبة المخابرات، بدون أن يعني ذلك إدانة مسبقة لكل عملها اليوم، والذي اصبح حيويا للغاية في عالمنا اليوم. أحيانا تسير المقارنة الى درجة الكاريكاتور، ويراد من الاصلاح أن يشبه إصلاح عجلة سيارة أصيبت بعطب في الطريق، ومن ذلك القول، بأنه كان يكفي لأي وزير عدل أو وزير أول أن يعين خطوط الاصلاح ويبدأ في الاشتغال، كما لو أن الامر مجرد مسألة تقنية أو إصلاح «قادوس» ، حتى ولو كان سياسيا ..! ومن غريب الصدف فعلا، ولعلها تنفع،أن خبر المخابرات وامريكا والتعذيب البيت الابيض والإرهاب و11 شتنبر تزامن مع حديث صحفي مغربي عن .. اتهام المخابرات المغربية باختطاف ............ مهرب مخدرات!