لم أصدق وأنا أسمع الصديق الأستاذ خالد الأشعري يدعوني إلى المشاركة في الاحتفاء بصدور كتاب جديد للأمين الخمليشي. أخيرا تزحزح الجبل... وتمخض ، فولد كتابا. والفضل في ذلك للأستاذ خالد، الذي لا يعادل حسدَنا له لأنه فجّر الماء من الصخر، إلا فرحُنا بهذه النتيجة التي يقدمها لنا اليوم. حاولنا نحن في مجموعة البحث أن نقنعه ولو بإصدار طبعة ثانية من ( اشتباكات ) على الأقل، فلم نظفر بشيء.... واكتفينا من الغنيمة بإقامة يوم دراسي حول تجربته القصصية. كنت أحس من قبلُ أن قصص الخمليشي مثلُ علل النحو تشم ولا تفرك، وأرى أن الأجدى ، بدل أن نشرحها بمشارط النقد، أن نقرأها فقط، ونستمتع بمجرد قراءتها، فلذلك خُلقت. لكنني انتبهت، وأنا أستمع إلى مداخلات هذا اليوم الدراسي، إلى بعض خصائص اللغة الخمليشية الفريدة: اقتصاد العبارة وبكارة الصورة وإحكام البناء مثلا غنى المرجعية النصوصية التي تحاور عيون الأدب العالمي أصالة المرجعية الاجتماعية التي تكشف أعماقنا الغائرة رحابة البعد الإنساني الذي يرفع نكهتنا المحلية الحرّيفة، من خلال الطفولة والطبيعة والألم، إلى أفق أسمى من الزمان والمكان والهويات........ تقترح علينا هذه اللغة أن نطور مقولة النفري الشهيرة: ( إذا اتسعت الرؤيا ضاقث العبارة ) إلى صيغة قصصية حديثة هي: ( إذا اتسعت الرؤيا دقت العبارة ). لأن عبارة الخمليشي لا تتصف بالضيق، أي قلة الكلمات، بقدر ما تتصف بالدقة، أي رشاقة الكلمات. فمن خلال التساذج الذكي والسخرية الشفوق والألم المرح والوصف الزمني... تتخلص اللغة من الترهل والغنائية والميلودراما لتتجه راقصة على أطراف الأنامل إلى الهدف. هل هناك هدف تتجه إليه كلمات الخمليشي؟ الغريب أنها لا تتجه إلا بعد أن تصل.. بعد أن تُقرأ. يقول هيمنجواي ناقلا عن مصادره: ( لا تسأل لمن يدق الجرس. إنه يدق لك أنت ). ونحن أيضا لا نسأل لمن يدق جرس الخمليشي . إنه ينعي لنا الغباء والادعاء والأيديولوجيا. ينعي لنا اليقين والتفاهة والسطحية والثقة الكسول. ينعي لنا الثقافة التي نحيا بها، يعلق في عنقها الجرس، ويدق جرس الباب على الثقافة الحديثة التي نحلم بها.