عندما يشجب الشعب المغربي ما وقع بالعيون في الآونة الأخيرة، فإنه لا ينكر عدالة المطالب الإجتماعية التي رفعتها بعض العائلات الصحراوية بالمنطقة، إنّما يستنكر، وبشدّة، محاولة الزّج بمطالب عادية في أتون و متاهات نزعة إنفصالية ضيقة. فالشعب المغربي كما عهده التاريخ يأبى إلا أن يعضّ بالنواجذ على لحمته الوطنية ووحدته الترابية... ولذلك ظل دائما يقف بالمرصاد في وجه كل من سوّلت له نفسه تفكيك الوطن وتمزيقه إلى كيانات دولتية صغيرة. وكما جاء في كتاب «Manuel élémentaire de droit international public» لصاحبه جورج سيل، فإن "حقّ مجموعة في الإنفصال يصطدم مباشرة بحق أهمّ، وهو حق باقي السكان في الإستقرار وتكوين أمة والعيش المشترك"، بل والأكثر من ذلك، فإن هذا "الحق" يمسّ في صميم استقرار البلد الأمّ وسيادته الوطنية. وفي هذا الإطار فقط ، يمكن فهم سرّ الغيرة الوطنية الحسّاسة لدى المغاربة قاطبة كلّما لاح في الأفق أو طفا على السّطح كل ما من شأنه أن يهدّد مصير هذه اللحمة أو تلك الوحدة؛ من قبيل الأطراف التي تنادي ب"تقرير المصير"(الجنوب) أو تلك التي تدعو إلى"الحكم الذاتي" ( الشمال)، وما يشايع هذا وذاك طبعا من أطروحات شوفينية بئيسة تزعم أنها تمتح من معين النظرية الإشتراكية. هذا المقال، لا تهمّه حيثيات الحدث الذي وقع ولا العوامل المباشرة التي ساهمت في تفجير الوضع بالمنطقة، بقدرما يهدف إلى التذكير بأن الأحداث الأليمة التي عرفتها العيون قد منحت، مرة أخرى، فرصة خصبة لإنتعاش خصوم الوحدة الترابية. وهذا المبتغى لا أودّ الوقوف عنده إلا من جانب حروب الدعاية التي ما لبثت تشنها أبواق اللوبيات المتحكمة في خيوط اللعبة الجارية بالصحراء المغربية. في مفهوم حرب الدعاية : يمكن اعتبار الدعاية بمثابة عمل يمارس على الرأي العام لدفعه نحو دعم حكومة أو سياسة معينة، أو الإطاحة بها، أو من أجل تقبل أفكار سياسية أواجتماعية (1). وفي هذا الإطار، يقدّم لنا كتاب " الدعاية السياسية والعقل العام Propaganda and the Public Mind " للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، أهم دراسة علمية تشريحية لمفهوم الدعاية. حيث تكمن أهم أهداف الخطاب الدعائي حسب الدراسة في قولبة العقول وتطويع النفوس وصناعة الرأي العام أو بتعبير تشومسكي " تصنيع الإجماع " مع أو ضد فكرة أو قضية معينة. وبغض النظر عن ظهور ونشأة هذا المفهوم، فإن خطورته كأداة للسياسة الخارجية تتعاظم عندما تصبح كما يقول " هانزمور جنتاو ": ليست فقط صراعا بين الخير والشر أو بين الحقيقة والخطأ وإنما صراعا بين السلطان والسلطان. (2). وحرب الدعاية في حقيقتها العلمية تبقى ضرب من ضروب التدخل بالوسائل غير العسكرية في الشؤون الداخلية للدول. وبهذا الصدد، يقول الباحث تاج الدين الحسيني في كتابه " المجتمع الدولي وحق التدخل " إن الأمر يتعلق بالتدخل الهدام الذي يعتبر الشكل النموذجي للتدخل اللامشروع، كما أكّدت ذلك مواقف عصبة الأمم وفيما بعد قرارات الأممالمتحدة. (3). وعلى مستوى الإستراتيجيات الدعائية، يمكن أن نميّز بين نوعين من الإستراتيجيات. الإستراتيجية الموضوعية أو استراتيجية الحقيقة Strategy of truthواستراتيجية الكذبة الكبرى Strategy of big lie. فالنوع الأول يقوم على تقديم معلومات صحيحة ويساعد على تصحيح الأنباء المشكوك فيها والأخبار المغلوطة. بينما ينبني النوع الثاني على تحريف أو تشويه المادة الإعلامية من أجل التلاعب بالرأي العام الموجه نحوه الدعاية. (4) وتجدر الإشارة في الأخير، إلى أن التدخل في الشؤون الداخلية للدولة عن طريق الدعاية في عالم اليوم، ما فتئ نطاقه يتوسع بحكم التداخل المعقد القائم بين المجال «الوطني» والمجال «الدولي» على مستوى العديد من الأسئلة الكبرى المطروحة راهنا، والقضايا التي أصبحت تكتسي تدريجيا أبعادا دولية. أحداث العيون والإعلام الدولي (الإسباني بالخصوص) : قبل التطرق إلى الفضيحة الإعلامية التي وقع فيها الإعلام الأجنبي بصدد تعامله مع أحداث العيون الأخيرة، أحبّذ هنا أن أستحضر بعجالة قضية " أميناتو