إن كتاب تراثٌ من رماد (Legacy of Ashes) ، يمثل سجلاً للسنوات الستين الأولى من عمر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). وهو يروي قصة فشل أقوى دولة في تاريخ الحضارة الغربية في إنشاء جهاز تجسس من الدرجة الأولى. ويشكل ذلك الفشل خطراً على الأمن القومي للولايات المتحدة. المخابرات عمل سري يهدف إلى فهم أو تغيير سير الأمور في الخارج. وقد سماه الرئيس داويت إيزنهاور بأنه عمل مقيت، ولكنه ضرورة لابد منها . والدولة التي تريد أن تظهر قوتها خارج حدودها، لابد لها أن تتمتع ببعد نظر يصل إلى ما وراء الأفق، لكي تعرف ما سيحدث في المستقبل، ولتمنع الهجمات التي قد تستهدف شعبها. يجب أن تتوقع المفاجأة. وبدون أجهزة مخابرات قوية وذكية وثاقبة، يصبح الرؤساء وكذلك جنرالات الجيش عمياناً ومشلولين. ولكن الولاياتالمتحدة طوال تاريخها كدولة عظمى، لم تكن تملك هذا الجهاز. يقول إدوارد جيبون في كتابه انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية ، إن التاريخ لا يختلف كثيراً من أن يكون مجرد سجل للجرائم والحماقات والمحن التي ارتكبها البشر . إن السجلات التاريخية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية مليئة بالحماقات، والمحن، إلى جانب أعمالها الشجاعة والماكرة. وهي متخمة بحالات النجاح العابرة، وحالات الفشل طويلة المدى في الخارج. وتوصف في الخارج بأنها معارك سياسية، بينما توصف في الداخل بالصراع على السلطة. وقد نجحت انتصارات الوكالة في إنقاذ بعض الأرواح والممتلكات. كما أدت أخطاؤها إلى إضاعة كليهما معاً. وقد أثبتت بأن تلك الأفعال كانت قاتلة ومميتة لجحافل الجنود الأمريكيين، والعملاء الأجانب، فقد مات قرابة الثلاثة آلاف أمريكي في نيويوركوواشنطن وبنسلفانيا في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وثلاثة آلاف آخرون ماتوا منذ ذلك التاريخ في العراق وأفغانستان. والجريمة التي ظلت عواقبها مستمرة ومتواصلة هي عجز وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في القيام بمهمتها الأساسية وهي: تزويد الرئيس بالمعلومات حول ما يدور في العالم. وعند بداية الحرب العالمية الثانية، وكذلك بعد انتهائها بعدة أسابيع، لم يكن لدى الولاياتالمتحدة أي عمل استخباري يذكر. فقد حدث اندفاع مجنون خلف وراءه تسريح عدة مئات من الرجال الذين كانوا يتمتعون بسنوات قليلة من الخبرة في عالم الأسرار، والرغبة في مواصلة القتال ضد عدو جديد. وقد حذر الجنرال ويليام دونوفان ، قائد مكتب العمليات الحربية للخدمات الإستراتيجية الرئيس ترومان عام 1945 قائلاً: جميع القوى العظمى ما عدا الولاياتالمتحدة تملك أجهزة استخبارات قديمة وتعمل في جميع أنحاء العالم، وترفع تقاريرها مباشرة إلى المستويات العليا في حكوماتها. وقبل الحرب الحالية، لم يكن لدى الولاياتالمتحدة أي جهاز للاستخبارات السرية الخارجية، كما أنها لا تملك الآن، ولم يكن لديها في السابق جهاز متناسق للمخابرات . والمؤسف أنها لا تزال تفتقر إلى هذا الجهاز. وكان يفترض في وكالة المخابرات المركزية أن تصبح هذا الجهاز. ولكن المخطط