نحن لا نستوعب معنى فصل السلطاتفالمخابرات والقائد وعيون السلطة تلتهم الوطن بكل سلطاتها مثل فطيرة محشوة بالزبيب عندما يُسلَّم المهاجر إلى كندا بطاقة الجنسية وورقة التهنئة يُدفع في يده جنباً إلى جنب مرسوم الحريات والحقوق الكندي (CANADIAN CHARTER FOR FREEDOMS AND RIGHTS) الذي يتضمن حقوقه وواجباته كمواطن ينتسب إلى العالم الجديد؟ وأهم ما في هذه الوثيقة حرية «الاعتقاد» و«التعبير» و«الاجتماع» سلمياً، فيعتنق أو يترك الدين الذي يشاء، وأعرف من مونتريال من يبدل دينه كل ستة أشهر، منتقلا من البوذية إلى الإسلام إلى المسيحية فالبوذية من جديد، ليفكر في الإسلام مرة أخرى! ومن يبدل دينه في كندا ينطق بدون خوف من الجواسيس والتقارير السرية والمخابرات العسكرية والفلق والحبوس! ويحق له أن ينشئ الأحزاب بتشجيع وترخيص ودعم من الحكومة من مرافق ومركز وتسجيل وما شابه! كما يحق له أن يعترض في مظاهرات صاخبة مع أو ضد، في شاهد قوي على انطلاق مارد الحرية من قمقم الاستبداد، في مجتمع يرى أن الحرية للجميع بمن فيه من يطلق عليهم «أعداء الشعب؟»! لأن الحرية لكل الناس اتفقنا معهم أو اختلفنا، فيتمتع بها الجميع عسلاً سائغاً للشاربين، ويحظر فقط «استخدام القوة» لفرض الآراء، فمن يستطيع إقناع الناس وكسبهم فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر! لن تبنى ديمقراطية مع «العنف»، ومؤشر السلامة في المجتمع اتفاق جميع الفرقاء على إلقاء السلاح وإطلاق الفكر، فلا تؤلَّه القوة! أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون.. أتبنون بكل ريع آية تعبثون.. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون.. وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.. ولكن لماذا ننتمي نحن إلى العالم القديم، وتسمى أوربا وكندا العالم الأول؟ إن الغرب دفع ثمن الرحلة غالياً، حتى وصل إلى شاطئ الديمقراطية وساحل القانون. نحن لا نستوعب معنى فصل السلطات! فالمخابرات والقائد وعيون السلطة تلتهم الوطن بكل سلطاتها مثل فطيرة محشوة بالزبيب!! نحن نعيش حالة الطوارئ ولا نعرف ذلك! ولا نعرف أنها مؤسسة عريقة منذ أيام يزيد والحجاج!! نحن نعيش خارج القانون ولا ندري ما هو القانون وكيف نطالب بتطبيقه! نحن نستورد السيارات والطيارات، وموتورات الدييزل، والمجالس النيابية ولكننا لا نستطيع إنتاج السيارات، ولا صيانة مضخات الماء، ولا إيجاد حياة نيابية إلا على شكل كاريكاتور بدون حياة وبدون نيابة، في قصة مترجمة يرويها أخرس عن ناطق مهمته الكلام! نحن نحاكم ونحكم على رئيس تحرير جريدة بالحبس، لأنه انتقد وضعا، وتلفيق التهمة أسهل من لف سندويشة فلافل! ولكن المغفلين لا يعلمون أنهم يخدمونه أكثر مما يضرونه، فليس أفضل من نشر الأفكار وترويجها من منعها وحرمانها وتأبيدها.. لا بد من حرية التعبير، وبدون حدود، وعلى إطلاقه، ضمن قاعدتي السلام والاحترام، وإذا نطق من نظن أنه يقول حراماً وممنوعاً فيمكن أن نرد عليه لا أن نخرِّسه ونصلبه ونشوه سمعته ونطرده من مجالسنا بتهمة الردة! وإلا أصابنا الخرس أجمعين! وهو على كل حال داء دوي، نعاني منه منذ ألف عام، فإذا نطقنا وجب أن نهمس فنقول كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً ولا ينبه مراقبا وشرطيا، في محافظة مثالية على الشخير والنوم العام!! بالتعبير تظهر وجهات النظر، فتتزاوج، وتتناقض، وتتوالد، وتتكاثر، سنة الله في خلقه. ولكننا نريد مواطناً أخرس أصمّ أعرج أعور، يفكر عنه آخرون بالوكالة، معلنين الوصاية على