حيدار" وقضية " مصطفى ولد سلمى " وكيف تعاملت معهما وسائل الإعلام الأجنبية، خاصة الحملات الدعائية المكشوفة التي قام بها إعلام الدول المجاورة. ف « عندما قامت أميناتو حيدار بإضرابها عن الطعام في مطار " لا نزاروتي" أقام البرلمان الإسباني الدنيا ولم يقعدها وذهب إلى حد مطالبة الإتحاد الأوربي بمراجعة الوضع المتقدم الذي منح للمغرب بدعوى إخلال الرباط بحقوق الإنسان في قضية أميناتو، مع العلم أن مشكلة أميناتو لم تكن حقوقية وإنما كانت قانونية صرفة. إذ تحدّت الإجراءات الإدارية والمساطير القانونية الجاري بها العمل في دخول ومغادرة التراب الوطني. بل وتجرأت على عدم الإعتراف بالمغرب رغم أنها تسافر عبر العالم بجواز سفره (5). كما أن الصحف الإسبانية، خاصة " الباييس " و " إلموندو " دبّجت المئات من المقالات تدين فيها التضييق على حرية الرأي والتعبير ما دام الأمر يتعلق بالمحاماة والدفاع عن أطروحات انفصالية ! وفي قضية ولد سلمى، دأب " مكتب وكالة الأنباء الفرنسية في العاصمة الجزائرية على تقديم هذا الرجل على شكل خائن وجاسوس ومتآمر يستحق المثول أمام القضاء"(6) لكن الإعلام الإسباني، هذه المرّة، لم يصدر أيّ مقال أو تضامن أو تعاطف بشأن حرية التعبير والرأي وحرية الصحافة في التنقل، بل أكثر من ذلك لم تنقل الصحافة الإسبانية حتى الخبر بشكل عام (7). ونفس الشئ يحدث الآن بعد أحداث العيون الأخيرة، حيث ما زالت العقلية الإستعمارية تحشر أنفها عبر آلتها الدعائية في شؤون المغرب الداخلية، وتشن على هذا الأخير عدوانا معنويا خطيرا يستهدف تشويه سمعته أمام الرأي العام الوطني والأوساط الدولية. وهنا، "تكفي قراءة مختلف الصحف الأوربية، ليس فقط الإسبانية بل الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنتقال إلى صحف أمريكا اللاتينية وكبريات الوكالات والقنوات الإذاعية وتقوم بتحليل خطابها السياسي الدعائي لتقف على نوعية المصطلحات الجارحة المستعملة في حق المغرب، والتي يمكن تلخيصها في نعته ووصفه ب " القوة الإستعمارية " (8). كما أوردت عدد من الصحف الإسبانية، ومن بينها "البيريُودِيكُو"، بأنّ الناشطة الإسبانية إزابيل تيراثا و الناشط المكسيكي أنطونيو فيلاثكيز قد عرضا ما أسمته "شهادة تظهر تعرض المدنيين الصحراويين بمخيم أكديم إيزيك لإبادة جماعية على يد قوات الجيش المغربي"(9). وهذا التحيّز الدعائي للوجهة الإنفصالية، يمكن أن نلمسه أكثر عندما نستجلي الدلالات الثاوية فيما قامت به " قناة أنتينا تريس" الإسبانية من نشر لصور مغلوطة عن أحداث العيون تتضمن تمويه الحقيقة أمام الرأي العام الوطني وخاصة الدولي، وذلك من خلال إساءة - مع سبق الإصرار والترصد- إلى صورة المغرب في صراعه ضد الجزائر وصنيعته البوليساريو.. بالإضافة إلى ما تحمله هذه الرسالة الإعلامية الدعائية من تحريض واضح على الفتنة والبلبلة خدمة لأجندة معروفة. وبموازاة مع ذلك، " خرجت النخبة الإسبانية عن بكرة أبيها بيمينها ويسارها إلى شارع العاصمة للضغط على حكومة ثباتيرو الضعيفة (10) وهي ترفع شعارات مناوئة للدولة المغربية، كما أقدمت بالمناسبة على حرق علم البلاد وصور لرموزه الوطنية. هذا، ناهيكم عن التصريحات العنصرية المعهودة لزعيم الحزب الشعبي ووزيرة الشؤون الخارجية المناقضة لأدنى أعراف "الود" و "الجوار" التي يجب أن تحكم علاقة إسبانيا بجارتها الجنوبية. ملاحظات لا بد منها أ - إذا كان الإعلام الإسباني قد وقع في زلات مهنية فاحشة واقترف أخطاء خطيرة في حق المغرب، فليتذكر، على الأقل، توصيات المؤتمر 27 لصحفيي منطقة جبل طارق بإشبيلية، التي ألحّت على دعوة وسائل الإعلام الإسبانية إلى الإلتزام بمزيد من الحياد والموضوعية في التعامل مع المغرب وقضاياه الوطنية. وليتعظ بما توصي به، بهذا الصدد، منظمات الإعلام الدولية وخاصة الفيدرالية الدولية للصحافة. ب- إذا كانت الجهات الرسمية وغير الرسمية للدول المجاورة تدعي أنها ديموقراطية، فلتحترم، على الأقل، ما جاء في مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول الذي أعدته " لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة" والذي ينص، من بين ما ينص عليه، على واجب الإمتناع عن إثارة الإضطرابات الداخلية وإذكاء روح التمردات والقلاقل ضد الحكومات الشرعية. ج- إذا كانت الفضائيات والصحف الإسبانية تتذرع بحرية الرأي والتعبير لتبرّر مناصرتها لمعسكر الإنفصال، فلتراجع- لعلّ المراجعة تنفعها- ما جاء في ديباجة اتفاقية حرية الإعلام التي نبّهت إلى ما يمثله نشر المعلومات المغلوطة من خطر على صون العلاقات الودية بين الشعوب وعلى وقاية السلام، وما اعتمدته بهذا الصدد من تدابير هادفة إلى مكافحة بث المعلومات الكاذبة أو المحرفة. ولتضع نصب أعينها ما يستتبعه ذلك من مسؤولية مهنية وعقوبات جزائية. د- ليعلم صحفيو الجارة الشمالية أن ما تقوم به منابرهم الإعلامية من أنشطة الدعاية الهدامة،إنما هو عمل لا مشروع من وجهة نظر المشروعية القانونية والشرعية الدولية... و للتذكير هنا، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت وبالإجماع قرارا في 3نونبر من سنة 1947 يندّد بجميع أنواع الدعاية التي تزعزع الإستقرار وتزرع البلبلة وتثير الفتن، خاصة الدعاية المؤثرة على السلام أو تلك التي تحث على العدوان. ه - إذا كان الإعلام الإسباني قد بلغ به الطيش المهني كل هذه الدرجة، فعلى الطرف المتضرر (المغرب) أن لا يبقى مكتوف الأيدي ما دامت اتفاقية الحق الدولي للتصحيح ( اتفاقية أصدرتها الجمعية العامة سنة 1952 وأصبحت نافذة منذ 1962 ) تضمن له كافة الوسائل و السبل القانونية للطلب بتصحيح المعلومات الكاذبة التي روجها هذا " الإعلام " ضده في الآونة الأخيرة (11). وأخيرا، إذا كانت إسبانيا تضغط على المغرب من أجل دفعه إلى تجديد عاجل لإتفاقية الصيد البحري، فهذا يبقى سعيا مشروعا إلى حد ما، أما أن تسعى إلى تحقيق ذلك بوسائل غير مشروعة، فهذا أمر يستدعي التحلي باليقظة اللازمة ويدعو أكثر مما مضى إلى تفعيل قوة الديبلوماسية المغربية ليس فقط الرسمية منها، وإنما كل أشكال الديبلوماسية المتعددة المسارات (Multi-track Diplomacy) (12)، و ذلك من أجل تحطيم جميع الرهانات النيوكولونيالية المحدقة بمغربنا المستقل وسيادته الوطنية. ***** الهوامش 1 – د.تاج الدين الحسيني "المجتمع الدولي و حق التدخل" ص: 75. سلسلة المعرفة للجميع ع.18 يناير 2001 منشورات رمسيس. 2- انظر هانز مورجنتاو "السياسة بين الأمم" الجزء2 ص: 178 نقلا عن المرجع السابق. 3- المرجع السابق ص:76 . 4- المصدر׃ Http:// ocw.kfupm.edu.sa 5- جريدة المساء العدد 1250 الثلاثاء 28/09/2010 الصفحة الأخيرة. 6- نفسه. 7- جريدة الإتحاد الإشتراكي العدد 9615/ 16-10-2010 ص: 3. 8- جريدة أخبار اليوم ص: 6 العدد 293. 9- المصدر ׃ هسبريس 19/11/2010. 10- عبد الحميد البجوقي ص: 6 المرجع نفسه. 11-جاء في المادة الثانية من الإتفاقية ما يلي: Article2: - Recognizing that the professional responsabilty of correspondents and information agencies requires them to report facts without discrimination and in their proper context and thereby to promote respect for human rights and fundamental freedoms,to further international understanding and co-operation and to contribute to the maintenance of international peace and security. - The Contracting States agree that in cases where a Contracting State contends that a news dispatch capable of injuring its relations with other States or its national agencies of a Contracting or non-Contracting State and published or disseminated abroad is false or distorted, it may submit its version of the facts ( hereinafter called communique ) to the Contracting States within whose territories such dispatch has been published or disseminated. 12- مفهوم " الدبلوماسية متعددة المسارات" مأخوذ من كتاب د.سعيد الصديقي/ تدبير العلاقات الدولية المغربية-دور المؤسسة الملكية في صنع السياسة الخارجية من 1961 إلى 1999 ط ׃ 1 .