الذي قامت عليه الوكالة قد أعد في عجالة. فهي لم تكن علاجاً لحالة الضعف الأمريكي المزمن: فالسرية والخداع لم يكونا من مظاهر قوتنا. لقد جعل انهيار الإمبراطورية البريطانية من الولاياتالمتحدة القوة الوحيدة القادرة على مواجهة الشيوعية السوفيتية، وكانت أمريكا في أمس الحاجة إلى معرفة هؤلاء الأعداء، لتبصير الرؤساء، لكي ترد النار بالنار عندما يشتعل الموقف. وكانت المهمة الرئيسية لوكالة المخابرات المركزية أن تبقي الرئيس في حالة حذر تام من وقوع هجوم مفاجئ، هجوم آخر كالذي حدث في بيرل هاربر. لقد كانت رتب الوكالة مليئة بالآلاف من الوطنيين الأمريكيين في عقد الخمسينيات. وكان الكثيرون منهم شجعانا وأقوياء. وكان بعضهم يتمتع بالحكمة. والقليل جداً منهم كان يعرف العدو. وعندما فشل التفاهم، أمر الرؤساء وكالة المخابرات المركزية بتغيير مسار التاريخ من خلال العمل السري. وكتب جيرالد ميللر ، الضابط المسئول حينها عن العمليات السرية في أوربا الغربية إن شن الحرب السياسية والنفسية في وقت السلم كان فناًً جديداً. فقد كانت بعض الأساليب معروفة من قبل، ولكنها كانت تفتقد إلى العقيدة والتجربة . غير أن العمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية، كانت بشكل عام مجرد طعنات عمياء في الظلام. فالسبيل الوحيد الذي كان متاحاً أمام الوكالة هو أن تتعلم من خلال الممارسة، وارتكاب الأخطاء في المعركة. ثم قامت الوكالة حينها بإخفاء إخفاقاتها في الخارج، وكذبت على الرئيسين إيزنهاور و كينيدي . فقد ساقت تلك الأكاذيب لكي تحافظ على مواقعها في واشنطن. غير أن الحقيقة، على حد قول دون غريغ ، وهو رئيس محطة محنك في الحرب الباردة، هي أن الوكالة في أوج عظمتها كانت تتمتع بسمعة عظيمة وسجل فظيع. وكما فعل الجمهور الأمريكي، خاطرت الوكالة باختيار الجانب المخالف أثناء الحرب في فيتنام. وكما فعلت الصحافة، اكتشفت أن تقاريرها سيتم رفضها ما لم تكن ملائمة للتصورات المسبقة للرؤساء. فقد تعرضت الوكالة إلى التوبيخ والاحتقار من قبل الرؤساء جونسون و نيكسون و فورد و كارتر . ولا أحد من هؤلاء كان يفهم كيفية عمل الوكالة. ويقول ريتشارد كير ، وهو نائب سابق لمدير وكالة المخابرات المركزية أن الرؤساء قد جاؤوا إلى كرسي الرئاسة وهم يتوقعون أن المخابرات يمكن أن تحل أي مشكلة قد تواجههم، أو أنها لا يمكن أن تفعل أي شيء صحيح، ثم انتقلوا إلى الرؤية المعاكسة. ثم هدؤوا وظلوا يتأرجحون من رؤية إلى أخرى . ولكي تبقى الوكالة كمؤسسة في واشنطن، كان عليها أن تكسب إذن الرئيس. ولكنها سرعان ما اكتشفت أنه من الخطورة بمكان أن تقول للرئيس ما لا يريد سماعه. وقد تعلم محللو الوكالة أن يسيروا بإيقاع موحد بما يتوافق مع الحكمة التقليدية. لقد أساؤوا فهم نوايا وقدرات أعدائنا، وأخطئوا في حساباتهم عن الشيوعية، وأساؤوا تقدير حجم التهديد الذي كان يمثله الإرهاب. لقد كان الدور الأهم للوكالة إبان الحرب الباردة هو سرقة أسرار السوفيت من خلال تجنيد الجواسيس، غير أنها لم تكن قط تملك ولو شخصا واحدا يتمتع برؤية عميقة عما كان يدور في الكرملين. وعدد الجواسيس