عقله، في شهادة صاعقة على أنه قاصر! وبحرية التعبير تطفو الأفكار الخاطئة، فتخضع للتمحيص والنقد، للتهميش أو الترسيخ، أما المطاردة فتدفع الأفكار إلى الانزواء في الجبال، وكثرة انتشار الإثنيات، في منطقة بعينها، ضمن شرانق محنطة، سببها الجغرافيا، أمثال الدروز والعلويين وعباد الشيطان في جبل سنجار، كي يحصل الانتقام الخفي في لون دون آخر.. فمع أن مصر كانت فاطمية لفترة قرنين، وصُمِّم الأزهر للدعوة إليها، فليس على ظهرها اليوم فاطمي واحد!! والأزهر يبشر بكل شيء إلا الدعوة الفاطمية لسبب جغرافي بحت، لأن الناس لا يمكنها أن تعيش إلا بجانب النيل، تختلط وتتبادل الأفكار والبضائع، وما عدا ذلك ليست إلا صحاري للدفن، كما دفن موسى جيل الاستبداد في رحلة التيه! ويحدثنا التاريخ عن أن كثيرا من الدعوات، وأمام ضغط هذه الحقيقة، لم تكن لتحافظ على نفسها، إلا بالانتقال إلى مكان آخر، تعيش في صدفة حلزونية، من الانزواء والتقوقع في رؤوس الجبال، ومنافي الصحراء، كما في الأباضية والطوارق والإسكيمو واليهود، وبذلك تفسر الجغرافيا أسرار انتشار الدعوات وتغلغل الطوائف والأديان. يجب أن نؤسس لمجتمع إنساني منفتح فنضع القواعد التالية: - تفكير بدون حدود... - وتعبير بدون قيود... - وكتابة وطباعة بدون رقابة... - مع إلغاء جيوش المخابرات السرية، ونظام التجسس على المواطن، فلا يؤاخذ على شيء إلا بذنب جناه، وبدليل مادي، مع توفير ضمانات الدفاع عنه، وليس لتقرير كتبه مخبر سري في جنح الظلام، فيوضع على الخازوق العصملي! ولكن كلماتي هذه لا قيمة لها، وهي أشبه بالمواعظ الأخلاقية، جميل أن تلقى وتكتب وتنشر، وقد تنفس عنا شيئاً من مشاعرنا البئيسة المكبوتة، ولكن السؤال المصيري: كيف نصل إلى تغيير هذه الأوضاع؟ فينطق المواطن بدون خوف ويعبر بدون وجل ويتظاهر ويجتمع بدون رعشة!! صديق لي تظاهر من أجل غزة في بلد خليجي، فحبس، لأنه قام ببدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!! يأمرنا القرآن بثلاث وصايا من «حسن الظن» وأن «لا نغتاب» و«عدم التجسس» ونحن نعمل ضدها بحرص ودأب، فلا نحسن الظن بالإنسان، ونظلم النبات والحيوان، والأصل عندنا أن الإنسان متهم حتى تثبت براءته، ونملأ القوائم السوداء من المطلوبين على الحدود! في الداخلية في دمشق، دخلت مكتبا فرأيت 64 درجا بعمق نصف متر، في كل درج الآلاف من أسماء المطلوبين والملعونين والمبعدين وغير المصرح لهم بمغادرة جهنم البعث!! إننا نغتاب الآخر بأنه رجعي أو ملحد، وننشئ أنظمة أمنية تجسسية بحجم الديناصورات اللاحمة، التي أصبحت خطرا حتى على نفسها والحاكم بشبكة أوسع من الأنترنيت، وبدقة عمل أكثر من وكالة ناسا لارتياد الفضاء والرسو على ظهر المريخ وبلوتو، في وطن لا تعمل فيه الخدمات العامة، يعيش حالة الطوارئ حتى يوم الزلزلة!! وما أدراك ما هي!! إن النظام البيزنطي الذي طوَّره البيت الأموي قد انهار على سكانه، وتحولت عملية اعتلاء كرسي السلطة، جلوساً على كرسي الإعدام بالكهرباء. ومنذ أيام العباسيين، نرى خادما مثل «يونس» يمتلك من مفاتيح القوة ما يقتل به الخليفة المقتدر، فيُحمل إليه رأسه، أي الخادم يونس، كما ينقل المسعودي فيبكي ويلطم! وانتهاءً بالاتحاد السوفياتي، الذي اضطر مرغماً إلى أن يفكك جهاز الرعب، الذي طوَّره بعد أن أرسل من أنشؤوه وعائلاتهم إلى معسكرات الاعتقال، مثل زوجة مولوتوف، وزير الخارجية أيام ستالين، وهو لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا ولا فرجا وإفراجا عن أم أولاده!! وكما يقول المثل العربي