السوفييت الذين كانت لديهم معلومات هامة للكشف عنها- وكل هؤلاء كانوا متطوعين، ولم يتم تجنيدهم- إلا بما يمكن أن يعد على أصابع اليدين. وجميعهم ماتوا، أو قبضت عليهم موسكو وقامت بإعدامهم. وكلهم جميعاً قد غدر بهم ضباط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فرع الاتحاد السوفيتي الذين كانوا يعملون لحساب الطرف الآخر، في عهد الرئيسيين ريغان و جورج بوش الأب. وفي عهد الرئيس ريغان بدأت الوكالة في تنفيذ مهمات في العالم الثالث أساءت فهمها، حيث قامت ببيع الأسلحة إلى الحرس الثوري الإيراني لتمويل حرب في أمريكا الوسطى، منتهكة القانون ومهدرة ما بقي لديها من مصداقية. والأشد سوءاً من ذلك، أنها فشلت في استغلال الضعف الشديد الذي كان يعاني منه عدوها الرئيسي. فقد اعتمد على الأجهزة، لا على الرجال، لفهم الطرف الآخر. وعندما وسعت تكنولوجيا التجسس آفاقها، أصبحت رؤية الوكالة تعاني من القصور أكثر فأكثر. فقد ساعدتها الأقمار الصناعية للتجسس على حساب عدد أسلحة السوفيت. غير أنها لم تقدم لها المعلومات الخطيرة بأن الشيوعية على وشك الانهيار. حيث أن أوائل الخبراء في الوكالة لم يروا العدو قط، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد أمدت الوكالة بضخ مليارات الدولارات من الأسلحة إلى أفغانستان للمساعدة في محاربة قوات الجيش الأحمر المحتلة. لقد كان ذلك نجاحاً باهراً. ولكنها فشلت في إدراك أن المحاربين الإسلاميين الذين تدعمهم، سرعان ما سيتجهون إلى الولاياتالمتحدة، وعندما تحقق هذا الفهم، لم تنجح الوكالة في أن تفعل شيئاً. وقد كان ذلك فشلاً تاريخياً. إن وحدة الهدف التي أبقت على تماسك الوكالة أثناء الحرب الباردة، انحلت في التسعينيات في عهد الرئيس كلينتون . وكان لا يزال لدى الوكالة رجال يستميتون لفهم العالم، ولكن مناصبهم كانت متدنية للغاية. وكان لا يزال هنالك ضباط موهوبون نذروا أنفسهم لخدمة الولاياتالمتحدة في الخارج، ولكن عددهم كان قليلاً جداً. ومكتب التحقيقات الفيدرالي كان لديه عدد من العملاء في نيويورك أكبر من عدد عملاء الوكالة في الخارج. وبحلول نهاية القرن الماضي، لم تعد الوكالة جهازاً مستقلاً للمخابرات يعمل بشكل كامل. فقد أصبحت مكتباً ثانياً في المستوى الميداني يتبع للبنتاغون، للتخطيط لأساليب المعارك التي لم تأت أبداً، وليس لوضع الاستراتيجيات للصراع في المستقبل. لقد كانت أضعف بكثير من أن تتصدى لمنع حدوث واقعة بيرل هاربر أخرى. وبعد وقوع الهجمات في نيويوركوواشنطن، أرسلت الوكالة فريقاً صغيراً من الكوادر المؤهلة في العمليات السرية إلى أفغانستان وباكستان لتعقب قادة تنظيم القاعدة. ثم خسرت بعد ذلك دورها كمصدر موثوق به للمعلومات السرية عندما سلمت البيت الأبيض تقارير مزيفة عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق. لقد قدمت طناً من التقارير اعتماداً على بضعة غرامات من المعلومات الاستخبارية. والرئيس جورج بوش الابن قام بدوره هو وإدارته بإساءة استغلال الوكالة التي كان يديرها والده ذات يوم بكل فخر، حيث قام بتحويلها إلى جهاز لقوات الشرطة شبه العسكرية في