سمِّن كلبك يأكلك. وبعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989م، تبين أن نظام الاستخبارات في ألمانياالشرقية كان قد وضع عشرين ألف غرفة تنصت على المواطنين، وكون إضبارة أمنية لكل مواطن، مثل ملائكة العذاب، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، بما فيها قوارير رائحة الملابس المعتقة!! وفي عام 1999 م، استطاع المجتمع الأمريكي أن يضع أكبر شخصية سياسية تحت المساءلة كلينتون في حكاية تروي عن أمة عظيمة تنجب رؤساء وتحاكمهم وتبدلهم وتستغني عن خدماتهم فلا يعودون، كما نبذت بوش سيئ الذكر واستبدلته برأس أسود! وهي رواية عن أمة ودود ولود لعبقريات لا تنتهي؟ أما عندنا فعقارب الساعة إلى الوراء، وتنقلب الجمهوريات إلى جملوكيات (هبريد من جمهورية ملكية لا تسر الناظرين). وفي الوقت الذي يودع فيه العالم وراثة الملك والحكم الفردي، نبدأ نحن في محاولة شحن الحياة، في جثث ماتت منذ قرون، كمن يفترض فيه أن يدخل الجامعة فيدخل مدارس محو الأمية! هل لا توجد عندنا حرية تعبير؟ أم إنه لا يوجد عندنا ما نعبر عنه؟ هل هناك عائق أمام انتشار الكلمة فهي محاصرة لا يسمح لها بالتجول؟ أم إنها تمارس عملية انتحار داخلي؟ أما السياسيون فيقولون إنه لا توجد حرية تعبير بسبب استبداد الحاكم!! ولكن هل المعارضة ستسمح للحاكم بالتعبير لو جلست محله؟ إن قوم موسى كانوا يستعجلون مثل هذا الأمر!! فقالوا له لم تتغير أوضاعنا، وكنا نتفاءل أن يصير الأمر إلينا (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فلم يتغير شيء والحالة هي هي!! كان جواب موسى أن الامتحان الأكبر، هو عندما تسقط تفاحة السلطة في أيديكم، هل ستتحولون إلى فرعون جديد بعباءة إسلامية؟ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟ لقد شنق وقبر صدام ولكن من رماده خرج ألف أو يزيدون!! إن إمكانية إيجاد مثقف يرى التغيير بدون أن يقعد في جيب الحاكم أو يتآمر عليه، أصبحت مهمة مستحيلة على ما يبدو... جاء في الإنجيل إذا فسد الملح فبماذا يملح؟ وإذا كان النور الذي فيك ظلاماً فكم يكون الظلام؟ جاء هشام بن عبد الملك إلى مكة معتمراً، فأدخل عليه طاووس اليماني، فخلع نعليه بحاشية بساطه، وتقدم فحياه باسمه فقال: كيف أنت يا هشام ثم جلس بجانبه! فغضب الخليفة الأموي حتى همَّ بقتله!! فنصحه ممن حوله بالتريث فهو في بيت الله العتيق!! فالتفت إليه هشام وقد امتقع وجهه من الغضب وقال له: ما حملك على ما صنعت؟؟ أجاب طاووس بهدوء: وما فعلت؟ قال خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تكنِّني (أبو الجماجم وأبو عنترة) ولم تقل لي يا أمير المؤمنين!! ثم جلست بإزائي قبل أن آذن لك بذلك!! فالتفت إليه طاووس ببراءة وقال: أما خلعي نعلي بحاشية بساطك، فإنني أخلعهما بين يدي رب العزة خمس مرات في اليوم ولا يغضب مني... وأما أنني لم أكنِّك، فإن الله كنَّى أعداءه، فقال تبت يدا أبي لهب وتب، ونادى أحباءه وأصفياءه من الأنبياء والصالحين فقال يا يحيى يا عيسى يا داوود... وأما أنني لم أقل لك يا أمير المؤمنين، فإنه ليس كل المؤمنين راضٍ بإمارتك، فخشيت أن أكون كاذباً... وأما أنني جلست بجانبك، فإني سمعت أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى رجل جالس والناس حوله قيام!! حينها، زلزل هشام ثم التفت إليه ضارعاً فقال يا طاووس عظني: قال سمعت أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب يقول: إن في جهنم حياتٍ وعقاربَ كالبغال، تلدغ من لا يعدل في رعيته... ثم قام وانصرف.