الخارج، ومجرد بيروقراطية مشلولة في مقرها الرئيسي. وفي عام 2004، نطق بوش عرضاً بحكم الإعدام السياسي على الوكالة عندما قال إن الوكالة كانت تخمن فقط حول مسار الحرب في العراق. ولم يقم أي رئيس من قبل بنبذ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتلك الطريقة. وقد انتهت أهميتها المركزية في الحكومة الأمريكية مع حل مكتب مدير المخابرات المركزية في عام 2005. والآن لابد من إعادة بناء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إذا أريد لها البقاء. وهذه المهمة تحتاج إلى سنوات عديدة. إن تحدي فهم العالم بطريقة صحيحة كما هو، يشمل ثلاثة أجيال من ضباط الوكالة. فالقليل جداً من الجيل الجديد يدرك تعقيدات العالم الخارجي، وعدد أقل منهم يفهم الثقافة السياسية لواشنطن. وبالمقابل جميع الرؤساء رئيس، وجميع دورات الكونغرس تقريباً، وكذلك جميع مدراء وكالة المخابرات المركزية منذ الستينيات، أثبتوا جميعاً أنهم عاجزون عن فهم طبيعة عمل الوكالة. وأغلبهم ترك الوكالة في حال أسوأ من التي وجدوها فيها. وقد سلمت إخفاقاتهم للأجيال المستقبلية، وفي كلمات الرئيس إيزنهاور ، تراث من رماد . معنى أننا قد عدنا إلى حيث بدأنا قبل ستين عاماً، إلى حالة من الفوضى. كتاب تراث من رماد يسعى ليبين كيف أن الولاياتالمتحدة الآن تفتقر إلى المخابرات التي ستحتاج إليها في السنوات لقادمة. وهو مستمد من الأقوال والأفكار والأفعال، الواردة في سجلات مؤسسة الأمن القومي الأمريكي. حيث أنهم يقومون بتسجيل كل ما قاله القادة الأمريكيون فعلاً، وما أرادوه فعلاً، وما فعلوه فعلاً عندما خططوا لإرسال قوات إلى الخارج. كما استند هذا الكتاب إلى قراءتي لأكثر من خمسين ألف وثيقة، ابتداءً من أرشيفات وكالة المخابرات المركزية، والبيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأمريكية، وأكثر من ألفي رواية شفهية للتاريخ من ضباط المخابرات، والجنود، والدبلوماسيين الأمريكيين، وأكثر من ثلاثمائة مقابلة أجريت منذ العام 1987 مع ضباط ومتطوعين في الوكالة، بينهم عشرة مدراء لوكالة المخابرات المركزية. وهنالك الكثير من التعليقات الختامية. يعتمد هذا الكتاب على الوثائق والسجلات؛ وليس على مصادر مجهولة، ولا اقتباسات عمياء، ولا إشاعات. وهو أول كتاب يتناول تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، تم جمعه من التقارير المباشرة والوثائق الأساسية. وبطبيعته المنافية للكمال: لا يستطيع أي رئيس، ولا أي مدير للوكالة، وقطعاً أي شخص بعيد عن الوكالة، أن يعرف كل شيء عن الوكالة. وإن ما كتبته أنا في هذا الكتاب لا يمثل كل الحقيقة، ولكن حسب إمكانياتي، هو الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. أتمنى أن يكون هذا الكتاب بمثابة ناقوس للخطر. فليست هنالك إمبراطورية في التاريخ عاشت أكثر من ثلاثمائة عام، وهذه الدولة قد لا تستطيع أن تتحمل تبعات أن تبقى دولة عظمى، ما لم تجد العيون التي ترى بها الأمور على حقيقتها في العالم. لقد كانت تلك مهمة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في يوم من الأيام. تيم وينير